التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٤٢
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٤٣
-الأعراف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ والَّذين آمنُوا وعَملُوا الصَّالحات لا نكلِّف نفْساً إلا وُسْعها } طاقتها التى لا حرج فيها { { وما جعل عليكم فى الدين من حرج } ما كلفنا إلا بما يسهل، وقيل: الوسع بذل المجهود ورد بأن أكثر أهل الجنة لم يبذلوا مجهوداً، بل امتثلوا الفرائض، وفى طاقتهم أكثر منها، ولم يستعملوها فى غيرها، أو استعملوها فيها وفى نفل قليل، وقد يجاب بأن المراد بذل المجهود فى الطاعة اللازمة للناس فى الجملة، ووسعها منصوب على تقدير الباء، أو مفعول ثان لنكلف مضمنا معنى نلزم، وقرأ الأعمش: لا تكلف نفس، وجملة { لا نكلف نفساً إلا وسعها } أو { لا تكلف نفس إلا وسعها } معترضة بين المبتدأ الذى هو الذين وخبره الذى هو.
{ أولئِكَ أصْحابُ الجنَّة } للترغيب فى اكتساب ما لا يبلغ غايته، وصف الواصف من النعيم والشرف بما هو يسير فى الطاقة، لا يعجز النفس وللإعلام بأن الدين يسر، ويجوز كون الخبر جملة { لا نكلف نفساً إلا وسعها } أو { لا تكلف نفس إلا وسعها } والرابط محذوف أى نفساً منهم أو نفس منهم.
{ هُم فيها خَالدُونَ * ونَزَعْنا ما فى صُدُورِهم مِن غلٍّ } فى عامة المؤمنين المذكورين يخرج الله ما كان فى قلوبهم من الحقد والحسد من بعض على بعض، أو من بعض على غيرهم، وذلك أن الإنسان ولو كان مؤمناً لا يخلو من حقد وحسد مطبوعين فيه، لكن المؤمن يزاولهما ويجاهدهما، ولا يعمل بهما، وإن عمل تاب وتخلص إلا من شاء الله فإنه لا يقعان فى قلبه أصلا وهو قليل، أو يخرج من قلوبهم أسباب الغل والماصدق واحد، فإن من أخرج الله من قلبه الحقد والحسد إلى ما لا نهاية له، ومن أخرج منه أسبابهما كذلك، سواء فى بقاء القلب على المودة واللذة والسرور ورؤية نفسه فى كمال أبدا، حتى إنه لا يقع فى قلبه اشتهاء منزلة غيره، وصاحب الغل فى عذاب وهم، ولا عذاب ولا هم فى الجنة.
وروى أنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعض لبعض، أى مما لا يمنع من دخول الجنة كمظلمة نسيها، وقد تاب فى الجملة توبة نصوحا، وكمظلمة لم يتوصل إلى خلاصها لعدم ماله، وقد تاب نصوحا حتى إذا هديوا دخلوا الجنة، واحدهم أهدى بمنزلة فيها منه بمنزلة فى الدنيا، وقيل: يشربون من عين فى أصل شجرة فى باب الجنة، فينزع غلهم، ويغسلون من عين أخرى فى أصلها فتجرى عليهم النظرة أبدا، وقيل: نزل: { ونزعنا ما فى صدورهم من غل } الخ فى أهل بدر، أى نزلت بسببهم ولفظها يعم المؤمنين، فإنه لا يبقى غل فى قلب أحد من المؤمنين، وفى الحديث:
"الغل على باب الجنة كمبارِكِ الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين" وهذا تمثيل وكناية عن دخولهم الجنة، ولا غل فيهم، وعنه: أنه لا غل فى الجنة، وإلا فالغل عرض لا يقوم بنفسه، أو يخلقه الله جسما يرى كمباركها كما يخلق الموت كبشا أو ككبش فيذبح، واختار بعضهم هذا الوجه.
وقوله: { ونزعنا ما فى صدورهم من غل } إلى { بما كنتم تعملون } للصلح بين الناس، والمتباغضين، والاتفاق بين المتقاطعين يكتب بقلم فارغ من المداد يجر على حلوى، فتبقى فيها الحروف بالجر، ويطعم من أريد صلحه واتفاقه، وإن كتب على أوراق بعدد القوم، أو تمر أو تين أو نبق، من فعل ذلك بإذن الله، وتكتب لوجع القلب فى إناء فخار جديد، كما يخرج من تنور بزعفران وماء ورد، ويمحى بماء بئر ويشرب منه.
{ تَجْرى من تَحْتهُم الأنْهارُ } أى من تحت قصورهم وفرشهم من جانب، فإن ما التصق بالأرض مطلق عليه أنه تجب ما كان منتصبا آخذا فى السماء، وجرى الأنهار من تحتهم زيادة فى لذتهم وسرورهم.
