التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحْدَى ٱلطَّآئِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَافِرِينَ
٧
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ و } اذكروا { إذ يَعِدُكم } وقرأ مسلمة بن محارب بإسكان دال يعدكم، قال أبو الفتح: لتوالى الحركات { اللهُ إحْدَى } وقرأ ابن محيصن بوصل همزة إحدى فيما ذكر عنه، ولا وجه له، ولعله لم يكن الهمزة فتوهم الراوى أنه وصلها { الطَّائِفَتيْنِ } طائفة أبى سفيان مع العير، وطائفة أبى جهل مع النفير { أنَّها لَكُم } بدل اشتمال من المفعول الثانى وهو أحدى.
قال عبد الرحمن الثعالبى فى الأنوار فى آيات النبى المختار، عن ابن عباس: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان مقبلا من الشام، ندب المسلمين إليهم وقال: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها" فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز بتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوفا، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمداً استنفر أصحابه إليك، فحذر عند ذلك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى إلى مكة يستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فقالت لأخيها العباس: يا أخى والله لقد رأيت رؤيا أفزعتنى وخفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عنى ما أحدثك، فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم فى ثلاث، فاجتمع الناس إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر أبى قيس، فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها، فأقبلت تهوى حتى كانت بأسفل الجبل ارفصت، فما بقى بيت ولا دار بمكة إلا دخلتها فلقة منها، قال العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنتِ فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس، فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه فغشى الحديث حتى تحدثت به قريش، قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل فى رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست فقال لى: يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت: وما رأت؟ فقال: يا بنى عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال انفروا فى ثلاث فستنربص بكم هذه الثلاث، فإن يكن حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب.
قال العباس: فوالله ما كان منى إليه كبير إلا أنى جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ثم تفرقنا، فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك شئ غير لشئ أما سمعت؟ قلت: قد والله فعلت، ما كان منى إليه كبير، وايم الله لأتعرضنَّ له، فإن عاد لأكفيكنه.
فغدوت فى اليوم الثالث من رؤى عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أنى قد فاتنى منه أمر أحب أن أدركه، قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إنى لأمشى نحوه أتعرض له ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد فقلت فى نفسى ما له لعنه الله أكل هذا فرقا منى أن أشاتمه، فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفارى يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره، قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة، أى مال التجارة أموالكم مع أبى سفيان عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فشغلنى عنه وشغله عنى ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا وقالوا: يظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى، والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين خارج وباعث مكانه رجلا، ولم يتخلف من أشرافهم أحد إلا أبو لهب، بعث مكانه العاصى ابن هشام.
ولما فرغوا من جهازهم، ذكروا ما بينهم وبين بنى بكر بن عبد منات فخافوهم أن يأتوهم من خلفهم، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدا لهم إبليس فى صورة سراقة بن مالك ابن جشعم، وكان من أشراف كنانة فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه، فخرجوا سراعا.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لثمانى ليال خلون من شهر رمضان فى أصحابه، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم ابن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض، وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع على والأخرى مع بعض الأنصار، وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار، وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة، حتى إذا كان قريبا من الصفراء، وهى قرية بين جبلين، أحس به أبو سفيان، فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها، وترك بدرا بيسار، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش.
فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه وقال وأحسن، ثم قام عمر رضى الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منَّا عين تطرف، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثم قال المقداد]: فو الذى بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، دعا له به.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا على" وإنما يريد الأنصار، فقال له سعد بن معاذ، وقيل: سعد بن عبادة بناء على أنه حضر بدرا ولعلهما جميعا تكلما: والله لكأنك إبانا تريد يا رسول الله، قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر فى الحرب، صُدُق فى اللقاء، لعل الله يريك فينا ما تقرَّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.
ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله سبحانه قد وعدنى إحدى الطائفتين والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم" ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذا فران حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله عنه حتى وقفا على شيخ من العرب فسألاه عن قريش وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبرانى ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتنا أخبرناك" فقال: وذاك بذاك؟ قال: "نعم" قال الشيخ: فإنه بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدقنى الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذى فيه جند رسول الله صلى الله عليه سلم، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذى أخبرنى صدقنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذى به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن من ماء" ثم انصرفنا عنه، قال يقول الشيخ: ما ماء من ماء العراق.
