التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أيُّها الَّذِينَ آمنوا اسْتَجِيبُوا لله والرَّسُول } انقادوا لهما باطاعة فيما أمركم { إذا دَعاكُم } أمركم، ورجع الضمير إلى الرسول وحده، لأن أمره أمر الله، ولأن أمر الله يكون على لسانه، والاستجابة له استجابة للرسول، وبالعكس، وذلك على حد ما مر فى { ولا تولوا عنه } والمشهور تعدى استجاب باللام، وأجاب بنفسه ويجئ بالعكس { لما يُحْييكُم } من علوم الدين والاعتقادات والأعمال الحسنة، فإن العلم حياة للقلب، والجهل موته كما قال المتنبى من بحر البسيط:

ولا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن

والعمل الحسن يورث الحياة الطيبة الدائمة فى الجنة، وهذه الحياة مفقودة فى أهل النار، وتفسير الآية على العموم المذكور هو الحق الواضح، ثم اطلعت والحمد لله على أنه قول مجاهد والجمهور.
وقال ابن إسحاق: المراد بما يجيبكم الجهاد أنه سبب البقاء، إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم، ولأن الله سبحانه أعز به المسلمين بعد الذل، و الحياة تطلق على العزة، يقال حييت حال فلان إذا ارتفعت، وقال النقاش: المراد الشهادة لقوله:
{ { بل أحياء عند ربهم } وقيل: الإسلام، و المراد إذا دعاكم لسائر أعماله وأقواله بعد الإيمان، فلا يلزم منه تحصيل الحاصل كما توهمه بعض من ذكر الإيمان قبله، ومثل ذلك يأتى فى قول السدى، إن المراد الإيمان، وهذان قريبان بما ذكرته أولا على العموم.
ويدل من العموم
"أنه صلى الله عليه وسلم مر بباب أبى بن كعب وهو يصلى فدعاه وأسرع بقية صلاته، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام ما منعك يا أبى أن تجيبنى إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله إنى كنت فى الصلاة، قال: أفلم تجب فيما أوحى إلىَّ { استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم }؟ قال: بلى لا أعود إن شاء الله" ، وفى رواية قال: "لا جرم لا تدعونى أبدا إلا أجبتك" ، رواه مالك بن أنس، وأبو هريرة.
والذى فى البخارى ومسلم، أن ذلك وقع مع أبى سعيد بن المعلى أيضا، وأنه صلى الله عليه وسلم مر به وهو يصلى فى المسجد، وفى رواية مر بأبى وهو يصلى ولم يذكر الباب، ووقع نحو ذلك مع حذيفة ابن اليمانى فى غزوة الخندق، وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بالإجابة فى الصلاة، لأن الصلاة إجابة، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم إجابة، فلو أجابه لم يخرج عن الطاعة، وهذا مختص بالنبى صلى الله عليه وسلم إذا دعا مصليا.
وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم دعا لأمر لا يحتمل التأخير فوجب عليه أن ينصرف عن صلاته إليه، وهذا الحكم مستمر إذا كنت تصلى ودعيت لهم لا يحتمل التأخير، كتنجية الغريق، وتنجية الإنسان من السبع، أو من العدو، أو الحريق، أو نحو ذلك، وتنجية ملك لك لا تجد ما تأكل سواه، أو مال فى ضمانك، قيل: بل تنجية المال مطلقا، أورأيت شيئا من ذلك بلا دعاء أحد إياك فانصرف إليه، ثم عد إلى صلاتك إن لم تحدث ناقضا ولا تتكلم إلا إن لم تجد الإصلاح إلا بالكلام فتكلم وأعدها، والقول الأول أشد مناسبة للحديث، وفى الحديث دلالة على أن الأمر بالوجوب عند الإطلاق وهو مذهبنا.
{ واعْلَموا أنَّ اللهَ يحُولُ بيْنَ المرْءِ } وقرأ ابن أبى إسحاق بكسر الميم، وقرأ الحسن والزبيرى بفتح الميم ونقل كسرة الهمزة إلى الراء وتشديد الراء وإجراء للوصل مجرى الوقف على لغة من يشدد فى الوقف، وهى لغة بنى سعد، وهو قليل، قال الشيخ خالد: ولهذا لم يؤثر عن أحد عن القراء إلا عن عاصم فى { مستطر } فى سورة القمر انتهى، ولعله أراد بالقراء السبعة أو العشرة، أو يرى تشديد الراء فى هذه القراءة مع حذف الهمزة لغة فى الوصل والوقف مطلقا لا مختصا بالوقف والوصف الجارى مجراه.
{ وقَلْبهِ } فيريد الرء شيئا ويعزم عليه فينقض الله عزمه، ويصرفه إلى غير ذلك الشئ، يريد الطاعة ويصرفه للمعصية، ويريد المعصية ويصرفه للطاعة، وذلك بالتوفيق، والخذلان بالجبر، كما زعمت المجبرة وإلا بطل المدح والذم، والثواب والعقاب، ويحفظ وينسيه الله، وينسى ويذكره الله، ويخاف ويؤمنه الله، ويأمن ويخوفه الله وريد صلاة ركعتين فلا يصليهما، أو يصلى أربعا وهكذا فى الأفعال والأقوال والاعتقادات مطلقا، وقلبك فى حكم الله كالشئ بين الأصبعين.
فلزم من هذا أن لا يأمن الإنسان المؤمن أن يموت كافرا، وأن يبادر الأعمال انتهازا للفرصة قبل الحول بينه وبينها بالموت و غيره، ويراقب القلب فإنه مذموم معاقب، أو ممدوح مثاب على اختياره وتناوله، وأن يعلم أن الله أقرب إليه من حبل الوريد، وقيل: إن الحول بين المرء وقلبه تمثيل لغاية قربه من العبد، وتنبيه على أنه عليم بمكنون القلب مما عسى أن يغفل عنه صاحبه، وقد قال بذلك قتادة، وقيل: المعنى أن الله يحول بين المرء وقلبه حتى لا يدرى ما يصنع، وقيل: أمروا بالقتال فخافوا لضعفهم وقلتهم، فأخبرهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بتبديل ما فيه من الخوف أمنا، ومن الجبن جراءة، فاعزموا على القتال يبدل الله خوفكم وجبنكم أمنا وجراءة، وأمن عدوكم وجراءته خوفا وجبنا { وأنَّه إليه تُحْشَرونَ } للثواب والعقاب.