التفاسير

< >
عرض

وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
١٥٤
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ولمَّا سَكتَ عَن مُوسَى الغَضَب } أى سكن باعتذار هارون أو بتوبتهم أو بهما، شبه سكون الغضب بعد هيجانه بالسكوت بعد التكلم، بجامع أنه كلام بعد وجود وإمساك بعد شروع، فسمى السكون باسم السكوت، واشتق سكت بمعنى سكن على طريق الاستعارة التبعية التصريحية، أو شبه الغضب بإنسان متكلم يقول: قل لقومك كذا، وألقى الألواح وجرّ أخاك إليك برأسه ولحيته، ثم ترك القول، وذلك تشبيه مضمر على طريق الاستعارة المكنية والسكوت رمزاً واستعارة تخيلية، فعلى الوجه فقد جعل الغضب كالاغراء لموسى والأمر له بإسكان الميم، وعلى الثانى بقسميه جعل كالمغرى له، والأمر بالمد وكسر الميم، ولا يخفى ما فى ذلك من المبالغة والبلاغة، مع أن الاستعارة مطلقا مبنية على المبالغة بجعل المشبه من جنس المشبه به مبالغة وادعاء.
هذا ما ظهر لى فى الآية، ثم رأيت بعضه لجار الله، والقاضى، وشيخ الإسلام، والسكوت مصدر لسكت بمعنى ترك التكلم، ولسكت بمعنى سكن، وقال الزجاج: إن مصدر هذا سكت بفتح السين وإسكان الكاف، يقتضى أن سكت بمعنى سكن حقيقة وفعل على حدة، وقيل ذلك من القلب، أى سكت موسى عن الغضب، كقولك: أدخلت الخاتم فى أصبعى، والأصل أدخلت أصبعى في الخاتم، وحكاه بعضهم، وتوهم أنه لا استعارة فيه، وأنه حقيقة، وليس كذلك، بل هو من الاستعارة، فإن الغضب ليس مما يسكت عنه، وإنما يسكت عن الكلام، وقرئ: ولما سكت بالتشديد والبناء للمفعول، وفى مصحف حفصة: ولما أسكت بالهمزة والبناء للمفعول، وفى مصحف ابن مسعود: ولما صبر، وفاعل ذلك الله أو هارون باعتذاره، أو القوم بتوبته أو هما، قال النقاش: وفى مصحف أبىّ ولما اشتق عن موسى الغضب أى زال عنه، وقرأ معاوية بن قرة: ولما سكن، وليس فيهما المبالغة والبلاغة المذكورتان.
{ أخَذَ الألواحَ } ما كسر وما لم يكسر، وقال الإمام الرازي، هذا يدل على أن الألواح لم تكسر، ولم يرفع من التوراة شئ اهـ. المشهور أنه أنكسر بعضها كما مر ورفع ما فى المنكسر، وقيل: ذهب بالانكسار ولم يتبين { وفي نُسْختها } أى ما نسخ فيها، أى كتب كالخطبة بمعنى الألفاظ المخطوب بها، والضحكة بإسكان الحاء بمعنى الإنسان المضحوك عليه، ونسخ فيها من اللوح المحفوظ، وقيل: وفيما نسخ منها أو ينسخ، وذلك أنهم نسخوا ما فى الألواح المنكسرة وغيرها على القول بأن ما فى المنكسرة لم يرفع ولم يذهب، أو نسخوا ما فى غير المنكسرة على القول بالرفع، أو الذهاب، وعن ابن عباس: أنها انكسرت كلها فصام أربعين يوما فردت عليه فى لوحين فيهما ما كان فى كلها.
{ هُدًى } بيان للحق { ورحْمةٌ } إرشاد إلى ما يوجب الإنعام الدائم { للَّذينَ هُم لربِّهم } اللام لام التقوية، دخلت على مفعول الفعل من قوله: { يرْهبُون } أى يخافون لضعفه على العمل بتقدم مفعوله، هذا هو المختار، وعليه ابن هشام، ويجوز أن تكون تعليلية، فمفعول يرهب محذوف أى يرهبون المعاصى لأجل ربهم، أى لتعظيمه أو لعقابه، ولا يصح قول بعضهم: إن المعنى لأجل طاعة ربهم، أو خوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد، إلا إن أراد أن طاعة الله أو خوفه خوف إجلال كانت سببا لرهبتهم العقاب، ولو لم يطيعوه ولم يخافوه لقست قلوبهم فيغفلون عن العقاب، فلا يتصفون برهبته، ولا مانع من جمع الخوف خوف إجلال، والخوف خوف عقاب، وعن المبرد متعلق بمصدر، والتقدير: والذين رهبتهم لربهم، ومراده بالتعلق مجرد رجوع المعنى إلى ذلك المصدر، فإن المصدر مبتدأ ولربهم متعلق بمحذوف خبر له لا به.