قال ابن هشام: يقال الشيخ سفيان الضمرى. قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث على بن أبى طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية لقريش فيهم أسلم غلام ابن الحجاج، وأبو يسار غلام ابن العاصى، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالا: نحن سقاة قريش، فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبى سفيان فضربوهما فأطلقوهما، فقالا: نحن لأبى سفيان فتركوهما، وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقال: "إذا صدقاكم ضربتوهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبرانى عن قريش" قالا: هم وراء هذا الكثيب الذى ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم هم؟" قالا: كثير، قال: "ما عدتهم؟" قالا: ما ندرى، قال: "كم تنحرون كل يوم؟" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين تسعمائة والألف" ثم قال لهما: "فمن فيهم من أشراف قريش؟" قال: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترى، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدى، والنظر بن الحارث، وزمعه بن الأسود، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها".
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، أن رجلا أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم يعنى أبا جهل، وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره، ثم أرسله فى العسكر فما بقى خباء فى العسكر لم يصبه نضح من دمه، فبلغت أبا جهل فقال: وهذا أيضا نبى آخر من بنى المطلب سيعلم من المقتول غدا.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد سلمت لكم، فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، ننحر الجزر، ونطعم الطعام، وتعزف علينا القينات، ونشرب الخمر، فتسمع العرب لمخرجنا، وإن محمدا لم يصب العير، وإنا قد أذللناه، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق، وكان حليفا لبنى زهرة: يا بنى زهرة قد نجَّى الله أموالكم فارجعوا أو اجعلونى أجبنها لا ما يقول هذا يعنى أبا جهل فأطاعوه ورجعوا، فلم يشهدها زهرى واحد، ولم يكن من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس إلا بنى عدى لم يخرج منهم رجل.
وقال سعد بن معاذ: يا نبى الله ألا نبنى لك عريشا تكون فيه وتُعد عنده ركبائك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركايبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا رسول الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أن تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثم بُنىَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه.
قال عمر رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، هذا مصرع فلان" فوالذى بعثه بالحق ما أخطأ الحدود التى حد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا فى بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم فقال: "يا فلان يا فلان يا فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإنى قد وجدت ما وعدنى ربِّى حقا" قال عمر، يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا روح فيها، قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علىَّ شيئا".
وعن أنس: انطلقوا حتى نزلوا بدرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان" ويضع يده على الأرض، فما خالف أحدهم مصرعه، وكان لواء المشركين يوم بدر مع جهل، فساروا حتى كانوا بطرف الشعب، بعث عتبة بن ربيعة غلاما له نحو مغرب الشمس طليعة، فسار فى الوادى حتى إذا كان فى وجه الصبح، بعث النبى صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، وسعد ابن أبى وقاص فقال لهما: "سيرا فكأنكما ستلقيان طليعة للمشركين غلاما لعتبة بن ربيعة فأتيانى به" فسارا حتى إذا كانا بالوادى أصابا العبد فى وجه الصبح فأسراه، وأتيا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للغلام: "أخبرنى عن قومى؟" فقال: كيف تسألنى عنهم وقد بعثت إلىَّ عن بينة فأخذتنى فاسأل الذى أخبرك عنى فليخبرك عن قومك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما إنه يصدقنى عن قومى إذا أخبرنى" ثم قال له العبد: سل عما شئت، قال: "من أرسلك؟" قال عتبة بن ربيعة، ثم ذكر له عددا من أشراف الكفار.
ثم إن قريشا ارتحلت حين أصبحت، فأقبلت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من الكثيب إلى الوادى قال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تتحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم الغداة" فأجاب الله دعوته، قال: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض النبى صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم فما شرب منه يومئذ أحد إلا قتل" إلا ما كان من حكيم بن حزام فانه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد فى يمينه قال: والذى نجانى من يوم بدر.
فلما اطمأنت قريش بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوا حتى أنظر هل للقوم كمين أو مدد؟ فضرب فى الوادى حتى بعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئاَ قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما إن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإذا أصابوا أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فَرَوْا رأيكم، فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس، فأتى عتبة بن ربيعة يسأله الرجوع بالناس وترك القتال، فوافقه على ذلك، فغضب أبو جهل وأبى وحرش على القتال، وأفسد على الناس الرأى، فحميت الحرب، وتزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: "إن اكتنفتم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل".
