التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
٣٦
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّ الَّذينَ كَفرُوا ينْفقونَ أمْوالَهم ليصُدُّوا } الناس { عَنْ سَبيلِ اللهِ } أى إن الذين كفروا يريدون إنفاق أموالهم لذلك { فسَيُنفِقونَها } فى ذلك، فالإنفاقان واحد، وكذا إن أريد بذكر الإنفاق أولا لبيان علة الإنفاق، ويذكره ثانيا بيان أنه سيقع ويرتب على وقوعه الحسرة والغلبة، وذلك أن عبد الله بن ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أمية وغيرهم من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، كلموا أبا سفيان ومن له مال فى تلك العير التى جاء بها من الشام، أن محمدا قد قتل خياركم فأعينونا بهذا المال، لعلنا ندرك منه ثأرنا، فأرادوا ذلك وأنعموا به وأنفقوها يوم أحد، فهو المال الذى أرادوا إنفاقه، أو أنعموا به وأنفقوه عن قريب، ولكن ما استعمل إلا يوم أحد كخيل وسلاح وزاد، أو أنفقوها عن قريب صرفت للرجال ليتمكنوا من الحرب، والقرب نسى فلا ينافى السين.
وجزم عاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمر، وابن سعد بن معاذ أنه أنفق فى غزوة أحد، وعن السدى، ومجاهد، وابن جبير: أن أبا سفيان أنفق فى غزوة أحد على العرب المتجمعين بمكة ونواحيها من غير قريش أربعين أوقية ذهبا، والأوقية أربعون درهما، قيل: واستأجر أيضا ألفين من العرب سوى ذلك، قيل: هم من كنانة، ونزلت فى ذلك، وقيل: الإنفاق الأول يوم بدر، والمضارع فيه لحكاية الحال الماضية كأنها حاضرة على أن الآية نزلت بعد الإنفاق، وللاستقبال على أنها نزلت قبله، وللحال الحقيقة على أنها نزلت وقت الإنفاق.
والإنفاق الثانى يوم أحد أو قبله لغزوة أحد، فيقدر مضاف أى فسينفقون بقيتها، أو يجعل ذلك من باب الاستخدام بأن يرجع الضمير إلى الأموال المذكورة لا بقيد إنفاقها الأول، أو يضمن الإنفاق معنى الإنقاص، وذلك أن المطعمين أبا جهل وعتبة وشيبة ونبيها ومنبها، وأبا البخترى، والنظر، وحكيما، وأبيا، وزمعة، والحارث، والعباس، يطعم منهم كل يوم عشر جزر، وقال الضحاك: يوما عشرا، ويوما تسعا، وهو أنسب بما مر فى عدد المشركين.
وتخريج الآية على المطعمين، ومنهم العباس يقضى أنه كافر حين كان بمكة، وحين خرج إلى بدر وأسلم بعد ما أسر، وقيل: كان بمكة مسلما، وإنما خرج معهم غير قاصد للشر فيما قال، وذلك هو الإنفاق الأول، وأنفقوا أيضا لغزوة أحد وهو الإنفاق الثانى، وذلك توجيه للأقوال والروايات، وتطبيق لها بالآية على ما تقبله الصناعة بحسب ما ظهر لى، والذى أقول به: إن المضارع الأول للاستمرار التجددى، والكلام يشمل كل من كانت عادته الإنفاق للصد عن سبيل الله وهو دينه، واتباع رسوله من المطعمين الاثنا عشر وغيرهم، ولو صح أن سبب نزول الآية من ذكر.
{ ثمَّ تكُون عليْهِم حَسرةً } ندما وتلهفا وغما فى الدنيا، هذا هو المراد، والله أعلم، ولو كانت أيضا كذلك فى الآخرة، وقيل: المراد هنا فى الآخرة وعليه يستثنى العباس، إلا إن كان حال الإنفاق مؤكدا فإنه يكون عليه ذلك فى الآخرة تضييقا فى قبره، أو فى المحشر، ثم ينجو، وإنما كانت حسرة فى الدنيا، لأنهم أنفقوها ولم ينفعهم إنفاقها، والحكم على الأموال بأنها حسرة مبالغة، فإن الحسرة إنما هى عاقبة إنفاقها، ولا يخرج عن هذا بتقدير مضاف هكذا، ثم يكون إنفاقها لأن الإنفاق أيضا ليس حسرة، بل ترتب عليه، وزعم السعد أن ذلك استعارة تمثيلية حيث شبه كون عاقبة إنفاقها حسرة بكون ذاتها حسرة، وأطلق المشبه به على المشبه.
{ ثم يُغْلبُونَ } وهذا يوم أحد، قال ابن سلام: بين الله أنهم سيغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة، وقيل: المراد أن آخر أمرهم أن يغلبوا، ولو كانت الحرب قبل ذلك دولا { والَّذينَ كَفرُوا إلى جهَنَّم يُحْشَرونَ } يجمعون إن لم يتوبوا.