التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وإذْ يمكُر بكَ الَّذينَ كفَرُوا } واذكر إذ يمكرون بك، وزعم بعض أن إذ معطوفة على إذ فى قوله: { واذكروا إذ أنتم قليل } وهو سهو، لأنه لم يقل: وإذ يمكر بك، وأصل المكر الخديعة والضر فى الحقيقة، وعن ابن فورك أصله المدافعة على جهة اللعب حتى يوقع فى حفرة، والمضارع حكاية للحال الماضية بجعلها كأنها حاضرة، وذلك أن قريشا أرادوا مكره وشرعوا فيه، وذلك فى مكة، فنجاه الله، فذكره ذلك ليشكر.
{ ليُثْبتوكَ } يحبسوك عن الذهاب والتصرف، بالإيثاق بحبل أو حديد، أو فى بيت مغلق، وبه قال السدى، وعطاء، وابن أبى كثير، أو بكثرة الضرب والجرح به، قاله أبو حاتم، وبالأول قال ابن عباس، ومجاهد، وقد قرأ ابن عباس: ليقيدوك أى يوثقوك، وقيل: ليسخروك، قرأ يحيى بن وثاب بفتح الثاء وتشديد التاء حكاه الإمام أبو عمرو الدانى، وحكاه عنه النقاش ليبيتوك من البيات، وقيل: هذه ومعناه قريب من معنى قوله:
{ أو يقْتلُوك } لكن التبييت القتل ليلا { أو يخْرجُوكَ } من مكة { ويمْكُرونَ } يتعاطون ضره خفية { ويمْكُر اللهُ } أى يجازيهم على مكرهم، وسمى الجزاء باسم الذنب، أو يرد مكرهم عليهم، أو يعاملهم معاملة الماكر، وقد قلد المسلمين فى أعينهم حتى اغتروا بقتلهم، فكانت الوقعة عليهم، وذلك فى أمر بدر، ولا يوصف الله بالمكر إلا مقابلة مكر، لأنه يوهم الذم، وذلك وقوف مع الوارد فى صفة الله، ولم يرد وصف المكر إلا مع ذكر مكر الإنسان، وأجيز وصفه به مطلقا استعارة، كقول على: من وسع عليه فى الدنيا ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع.
{ واللهُ خَيرُ الماكرين } أى أعظمهم مكرا، أو زعموا أن فى مكرهم منفعة فأخبر الله أن مكرى أنفع، أو خرج خبر عن التفصيل أى فى مكر الله من بين مكر الماكرين نفع، وحكم وعدل، والآية مدنية بذكير بما وقع بمكة، عكرمة، ومجاهد: أنها مكية، وعن ابن زيد: أنها نزلت عقب كفاية المستهزئين.
قيل: ولعل معنى كونها مكية أن القصة مكية، وذاك أنه لما سمعت قريش بإسلام الأنصار ومبايعتهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجدون منعة، ويتفاخم أمرهم، ويجمعون لحربهم، وخافوا ذلك، وذلك بعد موت أبى طالب، فاجتمعوا فى دار الندوة وهى دار قصى بن كلاب، وكانوا لا يقضون أمرا إلا فيها، وكانت للمشاورة فى الحرب وغيرها لا للسكنى، والندوة الاجتماع، وحضر فيها رؤسائهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، وأبو سفيان، والمطعم بن عدى، والنظر بن الحارث، وأبو البخترى بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، واعترضهم إبليس فى صورة شيخ فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحا، فقالوا: ادخل، فدخل.
قال بعضهم: إنما تمثل فى صورة نجدى لأنهم قالوا: لا يدخلن معكم فى المشاورة أد من أهل تهامة، لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل فى صورة نجدى، وكان فى ثياب رثة، وروى أنه دخل فيهم وجلس معهم فقالوا: وما أدخلك فى مجلسنا بغير إذننا؟ فقال: أنا رجل من أهل نجد، قدمت مكة فأحببت أن أسمع من حديثكم، وأقتبس منكم خيرا، ورأيت وجوهكم حسنة، وريحكم طيبة، فإن أحببتم جلست معكم، وإن كرهتم مجلسى خرجت؟ فقال بعض لبعض: هذا نجدى لا بأس عليكم منه.
فقال أبو البخترى: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتحبسوه فى بيت مقيدا، وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون منها طعامه وشرابه، وتتربصون به ريب المنون حتى يهلك، كمن هلك من قبله من الشعراء، فقالوا نِعْم الرأى رأيت.
وصرخ الشيخ النجدى وهو إبليس لعنه الله وقال: بئس الرأى رأيتم، تعمدون إلى رجل له فيكم صفو، وقد سمع به من حولكم فتحبسونه وتطعمونه وتسقونه، فيخرج أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه، فيوشك صفوه الذى فيكم أن يقاتلوكم ويأخذوه من بين أيديكم، فتفسد جماعتكم، فقالوا: صدق النجدى.
فقال هشام بن عمرو من بنى عامر بن لوى: أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من أرضكم، فيذهب حيث شاء، ويليه غيركم فلا يضركم ما صنع، فتستريحون منه إذا غاب، فقالوا: نِعْم الرأى.
فقال النجدى: بئس الرأى تعمدون إلى رجل قد أفسد جماعتكم، واتبعه منكم طائفة سفهاء فتخرجونه إلى غيركم، فيفسدهم كما أفسدكم أو اشد، فيأتون عليكم فيخرجونكم من بلادكم، ألا ترون إلى حلاوة منطقه، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب بما تسمع من حيدثه، فقالوا: صدق الشيخ النجدى.
فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأى ما أرى غيره، أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا قويا نسيبا وسطا، وتعطوا كل فتى سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه، ولا أظن هذا الحى من بنى هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإذا رأوا ذلك قالوا: الدية فتؤدى قريش ديته، وقيل: قال: فيضربوه جميعا فلا يدرى قومه من يأخذون به وتؤدى قريش ديته.
وقال بعضهم: قال: إن لى فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد؟ قالوا: ما هو يا أبا الحكم؟ فذكر ذلك، على الروايات كلها قال النجدى: صدق والله هذا المفتى، وقيل: قال: الشاب، وقيل: قال: الرجل، وإنه لأجودكم رأيا، والرأى ما أرى ولا أرى غيره فتفرقوا عليه.
فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك بواسطة جبريل عليه السلام، وأمره بالخروج إلى المدينة، وأن لا يبيت الليلة على فراشه، ولما كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه.
"فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب: نم على فراشى، وتغط بردائى هذا الحضرمى الأخضر" وفى رواية: "بردتى فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه" وكان صلى الله عليه وسلم ينام فيها، ففعل علىّ ما قال له.
قال محمد بن كعب القرظى،
"اجتمعوا له وفيهم أبو جهل فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تتابعوه كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده حفنة من تراب قال: نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم وأخذ الله على أبصارهم، فنثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ { يس } إلى { لا يبصرون } ومضى إلى غار ثور، فجاء رجل وقال: ما تنتظرون هاهنا؟ فقالوا: محمدا، وكانوا يعتقدون أنه فى الدار، قال: خيَّبكم الله، قد والله خرج وما ترك رجلا منكم إلا وقد وضع التراب على رأسه، أفما ترون ما بكم، فوضع كل واحد يده على رأسه فإذا عليه تراب، وماتوا كلهم يوم بدر" .
وقيل: اجتمعوا فى بابه ليقتلوه إذا قام من نومه، فكانوا يرصدون الشخص المتغطى بالبردة، فلما قام رأوه عليا فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدرى، وعلى كل حال أرسلوا فى طلبه، وأرسلوا من يقتص الأثر، فاقتصه مقتص حتى وقف بهم على فم الغار، وقال: إنه دخل الغار أو صعد السماء، فقالوا: لو دخل الغار لتفسخ نسيج العنكبوت، ولما باضت الحمامة فى فمه وهو فيه، وقال علىّ فى شأن نومه ذلك

وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجرى
رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكرى