التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٥٧
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الَّذين يتَّبعُون } نعت أو خبر لمحذوف، أو مفعول لمحذوف على المدح، أو مبتدأ خبره بأمرهم، أو بدل من الذين بدل كل أو بعض على حذف الرابط، أى الذين يتبعون منهم { الرَّسُولَ النَّبى الأمىَّ } إلخ وهذا منهم تعام وتغافل على العمد عن اشتراط التوحيد والإيمان بالآيات، فإن المراد الآيات كلها كما هو واضح فتشمل القرآن، ومن رد حرفا أو رسولا أشرك، ويجوز أن يكون المراد بوسع الرحمة لكل شىء أنها موجودة لكل أحد، ومن أتى بالإشراك أو بالكبائر فقد أبى منها بنفسه، والمراد بسعتها بسأكتبها الخ أنى أحضرها وأوفق إليها من سبق فى علمى أنه يتقى ويؤتى الزكاة، ويؤمن بآياتنا، ويتبع الرسول، فالرحمة رحمة الآخرة، وقد فسر بعضهم الرحمة بالتوبة.
وقيل: إن المراد الرحمة الدنيوية والأخروية، وإن المراد بكل شىء متأهل لها وهم المؤمنون، وإنما أصابت الكافر فى الدنيا تبعا، وتتمحض الرحمة للمؤمنين فى الآخرة كما قال: { فسأكتبها } الخ وهو قول مقبول، والنبوة الوحى بشرع، و الرسالة فى البشر من الله الوحى به مع الأمر بتبليغه، فالرسول أخص من النبى، وقدم مع أن الصفة العامة تقدم على الخاصة، لأن تقديمها غالب، ولأن محله ما إذا لم يكن فى تقديم الخاصة نكتة، وهى هنا الاهتمام بأمر الرسالة باعتبار المخاطبين، أو اعتبر فى جانب رسالته كونها من الله، وفى جانب نبوته كونها للعبادة فأخرت فقدمت، ولتقدم معنى النبوة قال صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب حين قال: آمنت بكتابك الذى أنزلت، وبرسولك الذى أرسلت:
"قل وبنبيك الذي أرسلت" وليسلم من التكرار.
والنبى مأخوذ من النبأ وهو الخبر، لأنه مخبر عن الله، ومخبر للخلق، وذلك أنه يخبر ولو لم يؤمر بالإخبار رغبة فى الدين، أو من النبوة وهى الرفعة، وقيل: لما كان طريقا إلى رحمة الله سمى بالنبى الذى هو الطريق، يقال ساد فى النبى أى فى الطريق، ويقال أيضا: النبى بتشديد الياء ولا همزة بعدها، قلبت الهمزة ياء وأدغمت فيها الياء، أو هو من النبوة بالواو، وقلبت ياء وأدغمت فيها الياء، قيل: روى النهى عن هذا التخفيف بالقلب والإدغام والأمر بالهمزة.
والأمى نسب إلى الأم أى هو كما خرج من أمه لا يدرى كتابة ولا قراءة ولا حسابا، وذلك إكمال لإعجازه، حيث أتى بكلام لا يساوى ولا يتغير، مع أنه لا يدرى ذلك، وما اشتغل على معلم، فلو درى بذلك لقيل كتبه عن غيره، أو قرأه من كتاب، وفى الحديث:
"نحن أمة أمية" وذلك أن الأمة العربية لا يكتبون ولا يقرءون الكتابة، ثم حدث فيهم ذلك، أو نسب إلى امة العرب فإنهم لا يكتبون ولا يقرءون، ويحتمله الحديث، وقيل: إلى أم القرى وهى مكة، وقرأ بعض بفتح الهمزة إلى الأم وهو القصد، فإنه صلى الله عليه وسلم مقصود فى أمر الدين، قال أبو الفتح: أو إلى الأم بالضم فهو من تغيير النسب، وذلك الكلام إن كان مفعولا لموسى فيمن معه من بنى إسرائيل ومن بعده، فالمراد باتباعه اعتقاد أنه رسول سيجئ، وأن ما يقول حق، ولا يشكل على ذلك قوله سبحانه وتعالى:
{ الَّذى يجدُونَ مكْتوباً عنْدَهم فى التَّوراة والإنْجيلِ } فإنه على التوزيع، فأهل الإنجيل يجدونه فى الإنجيل فى زمانهم، وأهل التوراة فى التوراة فكأنه قال: الذين يتبعونه ممن يجده فى التوراة من أهل زمانك وممن بعد زمانك، وممن يجده فى الإنجيل إذا أنزلته بعد زمانك، فلا حاجة إلى قول بعضهم: إن المراد وستجدونه فى الإنجيل وإن كان مفعولا لمن فى زمانه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ممن آمن به من بنى إسرائيل او غيرهم، وهو قول الجمهور، فالاتباع اتباعه فى الاعتقاد والعمل بشريعته، وكذا فى قول من قال: إنه مقول لمن فى زمانه من بنى إسرائيل، والظاهر أنه مقول لموسى.