{ وقالُوا } وهم فى الجنة { الحمْدُ للهِ الَّذى هَدانا لهذَا } أى إلى هذا الثواب العظيم، والأجر الجسيم، بأن وفقنا إلى موجبه وهو الإيمان والعمل الصالح، أو لموجب ذلك { وما كنَّا لنَهْتدِىَ } اللازم لتأكيد النفى وهى لام الجحود، أى لا مطمع فى اهتدائنا إلى ذلك { لوْلا أنْ هَدانا اللهُ } أن مصدرية، والمصدر مبتدأ محذوف الخبر، أى لولا هداية الله إيانا موجودة، والجواب محذوف دل عليه ما قبل لولا، وقرأ ابن عامر: ما كنا لنهتدى بإسقاط الواو، وكذا فى مصاحف أهل الشام، وذلك جملة موضحة لما يفهم مما قبلها من أن المهتدى من هداه الله.
{ لَقَدْ جاءتْ رُسُل ربِّنا بالحقِّ } فاتبعناهم، قالوا ذلك سرورا أو تنجيما بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا كما نرى من حصل على ربح عظيم بأقرب كسب، يذكر أسباب الربح، وكيف فعل فربح، ولا يملك نفسه عن ذكر ذلك.
{ ونُودُوا } يناديهم ملك أو يخلق الله لهم نداء { أنْ } مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، والباء مقدرة أى بأنه، أو مفسرة، وكذا فى المواضع الأربعة بعد هذه، وإنما جاز التفسير لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو النداء والتأذين { تِلْكم الجنَّة } أشير إليها بإشارة البعيد، وهم فيها حاضرة لعلو شأنها، أو لأنهم حين النداء ليسوا فى قصورهم وملكهم، بل موضع بعيد عن ذلك منها، فالبعد باعتبار ملكهم وقصورهم فيها، وإلا فهم فيها، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وأن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبدا، وأن لكم أن تشبُّوا فلا تهرموا أبداً، وأن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً" فذلك قوله عز وجل: { ونودوا أن تلكم الجنة } { أورِثتمُوها بما كُنتم تعْملُون } رواه أبو هريرة وأبو سعيد الخدرى.
وقيل: ينادون إذا رأوا الجنة من بعيد قبل دخولها، فإشارة البعد ظاهرة على حالها، والجنة نعت أو بيان أو بدل، وأورثتموها خبراً، والجنة خبر، وأورثتموها خبر ثان، أو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الجنة التى وعدوا بها فى الدنيا، وأل فى الجنة للحضور، أى الجنة الموعود لكم بها هى هذه الجنة، وإشارة البعد على هذا واضحة على حالها، وعلى هذا الوجه يتعين كون الجنة خبرا، والجملة خبرا ثانيا أو حالا، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائى: أرثتموها بادغام الثاء، ومعنى أورثتموها أعطيتموها، وعبر بالإيراث، كأن المؤمن يأخذ منزله فى الجنة ومنزل الكفار فيها، والكافر منزله فى النار ومنزل المؤمن فيها، وقد سمى الله الكافر ميتا والمؤمن حيا، فأورث الحى منزل الميت، أو عبر به لأن ذلك الثواب العظيم مخلف عن الإيمان والعمل الصالح، كما يخلف الميت المال، أو شبه مصير الجنة إليهم بمصير المال إلى الوارث، والآية نص فى أن الجنة بالعمل.
ومن قال بالتفضل فمراده أن ذلك العمل الذى هو سببها إنما وفقه الله إليه وقبله منه، فضلا ورحمة، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"لن يدخل الجنة أحد بعمله وإنما يدخلها برحمة الله" أن عمله لا يوجب الجنة، وأنه ليس ثمنا لها وافيا بها، وإنما هو رحمة من الله أهداها إليه، وعن الحسن: دخولها برحمة الله، وقسمتها بالأعمال، أى يحسب الأعمال.
وفى الحديث:
"الدرجة فوق الدرجة فى الجنة كما بين السماء والأرض فيرفع العبد بصره فيلمع له برق يكاد يخطف بصره فيقول: ما هذا؟ فيقال: نور أخيك فلان، فيقول كنا نعمل فى الدنيا على هكذا، فيقال: إنه كان أحسن منك عملا، ثم يجعل فى قلبه الرضا" وهذا بظاهره يدل أنه كان فى قلبه عدم الرضا أولا، وفيه بحث، ولعله تكون ثم لمجرد الترتيب الذكرى، أو بمعنى الواو للمهملة لا فى الحكم، بل بحسب علو الشأن كأنه قيل: وأعظم من ذلك أن الرضا يكون فى قلبه بإذن الله لا بكسب.