التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ واتْلُ عَليْهِمْ } على بنى إسرائيل أو عليهم وعلى غيرهم من الكفار قولان { نَبَأ } خبر { الَّذِى آتيْناه آياتِنا } هو بلعام من باعوراء عند ابن عباس، أتاه الله بعض علم الكتب المنزلة، وكان يحسن اسم الله الأعظم فلا ترد له دعوة دعا به فيها، وعن بعضهم: كان عنده علم من صحف إبراهيم ونحوها، وفسر بعضهم الآيات بالاسم الأعظم، لأنه عبارة عن دعاء فيه اسم من أسماء الله، أو لتضمنه دلائل، وزعم بعضهم عن مجاهد انها آيات النبوة وكان مرشحاً لها، وهذا خطأ، فإن النبى معصوم، ومن كان عند الله نبيا لم يخرج عن لنبوة، وقيل فى اسمه: بلعم بدون ألف، وقال مجاهد: بلعام من عابر، وقال ابن مسعود: ابن إبر، وهو من بلد الجبارين من الكنعانيين قاله ابن عباس.
وروى عنه: أنه من بنى إسرائيل، وعن مقاتل أنه من البلقاء، قال ابن مسعود: هو من بنى إسرائيل وهو المشهور فيما قيل، بعثه موسى إلى ملك مدين بآيات علمه إياهن، يدعوه إلى الإيمان، ولما وصل رشاه الملك على أن يترك دين موسى ويتبع دين الملك ففعل، ففتن به الناس، وقيل: عالم من بنى إسرائيل، وقيل: هو أمية بن أبى الصلت الثقفى، وكان قد قرأ الكتب القديمة، وكان صاحب شعر وحكمة ومواعظ حسان، وقيل: البسوس أعطاه له ثلاث دعوات يجاب فيهن سيأتين، وقيل: عامر بن النعمان، كان يعرف شيئا من دين إبراهيم وزاد فيه.
{ فانْسَلخ } خرج { مِنْها } بعمله بغير مقتضاها كانسلاخ الشاة من جلدها، قال ابن عباس: خرج من العلم { فأتْبعه الشَّيْطان } أى تبعه فهو من الرباعى الموافق للثلاثى، لكنه أبلغ منه، أو المعنى أنه أدركه، وكان قرينه، يقال: تبعه حتى أتبعه أى لحقه، أو الهمزة للسلب أى أزال عنه تبع الآيات أو للتعدية، فالثانى محذوف أى اتبعه الضلالة أو للصيرورة، أى صار الشيطان تابعا له لا يفارقه يضله ويغويه، وقرأ الحسن فى رواية هارون عنه وطلحة بن مصرف فى رواية بوصل الهمزة وتشديد التاء.
{ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ } الضالين، قال فى عرائس القرآن: قال أكثر المفسرين: الآية فى بلعام بن عوراء بن عامر بن مازن بن لوط عليه السلام من الكنعانيين من مدينة البلقاء. وهى مدينة الجبارين، وسميت بلقاء لأن ملكها يقال له بالق بن ضافوراء.
وكانت قصة بلعام على ما ذكره ابن عباس، وابن إسحاق، والسدى، والكلبى وغيرهم: إن موسى لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام إلى بلعام، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا له: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وقد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا، ويحلها بنى إسرائيل، وإنَّا قومك وجيرانك وبنو عمك، وليس لنا ملجأ، وأنت رجل مجاب الدعوة فاقدم علينا وأشر علينا فى أمر هذا العدو الذى رهقنا، وادعو الله أن يرده عنَّا، فقال: ويلكم نبى الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم؟ وإنى أعلم من الله ما أعلم، وإنى إن فعلت هذا ذهبت عنى دنياى وآخرتى، فلم يزالوا به حتى قال: اصبروا حتى آمُر ربى، وكان لا يدعو حتى ينظر ما يؤمر به فى المنام، فقيل له فى المنام: لا تدع عليهم، فقال لهم: آمرت ربى فنهيت عن ذلك، فراجعوه فقال لهم: حتى أُآمر ثانية، وأمر فلم يجب إليه فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرة الأولى، فلم يزالوا به حتى افتتن، ويقال: إنهم أهدوا إليه هدية فقبلها.
وروى أن بلعام لما أبى أن يدعو على موسى، واجتمع قومه على أن يحملوا شيئا لأمرأته لأنها فقيرة، وأنه لا يصدر عن رأيها، فانطلق عشرة من عظمائهم، وعمل كل واحد منهم صفحة من ذهب وملأها ورقا، فقبلت ذلك، فأقبلت على زوجها وألحت وقالت: راجع ربك واسأله أن يأذن لك فى مؤازرتهم والدعاء لهم على عدوهم، فلم تزل به حتى آمر فلم يجب بشئ، فقالت له: لقد خيرك فى الدعاء عليهم، ولو لم يأذن لك ربك لنهاك، قالوا: فركب متوجها إلى جبل { من } يطلعه يشرف على بنى إسرائيل يقال له جبل حسبان، وكانت مراكب الأولين الأتن، فلما سار على أتانه غير بعيد ربضت به فنزل عنها فضربها، فقامت فركبها، فسارت غير بعيد فربضت فنزل عنها فضربها ضربا شديدا، فأنطقها الله حجة عليه قالت له: ويحك يا بلعام أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامى تردنى عن وجهى هذا، تذهب إلى الدعاء على نبى الله والمؤمنين، فخر ساجداً فلم يزل باكيا متضرعا حتى غاب عنه الملائكة.