ويدل له ما رواه البكالى أنه لما اختار موسى السبعين قال له: أجعل لك الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة فى قلوبكم، وفى رواية: وأجعل السكينة معكم فى بيوتكم، وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير، فأخبر قومه فقالوا: لا ندرى الصلاة إلا فى الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة فى قلوبنا، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ولا نقرؤها إلا نظرا فقال: { فسأكتبها } أى هذه الخصال المرادة هى وغيرها بلفظ الرحمة { للذين يتقون } إلى: { المفلحون } قال: وهم هذه الأمة، فقال موسى: اللهم اجعلنى نبيها، قال، نبيهم منهم، قال: اجعلنى منهم، قال: إنك لن تدركهم، قال: يا رب جعلت وفادتى لأمة محمد، قال البكائى: فاحمد الله الذى جعل وفادة بنى إسرائيل لكم، قال: فأنزل عليه:
{ { ومن قوم موسى أمة } إلى: { يعدلون } فرضى.
{ يأمُرُهم } لا يدل على أن المراد بالذين يتقون الخ من فى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، لأن الكلام على التوزيع، فالوجود فى التوراة لأهلها، وفى الإنجيل لأهله بعد نزوله، والأمر والنهى وما بعدهما لمن وجد فى زمانه، صلى الله عليه وسلم، أو بعده، وهذه الجملة حال مستقبلة من هاء يجدونه، أو من المستتر فى مكتوبا كقولك: مررت برجل له صقر صائدا به غدا، وليست الهاء ولا المستتر المذكوران مرادا بهما ذكر نبى ولا لاسمه، ولا لصفته، فضلا عن أن يمتنع الحالية كما زعم الفارسى، فإنهما للنبى صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك مضاف محذوف إلى يجدون نعته أو وصفة، أو ذكره أو اسمه أو أمره.
ولا يقال: كيف جاء الحال من الهاء مع أنها مضاف إليه، لأنها بعد حذف المضاف مفعول، ولأن المضاف فى الثلاثة الأولى صالح للعمل، مع أن الفارسى أجاز الحال من المضاف إليه مطلقا، فقد علموا من التوراة والإنجيل أنه يأمر وينهى، ويحل ويحرم ويضع، بخلاف ما إذا جعلت الجملة مستأنفة فى وصفه صلى الله عليه وسلم، وتفسيرا، لما وجدوه مكتوبا كما يقول الفارسى، والحالية أولى لأنه يزيد بها ذم من وجده كذلك ولم يؤمن به، ومرادى بنعته ووصفه وذكره ما هو معنى مصدرى، وما يشمل بيانه مطلقا ولو باسمه واسم أبيه، فدخل فى ذلك بيانه فى الصفة والاسم، وقد ذكر فيهما بهما.
{ بالمعْرُوفِ } هو ما لا تمجه القلوب السليمة، فيشمل الخلق الحسن وصلة الرحم ولخصال المباحة المحمودة وسائر الأمور الدينية { وينْهاهُم عَن المنْكَر } خلاف المعروف، وقيل: المعروف التوحيد، والمنكر الشرك، والظاهر الأول لعمومه، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والأمور الشرعية كلها داخلة فيها { ويُحلُّ لَهم الطيِّباتِ } ما عوقبوا بتحريمه وما حرم غير عقاب لهم، وذلك كلحم الإبل وشحم الغنم والبقر غير شحم الحوايا والظهور، وقيل: الطيبات كل ما تستلذه النفس، فكل لذيذ حلال إلا ما قام الشرع بتحريمه، والأمر كذلك، ودخل ما ذبح باسم الله، وما يضر حرام، وقيل: الطيبات ما حرمته الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامى، وهذا على أن ما ذكر كله من كلام فيمن كان فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم من العرب، لا يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، فإنهم هم أصحاب البحائر وما بعدها.
{ ويُحرِّم عَليهم الخَبائثَ } قال ابن عباس: الميتة والدم ولحم الخنزير، والصحيح أن المراد ذلك وغيره من الخبائث كالربا والرشوة والسحت، وما ذبح لغير الله، فإن كل ما حرمته الشريعة فهو بتحريمها خبيث يوصف بالخبث، ويحكم عليه به، ولعل ذلك مراد ابن عباس، ومثل ببعضه، ثم اطلعت على أنه مراده، وقيل: هى ما يستقذره الطبع، فإنه مضروما يضر حرام إلا ما خصه الشرع، وعلى هذا تحرم الحية والوزغة والخنفساء والعقرب ونحوهن، ولم يحرمهن مالك، وقيل: بتحريمهن، وقيل: بكراهتهن وما لا دم فيه كالخنفساء والعقرب والعنكبوت طاهر حيا أو ميتا عندنا، وقيل: كل ميتة حرام إلا الذباب لتخصيصه فى الحديث بأنه إذا وجد فى إناء ماء مثلا فإنه يغمس فيه، لأن فى جناحه الذى يرفعه شفاء وفى المنتقل داء، وحل الجراد والسمك حيا أو ميتا، ويحرم ما يضر بسم أو غيره، فالحية محرمة نجسة، والعقرب محرمة طاهرة.
{ ويَضَعُ } أصله كسر الضاد وفتحها، لأجل حرف الحلق والمعنى يحط { عَنْهم إصْرهُم } أى ثقلهم، لأنه يأصر صاحبه أى يحبسه عن الحركة، وذلك أن أحكام التوراة شديدة، فهى كالشئ الثقيل المانع لحامله عن التحرك، وذلك قول ابن جبير، وقتادة، ومجاهد، وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن وغيرهم: الإصر العهد، وحكى أبو حاتم، عن ابن جبير: أن الإصر شدة العبادة، والماصدق واحد بالنظر إلى الآيات، فإن أحكام التوراة ثقيلة شديدة، عهدوا أن يعملوا بها، وما ذكر عن نافع وعيسى والزيات من فتح الهمزة غلطا، وذكره مكى عن عاصم، عن أبى بكر، وقال: هو لغة، وقرأ ابن عامر، وأيوب السنحتيانى، ويعلى بن حكيم، وأبو سراج الهذلى: إصارهم بهمزة فألف فصاد فألف جمعا لتعدد تلك الأحكام، والإفراد على إرادة الجنس، وأدغم أبو عمرو فى رواية أبى حاتم عين يضع فى عين عنهم وأشمها الضم، وقرأ طلحة: ويذهب عنهم إصرهم.
{ والأغْلالَ التى كانَتْ عَليْهم } جمع غل وهو ما يقيد به، وذلك تشبيه لأحكام التوراة بما يغل به الإنسان، فلا يقدر على العمل لثقلها، فكل من الإصر والأغلال عبارة عن ثقل أحكامها وشدتها، كتعيين القصاص، قيل: القصاص فى العمد والخطأ من غير شرع للدية والعفو، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع الموضع النجس من الثوب والبدن غير الفرجين، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق من اللحم، ووجوب الصلاة فى الكنائس، وترك العمل يوم السبت.
روى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه، وحط ذلك عنا رحمة، ولنداوم على العمل، وفى الحديث: "بعث بالحنيفية السهلة السمحة" وقال عطاء: المراد بالأغلال ظاهرها، كان الرجل إذا قام يصلى لبس المسح وغل يديه إلى عنقه، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها السلسلة وأوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة، وقال أيضا أبو زيد: المراد بالأغلال ما فى قوله تعالى: { غلت أيديهم } فمن آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها، ومن قال: الكلام مفعول لمن عاصر النبى من العرب إلا قوله: { يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل } فمعنى وضع ذلك عنهم إخبارهم أن ذلك غير واجب عليهم، كما وجب على غيرهم، كأنه قيل: الذين يؤمنون بالنبى الذي تجده أهل الكتاب فى التوراة والإنجيل، فيأمرهم مستأنف لبيان خصاله، أو حال من واو يتبعون، والأولى ما تقدم لسلامة من تخالف مراجع الضمائر، وما ذكر من وضع الإصر والأغلال، وما ذكر قبله موجودان فى التوراة والإنجيل عنه صلى الله عليه وسلم، وقد أذكر شيئا مما ورد فى شأنه فى التوراة والإنجيل فى سورة الشعراء.
{ فالَّذينَ آمنُوا به وعزَّرُوه } عظموه ووقروه، أو منعوه حتى لا يقوى [عليه] عدو، ومنه التعزير المذكور فى الأحكام، وهو ما دون أربعين جلدة أو سبعين وما دنها، أو على قدر النظر أقوال، وذلك لأنه نعظيم للدين، وتوقير له، ومنع عن معاودة القبيح وقرأ الجحدرى، وقتادة، وسليمان التيمى، وعيسى بن عمرو بالتخفيف.
{ ونَصَروهُ } على أعدائه { واتَّبَعوا النُّور } القرآن، سمى نورا لأن إعجازه ظاهر كظهور النور، ولزم من ذلك أنه مظهر لغيره، أو سمى بذلك لأنه كاشف للحقائق مظهر لها، مزيل لظلمة الجهل، تستضئ به القلوب كما تستضئ العين بالنور { الَّذى أنزِلَ معَهُ } حال من ضمير أنزل مقدرة، لأنه حال الإنزال، وهى حال المجئ به من السماء غير موجود معه، بل يقدر وجوده معه، وإن أريد بالإنزال إنهاءه إليه مجال المقارنة مع كونه معه أنه عنده حاضر، أو أنه مع بعثه أو نبوته بتقدير مضاف، فإن استنباءه مصحوب بإنزال القرآن، ويجوز تعليقه باتبعوا كقولك: سرت مع زيد، أى سرت أنا وزيد فى وقت واحد، فالمعنى التبعوه هم ومحمد، أو بمحذوف حال من الواو، أى اتبعناه مصاحبين له فى اتباعه، والمعنى فى ذلك كله اتباع القرآن، ويجوز تعليقه باتبعوا على معنى أنهم اتبعوا القرآن واتبعوا النبى، أى سنته كقولك: قرأت الأعراف مع الأنفال تريد أنك قرأتهما معا.
{ أولئكَ هُم المفْلحُونَ } الفائزون بالرحمة الدائمة، وفائدة قوله: { فالذين آمنوا به } إلى: { المفلحون } ترغيب بنى إسرائيل فى الإخلاص والعمل الصالح، وترك الطالح، كطالب الرؤية باستماع أوصاف أعقابهم المؤمنين، ككعب الأخبار، فيجتهدوا فيما يجمع بينهم فى رحمة الله مع ما تضمن ذلك من تبشير موسى، بأن نبى إسرائيلَ من يصير من هذه الأمة الكريمة، ومن أن ما دعوت به لقومك يكون لهم إن عملوا كأعقابهم.