التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ فِي ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىٰ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ
٣٨
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قالَ } الله أى يقول يوم القيامة بلسان ملك، أو بخلق كلام، وعبر بالماضى لأنه لا بد من مجىء القيامة، فكأنها حاضرة، وكأن القول واقع، ومن كان له عدو مسجون وأراد طول سجنه، فليكتب: { قال } إلى { ولكن لا تعلمون } فى جلد أحمر مدبوغ، ويكتب اسمه واسم أمه، ويكتب: مكثاً مكثاً يا فلان بن فلانة لبثاً يا فلان بن فلانة، تثبيطاً مكثاً بلا زوال، ويدفن الجلد تحت باب الموضع المسجون فيه فلا يزال فيه إن شاء الله حتى ينزع منه، ولا يقبل ذلك إلا لمن يجوز عليه.
{ ادْخُلوا فى أممٍ } قال ابن هشام: فى بمعنى مع، وقيل هى على بابها، وتتعلق بمحذوف حال أى ثابتين مع أمم أو فى جملة أمم { قَدْ خَلَت } نعت لأمم أى مضت { مِنْ قَبْلكم } وتقدم زمانهم زمانكم { من الجنِّ والإنْس } نعت ثان، أو حال من أمم أو من ضمير فى خلت { فى النَّار } متعلق بادخلوا، وأجيز تعليقه بخلت، على أن المعنى سبقت فى النار، وعلى هذا تكون فى الأولى على بابها، أو بمعنى على، وتعلق بادخلوا، وكذا إذا علق فى النار بمحذوف نعت لأمم أو حال منه، أو من ضميره، وقدم ذكر الجن لأنهم أعرق فى الكفر، وإبليس أصل الكفر والإضلال، ولتجردهم إلى الإضلال، بخلاف الآدمى المتشيطن، فإنه ولو كان أعظم من سبعين شيطانا جنيا، لكنه غير متجرد للإضلال، وإن تجرد فقليل.
وهذه الآية كنص فى أن للجن المؤمنين ثوابا فى الآخرة، لأنه يعذب على السيئات إلا من يثاب على الحسنات، وهم مكلفون مبعوث إليهم، والملائكة يثابون بغير نعم الجنة، وذكر بعض: أن مؤمنى الجن يكون ترابا، وذكر حديثا مجهولا فى ذلك تبعد صحته، وبعض أنهم فى صحارى الجنة، ولا بعد فى هذا الأخير، ولو كان القياس يقتضى أن يكونوا كبنى آدم.
{ كلَّما } كل ظرف زمان متعلق بلعنت، وإنما كان ظرف لإضافته إلى مصدر نائب عن اسم الزمان، فإن ما مصدرية { دَخَلت } فى تأويل مصدر مضاف إليه، أى كل دخول أى كل زمان دخول كما تقول: زيد يأتى المسجد كل صلاة عصر، أى كل وقت صلاة عصر، وقيل: ما ظرفية مصدرية، ومعمول دخلت محذوف، أى فى النار.
{ أمةٌ لَعَنتْ أختها } فى الدين لإضلالها إياها، فالمشركون يلعنون المشركين، والمجوس يلعنون المجوس، والصابئون يلعنون الصابئين، والنصارى يلعنون النصارى، واليهود يلعنون اليهود { حتَّى إذا ادَّاركُوا } ألحق بعضهم بعضاً { فيها جميعاً } الأصل تداركوا بوزن تفاعلوا، أبدلت التاء دالا وسكنت وأدغمت فجىء بهمزة الوصل، وقد قرأ ابن مسعود رضى الله عنه: تداركوا على الأصل، وهو رواية عن أبى عمرو، روى عنه إداركوا بقطع همزة الوصل وثبات ألف ذا، ولا وجه له، غير أنه وقف وقفة المتذكر، ثم ابتدأ فقطع، فإن قطع همزة الوصل فى الوصل مختص بالضرورة، ويكون فى الفعل كما يكون فى الاسم خلافا لابن جنى، وقرأ مجاهد فيما قال مكى ادركوا بإسقاط الألف بعد الدال بوزن افتعلوا، الأصل ادتركوا، أبدلت التاء دالا وأدغمت فيها الدال، والمشهور عند ادركوا بفتح الهمزة وإسكان الدال، أى إدرك بعضهم بعضا، ودخلوا فى دركاتها، وقرأ حميد ادكروا بضم بضم الهمزة وإسكان الدال وكسر الراء، أى أدخلوا فى دركاتها، أو ادرك بعضهم بعضا.