فجاء الشيطان فقال امض فإن ربك أذن لك، ولو لم يأذن لك ما ذهبت الملائكة وما خلى سبيلها، فانطلقت به حتى إذا أشرفت على جبل حسبان، وجعل لا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه إلا صرف لسانه إلى بنى إسرائيل، فقال له قومه: أتدرى يا بلعام ما تصنع، وكانوا معه فى الجبل، فقال: هذا ما لا أملك قد غلبنى الله عليه، فاندلق لسانه واقعا على صدره، فعلم ما حل به فقال لقومه: قد ذهبت منى الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم، زينوا النساء وأعطوهن السلع وأرسلوهن إلى العسكر يبعنها، ومروهن أن لا يمتنعن ممن أرادهن، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم، ففعلوا فمرت امرأة منهم اسمها كستا بنت صور برجل من عظماء بنى أسرائيل يقال له زمر بن شالوم، وكان رأس سبط شمعون بن يعقوب، فأعجبته فأخذ بيدها فأقبل بها حتى وقف على موسى فقال: أظنك تقول هذه حرام علىَّ؟ فقال: نعم هى حرام عليك لا تقدر بها، قال: فوالله لا نعطيك فى هذا، ودخل بها قبته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون على بنى إسرائيل في الوقت.
وكان فنحاص بن العيزار صاحب موسى، قد أعطى بسطة فى الخلق، وقوة فى البطش، وكان غائبا حين صنع زمر ما صنع، فأخبروه فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها فدخل عليهما القبة وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته وخرج بهما، رفعهما إلى السماء والحربة قد أخذت بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحرية إلى لحيته وجعل يقول: اللهم هكذا نصنع بمن يعصيك، فرفع الطاعون، فوجد من مات بين إصابة زمر المرأة وقتلهما سبعين ألفا، وذلك فى ساعة، فمن ذلك تعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة وهي الخاصرة وما يليها إلى الخارج الفرج والذراع والحى، لاعتماده على خاصرته بالحربة، وأخذ إياها بذراعه وإسناده إياها على لحيه، والبكر وهو الجمل الصغير الشاب، لأنه كان بكرا لأبيه العيزار
وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: ادع الله على موسى، فقال: إنه من أهل دينى لا أدعو عليه، فنصب له خشبة ليصلبه عليها، فلما رأى ذلك خرج على أتانه ليدعو عليه، فلما عاين عسكرهم وقفت الأتان فضربها فقالت: لم تضربنى أنا مأمورة فلا تظلمنى، وهذه الملائكة أمامى قد منعتنى أن أمشى، فرجع إلى الملك فأخبره، فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك، فدعا على موسى بالاسم الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجيب له، ووقع فى التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب بأى ذنب وقعت فى التيه؟ فقال: بدعاء بلعام، فقال: يا رب كما سمعت دعاءه فاسمع دعائى، فدعا عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم، قيل: والإيمان، فنزع منه المعرفة، خرجت من صدره كحمامة بيضاء اهـ كلام عرائس القرآن.
وأظن هذه القصة إسرائيلية، فإن صحت فما دعا موسى عليه بنزع الإيمان إلا بإذن الله له فى الدعاء، أو بعد إخباره بأنه كفر مرتد شقى، وإيمانه ضرر على غيره، والصحيح أن سبب التيه قولهم: "اذهب أنت وربك فقاتلا" أو قولهم: "اجعل لنا إلهاً" أو عبادة العجل، قال فى عرائس القرآن: وقال عبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن أسلم، وأبو روق ونسبه غيره إلى سعيد بن المسيب: نزلت الآية فى أمية بن أبى الصلت الثقفى، وكان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله يرسل رسولا فى الوقت ورجا أن يكون هو ذلك الرسول، ولما أرسل الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكذبه، وكان قد قصد إلى بعض الملوك، ولما رجع مرَّ على قتلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه، فسأل عنهم فقيل: قتلهم محمد، فقال: لو كان نبيا ما قتل أقاربه.
وروى: أنه جاء يريد الإسلام، فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه، فقال: من قتل هؤلاء؟ فقيل: محمد، فقال: لا حاجة بدين من قتل هؤلاء، فرجع وقال: الآن حلت لى الخمر، وكان قد حرمها على نفسه، فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات، ولما مات أتت أخته فازعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثته عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقد أتاه اثنان فكشطا سقف البيت ونزلا. فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، وقال الذى عند رجليه للذى عند رأسه: أوعى؟ قال: وعى، فقال أذكى؟ قال: ذكى قلت: لعلهما شيطانان، لأنه ليس بذكى، لأنه مكذب فسألته عن ذلك قال: خير أريد بى، فصرف عنى ثم غشى عليه ولما أفاق قال:

كل عيش وإن تطاول دهراً صائر مرة إلى أن يزولا
ليتنى كنت قبل ما قد بدالى فى قلال الجبال أرعى الوعلا
إن يوم الحساب يوم عبوس شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: "أنشدنى من شعر أخيك" فأنشدت:

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شئ أعْلَى منك حداً وأمجدا

ومن قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها ثم أنشدت قصيدته التى هى:

عند ذى العرش تعرضون وقد يعلم ما كان جهركم والخفيا
يوم نأتى الرحمن وهو رحيم إنه كان وعده مأتيا
يوم نأتيه مثل ما قال فردا ورشيداً بعض وبعض غويا
وسعيداً سعادة أنا أرجو ومهاناً بكسبه وشقيا
إن أخذت بما اجترمت فإنى سوف ألقى من العذاب قويا
رب إن تعف فالمعافاة ظنى أو تعاقب فلم تعاقب بريا

فقال صلى الله عليه وسلم: "آمن شعر أخيك" أى اشتمل على أمر الإيمان وكفر قلبه فنزلت الآية.
وقال سعيد بن المسيب:
"نزلت فى عامر بن النعمان بن صيفى الراهب، الذى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وكان قد ترهب فى الجاهلية، ولبس المسوح وقدم المدينة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذى جئت به؟ قال جئت بالحنيفية دين إبراهيم قال: فأنا عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها" فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، فخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أعدوا القوة والسلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر، وآتى بجنود لنخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فذلك قوله: { وإرصادا لمن حارب الله ورسوله } ومات بالشام طريدا وحيدا كما يأتى إن شاء الله فى براءة.
ومنهم من يقول: لقد أنزلت فى البسوس، وكان قد أعطى ثلاث دعوات مستجابات، ونسبه بعض إلى ابن عباس، وهو من بنى إسرائيل فقالت له امرأته: اجعل لى منهن دعوة، فقال: ما تريدين؟ قالت له: ادع الله أن يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل، فدعا فكانت كذلك، فرغبت عنه فغضب، فدعا عليها فصارت كلبة نباحة، فجاء بنوها فقالوا: لا قرار لنا مع هذا، صارت أمنا كلبة والناس يعيروننا بها، ادع الله أن يردها إلى حالها التى كانت عليها، فدعا فردها كما كانت، فذهبت فيها الدعوات كلها، وقيل: إن البسوس اسم للمرأة وكان يضرب بها الأمثال فى الشؤم، وقد سميت بها خالة جساس بن مرة الشيبانى، كانت لها ناقة يقال لها سراب، فرآها كليب وائل فى حماه، وقد كسرت بيض طير قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم فوثب جساس على كليب فقتله، فهاجت حرب بكر وتغلب ابنى وائل أربعين عاما بسببها.
قال الزجاج: وقيل: الإشارة إلى منافقى أهل الكتاب الذين يعرفون النبى صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته كما يفرفون أبناءهم وأنكروه، وبه قال ابن كيسان والحسن، فالمراد بالذى الجنس أو الفريق، وصواب هذا أن يقول إلى كفار أهل الكتاب، لأنه لم يكن منهم منافق، إنما كانوا مجاهرين اللهم إلا إن سماهم منافقين بالنسبة إلى دينهم حيث آمنوا به، واقترفوا الكبيرة هى إنكار النبى بألسنتهم، وقال قتادة: ذلك مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله.