التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٠
-الأنفال

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أيُّها النبىُّ قلْ لمنْ فى أيدِيكُم } فى مملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم { مِنَ الأسْرى } وقرأ ابن محيصن بإدغام النون فى اللام، وقرأ أبو عمر، وأبو جعفر، وقتادة، ونصر بن عاصم، والحسن، والجحدرى فى رواية عنهما: من الأسارى { إنْ يَعْلم اللهُ فى قُلُوبكم خَيراً } أى إن كان فيها خير كان كونه فيها ملزوم لعلم الله، وعلم الله لازم له، والمراد بالخير الإيمان والإخلاص { يؤتكُم خَيراً } أى يؤتكم أفضل دنيا وأخرى، أو أخرى.
{ مما أخِذَ } وقرأ الأعمش يثبكم خيراً مما أخذ منكم، وقرأ الحسن، وشيبة بن نضاح، وأبو حيوة: يؤتكم خيرا مما أخذ بالبناء للفاعل الذى هو اللهِ، أى أخذ هو أى الله منكم وهو الفداء، وقد مر أنه أربعة ألاف على كل أسير وهو قول قتادة، وقال عبيدة السلمانى: جعل على كل أسير مائة أوقية، و الأوقية أربعون درهما، ويعادلها ستة دنانير، وقيل: إن أسرى بدر افتدوا بأربعين أوقية أربعين أوقية، إلا العباس فبمائة أوقية، وقال موسى بن عقبة: بأربعين أوقية أربعين أوقية، وقال أبو نعيم بإسناد، عن ابن عباس: إنه جعل على العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فنزلت الآية.
وفى رواية عنه: الأسرى فى هذه الآية عباس وأصحابه قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا، فنزلت الآية، وأخرج ابن إسحاق
"عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبى طالب، وابن أخيك نوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو قال: إنى كنت مسلما، ولكن القوم استكرهونى، قال: الله أعلم بما تقول إن يك ما تقول حقا فإن الله تعالى يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا"
وذكر بعضهم أنه من أفضل الأسرى العباس، وعقيل، ونوفل، وكل أسلم، وكان العباس أسلم قديما وكتم إسلامه، وخرج من المشركين يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لقى العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها" ففادى نفسه ورجع إلى مكة، وقيل: أسلم يوم بدر فاستقبل النبى صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وقيل: أسلم يوم فتح خيبر، وقيل: كان يكتم إيمانه وأظهره يوم الفتح، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه: "إن مقامك بمكة خير لك".
وقيل:
"سبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين، وكان من العشرة الذين ضمنوا أن يطمعوا الناس الذين خرجوا إلى بدر، وجاءت نوبته يوم بدر فاقتتلوا، ولم يطعم شيئا، وأخذت منه فى الحرب حين أسر، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسبها من فدائه، فقال صلى الله عليه وسلم: أما شئ خرجت به تستعين علينا به فلا نتركه لك وكلفه فداء نفسه وفداء بنى أخيه عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث، فقال: تركتنى أتكفف قريشا ما بقيت، فقال صلى الله عليه وسلم: فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وكان قد دفع إليها عند إرادة الخروج إلى بدر أربعين أوقية ليلا، وقال لها: لا أدرى ما يكون فى وجهى هذا أى توجهى، فإن مت فهى لك ولعبيد الله، وعبد الله، والفضل، وقثم، فقال: من أعلمك بهذا يا ابن أخى، فإنه ما كان ذلك منى إلا إليها ليلا؟ فقال: أعلمنى الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، وكنت مرتابا ولا ريب الآن، وأمر عقيلا ونوفلا فأسلما" .
وروى أن الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لهم ميل إلى الإسلام، وأنهم يؤملونه، وأنهم إن فودوا ورجعوا إلى قومهم التزموا جلبهم إلى الإسلام، وسعوا فى ذلك، ونزلت الآية فى ذلك.
{ ويغْفرْ لكُم } ما سلف قبل الإيمان { واللهُ غفورٌ رحيمٌ } قال العباس: أبدلنى الله مما أخذ منى عشرين عبدا أدناهم ليضرب فى عشرين ألف درهم، أى يتجر، وأعطانى زمزما ما أحب أن لى بها جميع أموال أهل مكة، وأن أنتظر المغفرة من ربى، يشير إلى الآية، وفى رواية: أن العشرين عبدا بما معهم مكان العشرين أوقية، وأعطانى زمزما إلى أخر ما مر.
وفى البخارى من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين فقال: "اشروه" يعنى صبوه فى المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد قبل صلاة الظهر، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاء العباس فقال: أعطنى فاديت نفسى وفاديت عقيلا، فقال له: "خذ" فحثا فى ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال يا رسول الله مُر بعضهم يرفعه بالحزم إلىَّ، قال: "لا" قال: فارفعه أنت علىَّ، قال: "لا" فنثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال يا رسول الله مُر بعضهم يرفعه علىَّ، قال "لا" قال: فارفعه أنت، قال: "لا" نثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه، فما قام عليه الصلاة والسلام وثم منها درهم، وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منى حين كان يحثو بنفسه فى ثوب نفسه، وروى عن العباس أنه قال: ما أود أن هذه الآية لم تنزل ولى الدنيا بأجمعها.