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة، وفى صبيحة سبع عشر من شهر رمضان، وقيل: يوم الاثنين، قال البراء بن عازب: حدثنى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر بضعة عشر وثلاثمائة.
قال ابن إسحاق: وخرجت قريش وهم تسعمائة وخمسون مقاتلا، وقيل: ألف ومعهم مائتا فرس يقودونها، وقيل مائة وسبعمائة بعير، وكان عقبة بن أبى معيط بمكة، والنبى صلى الله عليه وسلم مهاجر بالمدينة يقول:

يا راكب الناقة القصوى تهاجرنا عما قليل ترانى راكب الفرسى
أعــلل الرمــح فيـكــم ثــــم أنهلــه والسيف يأخذ فيكم كل ملتبسى

فقال النبى صلى الله عليه وسلم وقد بلغه قوله: "اللهم كبه لمنخريه واصرعه" قال فجمح به فرسه يوم بدر فأخذه عبد الله بن مسلمة العجلانى، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت فضرب عنقه صبرا، وقاتل عكاشة بن محصن يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جزلا من حطب فعاد سيفا فى يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله تبارك وتعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العود، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد فى قتال أهل الردة رضى الله عنه.
قال السهلى: أما سيف عكاشة الذى كان جزلا من حطب، فقد قيل: إنه لم يزل متوارثا عند آل عكاشة، وقد روى مثل قصة عكاشة فى السيف، لا عن عبد الله بن جحش.
وروى فى مقتل أبى جهل فرعون هذه الأمة لعنه الله، عن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه أنه قال: بينما أنا واقف يوم بدر، نظرت عن يمينى وشمالى، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثى السن، فتمنيت أن لو كنت بين أضلع منهما، فغمزنى أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواه حتى يموت الأعجل، فتعجبت لذلك، فغمزنى الآخر فقال مثلها، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يزول فى الناس، وفى رواية يرفل فى الناس، وفى رواية يجول فى الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذى تسألان عنه وابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: "أيكما قتله؟" فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: "هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فنظر إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن الجموح، ومعاذ بن عفراء.
وفى رواية عن عبد الرحمن بن عوف: إنى لفى الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا أنس، فكأنى لم آمن مكانهما إذ قال لى أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرنى أبا جهل، فقلت: يا ابن أخى وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لى الآخر سرا من صاحبه مثله، فما سرنى أنى بين رجلين بمكانهما، فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء، قال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ينظر لنا ما صنع أبو جهل" فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ قال: وهل فوق رجل فقتلتموه أو قال قتله قومه، أى لا يقال فى غير ذلك.
وعن موسى بن عقبة: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فالتمس فيهم أبا جهل فلم يجده، وعرف ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم لا يعجزنا فرعون هذه الأمة" فسعى له الرجال حتى وجده عبد الله بن مسعود مصروعا بينه وبين المعركة غير كبير، وروى أن أبا جهل قال لابن مسعود لما وجده وبه رمق: لو غيرك قتلنى، وروى أن أبا جهل قال لابن مسعود لما وجده وبه رمق: لو غيرك قتلنى، وروى أنه وجده وقد ضربن رجله فضربه بسيف غير طائل فلم يغن شيئا حتى سقط سيفه من يده، فضربته حتى برد، وروى أن أبا جهل وجده ابن مسعود وبه رمق فقال: هل أعمر من رجل قتلتموه.
وروى أنه لما فرغ القتال، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يعجزك فرعون هذه الأمة" يعني أبا جهل، وقد التمس فى القتلى ولم يوجد، جعله معاذ بن عفراء من شأنه فقصده فضربه ضربة طيرت قدمه بنصف ساقه، قال فضربنى ابنه عكرمة على عاتقى، فطرح يدى وتعلقت بجلدة، فجعلت أسحبها، ولما آذتنى جعلت عليها قدمى فقطعتها، ومر به أخى فضربه حتى أثبته، ومر به ابن مسعود وبه رمق أعنى أبا جهل فقال: لمن الدبرة اليوم؟ قال ابن مسعود: الله ورسوله.