{ قَالتْ أخْراهم } أى آخرتهم دخولا { لأولاهُم } بضم الهمزة وإشباعها بالواو، فإنه بوزن الأخرى والفضلى والكبرى والصغرى ونحو ذلك، من مؤنثة أسماء التفضيل، والمعنى لمسابقتهم دخولا، ويجوز أن يكون المعنى أخراهم منزلة وهم الأتباع، وأولاهم منزلة وهم الرؤساء المتبوعون والماصدق واحد، فإن الرؤساء هم الأولون دخولا، والأتباع هم لآخرون دخولا.
وقال ابن عباس: قال آخر كل ملة لأولادها، واللام بمعنى فى أى فى شأن أولاهم، أو عن أو للسببية، إنما لم يتق على أصلها، لأنهم قالوا ما قالوا الله لا لأولاهم، اللهم إلا أن تجعل مواجهتهم به قولا لهم ولو لم يخاطبوهم، فافهم.
{ ربَّنا هؤلاءِ } الرؤساء { أضلُّونا } عن الهدى بتزيين الكفر لنا، ودعائهم إيانا إليه، أو هؤلاء المتقدمون أضلونا بأن سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم { فآتِهِم عذاباً ضِعْفاً } مضاعفاً { مِنَ النَّارِ } لأنهم ضلوا وأضلوا.
{ قالَ } يقول الله { لكلٍّ } منكم أيها الأتباع ومن الرؤساء أو المتقدمين { ضِعْفٌ } لأن الرؤساء أو المتقدمين ضالون مضلون، والأتباع ضالون مقلدون، أو لأن الأتباع ضالون مضلون أيضا، فلكل منهم ضعف، لكن مضعف من ضل وأضل وأكثر من ضعف، من ضل ولم يضل، قال أبو عبيدة: الضعف مثل الشىء ومرة واحدة، قال الزجاج: ويستعمل أيضا بمعنى مرات ثلاث أو أكثر إلى ما لا نهاية له، وعن بعضهم أن كون الضعف بمعنى مثل الشىء مرة واحدة بحيث لا يستعمل فى أكثر هو غير عربى، وأن الضعف فى العربية زيادة مثل أو مثلين أو مثال، وعن ابن مسعود: الضعف هنا الأفاعى والحيَّات { ولكِن لا تعْلَمونَ } وهذا الجواب رد لإرادة الأتباع اختصاص المتبوعين بالضعف لا إسعاف لهم، ولو صح أن للمتبوع وزرين، لكن ثبت للتابع وزران أيضا لما علمت، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أن من سن معصية فعليه وزره ووزر من تبعه فيها بدون ان ينقص من وزره شىء" "والخطاب للأتباع والمتبوعين تغليبا للأتباع المخاطبين، أو الخطاب للأتباع، أى لا تعلمون ما لكم وما لمن تبعتم.
وأجاز بعضهم كون الخطاب للنبى وأمته، وقرأ أبو بكر: لا يعلمون بالياء المثناة التحتية، فيكون كلاما من الله، أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الأتباع، أى لا يعلم الأتباع، وفى أمرهم وأمر المتبوعين، أى لا يعلم الأتباع والمتبوعون، وروى حفص عن عاصم، عن أبى بكر تعلمون بالفوقية.