وذكر أبو إسحاق: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم البشير يوم بدر بقتل أبى جهل استحلفه بالله الذى لا إله إلا هو لقد رأيته قتيلا، فحلف له، فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم سادا، وفى رواية ابن إسحاق: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس أبو جهل فى القتلى، فمر به ابن مسعود بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه قال: وكان قد آذانى بمكة، ولكزنى فقلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟ وفى رواية: فقال لى: لقد ارتقيت يا رُوَيعى الغنم مرتقى صعبا، ثم احترزت رأسه، وجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبى جهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الذى لا إله غيره" وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نعم، والله الذى لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله.
قال السهلى: الله الذى لا إله غيره بالخفض عند سيبويه وغيره، لأن الاستفهام عوض من الخافض عنده، وإذا كنت مخبرا قلت: الله بالنصب عند المبرد، وأجاز سيبويه الخفض أيضا لأنه قسم، ولا يجوز إضمار حرف الجر إلا فى مثل هذا الموضع، أو ما كثر استعماله جدا كما روى أن رؤبة كان يقول: خير عافاك الله إذا قيل له كيف أصبحت، وذكر السهيلى، عن قاسم بن ثابت: أن قريشا لما توجهت إلى بدر مرَّ هاتف من الجن على مكة فى اليوم الذى وقع بهم المسلمون ينشد بأنفذ صوت، ولا يرى شخص:

أزار الحنفيون بدراً وقيعة سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤى وأبرزت خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدوَّ محمد لقد جاز عن قصد الهدى وتحيرا

فقال قائلهم: مَنِ الحنفيون؟ فقالوا: محمد وأصحابه، يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف، ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين بمصاب قريش، وذكر أبو سعيد النيسابورى: أنه لما توجه المشركون إلى بدر، وكان فتيان ممن تخلف عنهم سمارا بذى طوى، ولا ينامون حتى يذهب صدر الليل يتناشدون الأشعار، ويتحدثون فبينما هم كذلك ليلة إذ سمعوا صوتا قريبا منهم، ولا يروا القائل رافعا صوته يتغنى:

أزار الحنفيون بدراً مصيبة سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أرنت لهم صم الجبال وأفزعت قبائل ما بين الوتير وخيبرا
أساخت جبال الأخشبين وجــــ ردت حرائر يضربن الترائب حسرا
ويا ويح من أمسى عدو محمد لقد ذاق ذلا فى الحياة وخسرا

فخرجوا فزعين حتى أتو الحجر، فوجدوا مشيخة جلة فأخبروهم الخبر، فقالوا لهم: إن كان ما تقولون حقا فإن محمدا و أصحابه يسمون الحنيفية، فما بقى أحد من الفتيان الذين كانوا بذى طوى إلا وعك، فما مكثوا إلا ليلتين أو ثلاثا حتى قَدِمَ الحيسمان الخزاعى بخبر أهل بدر.
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعى، فقالوا له: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة ابن ربيعة، وشيبة بن ربعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه، وأبو البحترى، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية، وهو قاعد عند الحجر: والله إن يعقل هذا فسلوه عنى، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذاك جالس فى الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبته الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزا، وكنت أنحت الأقداح فى حجرة زمزم، فوالله إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهرى، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أو هبعيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلىَّ فعندك لعمرى الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخى كيف كان أمر الناس فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا ايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، لا يقوم لها شئ.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدى، ثم قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، وثاورته فاحتملنى فضرب بى الأرض، ثم برك على يضربنى، وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذه فضربته به ضربة شديدة، فلقت فى رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته، وهى قرحة [تصيب الإنسان] تتشاوم العرب بها، ويرون أنها تعدو أشد العَدْوة فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه، قاله الطبرى.
قال أبو سعيد: تركوه فى بيته حتى انشق، وحينئذ ضموه إلى حدار وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه، وكذا قال يونس بن بكير أنهم لم يحفروا له، ولكنأسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه، ورأى أبا لهب بعض أهله فى المنام بشر حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، غير أنى شقيت فى مثل هذه، وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام بعتقى ثويبة هذه، أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره البخارى والله أعلم بصحته أو بطلانه.
وروى غيره من قومنا أن الذى رآه أخوه العباس بن عبد المطلب، وأنه قال: مكثت حولا بعد موت أبى لهب لا أراه فى النوم، ثم رأيته فى شرحال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة إلا أن العذاب يخفف عنى كل يوم اثنين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، فبشرت أبا لهب بمولده ثويبة مولاته فأعتقها، فنفعه وهو فى النار، والله أعلم بصحته أو بطلانه أيضا، وذلك أن الإشراك محبط للعمل، فكيف يسقى به أو يخفف به العذاب فى الآخرة.
وذكر إمام الأندلس أبو عمرو بن عبد البر، عن ابن عمر أنه قال: خرجت مرة فمررت بقبر من قبور الجاهلية، فإذا رجل خرج من القبر يتأجج نارا، فى عنقه سلسلة، ومعى إداوة من ماء، فقال لى: يا عبد الله اسقنى، فقلت: عرفنى فنادانى باسمى أو كلمة تقولها العرب يا عبد الله، إذ خرج رجل من القبر فقال: يا عبد الله لا تسقه، فإنه كافر من الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، ثم أخذ السلسلة فاجتذبه فأدخله القبر، ولعله أراد بالقبر مدفنه، فإنه ألقى فى البئر مع غيره.
وقد روى نافع ذلك عن ابن عمر، وذكر أن ذلك ببدر، وأن الرجل خرج من الأرض، وأن الأسود خرج معه، ماسكان بطرف سلسلة متصلة بعنقه، وأنه اجتذبه وأدخله الأرض، قال بن عمر: فأخبرت النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: "أو قد رأيته، ذلك عدو الله أبو جهل وهو عذابه إلى يوم القيامة".
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفراغ من الحرب، عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة إلى أهل السافلة، قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زيد بن حارثة قد قدم فجئته وهو واقف بالمصلى، قد عشية الناس وهو يقول: قتل تبة بن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البحترى، والعاصى بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، فقلت: يا أبتى أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بنى.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، ومعه الأسارى فيهم عقبة بن أبى معيط، والنظر بن الحارث، حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء أمر بقتل النظر بن الحارث، فقتله على، ثم أمر بقتل عقبة بن أبى معيط، ولما بلغ النجاشى مقتل قريش ببدر، وما أظفر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم، خرج فى ثوبين، أيكم يعرف بدرا فأخبروه، فقال النجاشى: أنا عارف بها، قد رعيت الغنم فى جوانبها من الساحل على بعض مياهها، ولكن أردت أن أتثبت منكم، قد نصر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ببدر، فاحمدوا الله تعالى على ذلك.
وذكر السهلى: أنه أرسل إلى المسلمين الذين عنده، وهم جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه فإذا هو قد لبس المسوح، وقعد على الرماد والتراب فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال: إنا نجد فى الإنجيل أن الله سبحانه إذا أحدث لعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا، وأن الله تعالى قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهى أن النبى صلى الله عليه وسلم بلغنى أنه التقى هو وعدوه بواد يقال له بدر، كثير الأراك كنت أرعى فيه الغنم على سيدى رجلا من بنى ضمرة، وأن الله سبحانه قد هزم أعداءه فيه، ونصر دينه.
وكان سهيل بن عمرو قد قام فى قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان بالعير، فقال: يا آل غالب أتاركون أنتم محمداً والصبات من أهل يثرب، يأخذون عيركم وأموالكم، من أراد مالا فهذا مالى، ومن أراد قوة فهذه قوة، فلما أسر يوم بدر قال عمر رضى الله عنه: يا رسول الله انزع ثنيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا فى موطن أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أمثل به فيمثل الله بى وإن كنت نبيا أنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه" فكان كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم، أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه، فكان له مقام محمود فى تثبيت أهل مكة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.
وأسر أبو عزة عمرو بن عبد الله فقال: يا رسول الله لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وبنات وعيال، فامنن علىَّ منَّ الله عليك، فمنَّ عليه، وأخذ عليه أن لا نظاهر أحدا عليه، ولم يف بالعهد فقتله النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد، وله قال النبى صلى الله عليه وسلم فى غزوة أحد، وله قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين" انتهى.
وغزوة بدر أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، ومنها أذل الله الكفار، نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: "خيرنا أو من خيرنا" قال: كذلك الملائكة الذين حضروها عندنا.
وذكر بعضهم أنه خرج لبدر يوم السبت لاثنتى عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، واستحلف على المدينة أبا لُبابة الأنصارى، وخرجت الأنصار ولم تخرج قبل ذلك معه، وأن عدة من خرج من المسلمين ثلاثمائة وخمسة، وضرب الثمانية بسهمهم وأخرهم لم يحضروها وأن معهم ثلاثة أفراس: بعرجة بوزن دحرجة للمقداد، واليعسوب للزبير، والسبيل لمرثد الغنوى، وسبعون بعيرا، وأن أبا سفيان كان بالسام فى ثلاثين راكبا منهم: عمرو بن العاص، ومخرمة ابن نوفل الزهرى، وقيل: فى أربعين، ومعهم مال عظيم.
وأنه صلى الله عليه وسلم أتاه خبر خروج قريش مانع العير وهو بالروحاء، وما استشار الناس فى حرب النفير، أو طلب العير، حتى كان فى ذفران، وقيل: أتاه الخبر وهو فى ذفران، وأنه أخذ فى الروحاء عينا لهم أخبره بخبرهم، وبعث عينا من جهينة حليفا للأنصار يدعى أريقط، فأتاه أيضا بخبرهم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: أشيروا علىَّ أيها الناس وتكلموا كما مر، وإنما أراد الأنصار لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت فأنت فى ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن غشيه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسيروا معه غلى عدو من بلادهم.
وأنه لما التقى الجمعان خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، ودعى للمبارزة، فخرج غليه عوف ومعاذ ابنا الحارث، واسم أمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: ما لنا فيكم حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا ابا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا على" فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فتسموا لهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز أبو عبيدة وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز على الوليد بن عتبة وهو الصحيح، وقيل بارز أبو عبيدة شيبة، وحمزة عتبة، فقتل على الوليد، وقتل حمزة الذى بارزة، واختلف أبو عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة فى ركبة أبى عبيدة، ومال حمزة وعلىّ على الذى بارزه أبو عبيدة فأعاناه على قتله.
وقال: بارز علىّ شيبة، وحمزة عتبة وقتلاهما، وأبو عبيدة الوليد وأكثر كل منهما جراحات الآخر، ثم مال علىّ وحمزة على الوليد وقتلاه، وحملا أبا عبيدة وهو غير مناسب، لأن أبا عبيدة وحمزة كانا شيخين كعتبة وشيبة، بخلاف على والوليد فشابان، ولم يعب صلى الله عليه وسلم إعانة حمزة وعلىّ لأبى عبيدة، وأن عكرمة بن أبى جهل ضرب عُكاشة ابن محصن بتخفيف الكاف وتشديدها [على عاتقة] فتعلقت بجلدة، فبصق عليها صلى الله عليه وسلم فالتصقت، وقيل: وضع رجله عليها فقام فانقطعت، فجاء بها النبى صلى الله عليه وسلم فبصق عليها فالتصقت ومات فى خلافة عثمان.
وأن قتلى المشركين طرحوا فى قليب حفروه تيسيرا على الصحابة، إلا أمية بن خلف فإنه ضخم وقد انتفخ فى درعه حتى ملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة، وأما ما روى [أنه] نادى على القليب: "يا عتبة ويا شيبة ويا أبا جهل ويا أمية" فوجهه أنه نادى أمية فيمن نادى وكان قريبا من القليب، وكان من جملة رؤسائهم، ونادى: "يا أهل القلب بئس العشيرة أنتم، كذبتمونى وصدقنى الناس" ولما قال له عمر: كيف تكلم الموتى؟ قال: "ما أنتم بأسمع منهم لكن لا يجيبون" كما مر قالت عائشة: أراد أنهم يعلمون، ثم قرأت: { إنك لا تسمع الموتى } والصحيح أنهم سمعوه للزيادة فى الحسرة، بأن أحياهم الله وأسمعهم بآذانهم بناء على أن الروح ترد للميت كله أو من رأسه إلى نصفه قولان، أو بأرواحهم بناء على أنها لا ترد، وإذا جاز أن يعلموا جاز أن يسمعوا بأمر الله، فالنبى ولو كان لا يسمع الموتى لكن إذا شاء الله أسمعهم، أو بلغ الله صوته أسماعهم، ومعنى الآية أن الله يوصل الموعظة إلى الآذان ويوفق لا أنت.
ومن آيات بدر الباقية: أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، وليس كل واحج يسمع ذلك الصوت، وعن بعضهم أنه لما فرغ من بدر فى آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح، وروى أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية فقعد على قبرها ودمعت عيناه وقال: "أيكم لم يفارق الليلة؟" فقال أبو طلحة، أنا والمفارقة الجماع، فأمره أن ينزلها فى قبرها، وكان عثمان مجنبا وإلا فهو أحق بإنزالها لأنها زوجه، وقد تخلف عن بدر لأجلها والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم حضر دفن بنته أم كلثوم لا رقية.
وعن بعض أنه أمر بقتل عقبة بن أبى معيط عاصم بن ثابت عند انصرافه فقتله، وجعل عبد الله بن كعب المازنى على الغنائم، وأمر عليا بالصفراء بقتل النظر بن الحارث فقتله، ولما خرج من مضيق الصفراء قسم الغنائم سواء، وقدم المدينة قبل الأسارى بيوم، ولما قدموا فرقهم على الصحابة وقال: "استوصوا بهم خيرا" وقام النواح على قتلى قريش شهرا.
{ وتَودُّونَ } تمنون { أنَّ غَير ذَاتِ } صاحبة { الشَّوْكة } الشدة والقوة، وأصلها الحدة استعارة من واحدة الشوك { تكُونُ لَكُم } والطائفة صاحبة الشوكة النفير الذى استنفرهم أبو سفيان، نادى أبو جهل على الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، يعنى بالنجاء الإسراع، عيركم وأموالكم إن أصابها محمد فلن تفلحوا بعدها أبدا، وجاءوا فى كثر وسلاح تام، والطائفة غير صاحبة الشوكة هى العير، تمنوها لكثرة الخير فيها، وقلة رجالها، وهى أربعون رجلا أو ثلاثون كما مر، فيهم أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام، ومخرمة بن نوفل.
وروى أنه صلى الله عليه وسلم استشارهم فى العير وقد ساحل بها أبو سفيان، وبعدت وفاتت، وفى النفير وقالوا: العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجهه غضبا، ثم ردّ عليهم فقال: "إن العير مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد اقبل" فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليك، عليك بالعير ودع العدو، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم عمر كما مر، ثم سعد بن عبادة كما مر، وقيل: قال له سعد: انظر أمرك فوالله لو سرت إلى عدن لم يتخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قام المقداد بن عمرو فقال ما مر وأحسن، ثم سعد بن معاذ فقال ما مر، ولم يقل بعده: "أشيروا علىَّ أيها الناس".
وروى أنه لما استشارهم قال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير، فقال ما مر من أنها فاقت وأن هذا أبو جهل قد أقبل الخ، وروى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شئ، فناداه العباس وهو فى وثاقه: لا يصلح، فقال له: "لم؟" قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، قال: "صدقت" وقرأ أبو عمرو فى رواية أبى حاتم بإدغام التاء الشوكة فى تاء تكون.
{ ويُريدُ الله أن يُحقَّ الحقَّ } أن يثبته ويظهره { بكَلماتِهِ } أى مما أوحى إليه من الأمر بقتال ذات الشوكة، وأمر الملائكة بالنزول نصرة وما قضى من الأسر والقتل، أو إرادة ما سبق من ذلك فى الأزل، وقرأ أبو جعفر وشيبة فى رواية عنهما بكلمته بالإفراد، وإرادة معنى الجمع، أو معنى المفرد الجامع لذلك، كأنه قيل: بأمره أو قضائه، وزعم بعضهم أنها قراءة نافع.
{ ويقْطَع دَابر الكَافرينَ } أى يستأصلهم كمن بدل بأول الشئ حتى أتى على دابره، أى أخره، فإما أن يراد قطعهم كلهم تحقيقا على أن المرا د كفار قريش، وهذا مبدأ قطعهم، وما زالوا فى قلة حتى لم يبق واحد، وإما أن يكون عبارة عن الغلبة، وكلاهما وارد فى كلام العرب.