التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٠
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إلاَّ تنْصُروهُ } إلا هى إن الشرطية ولا النافية، لكن أبدلت النون لاما وأدغمت فى لام لا، ولذلك حذفت النون فى تنصروه، وابن مالك على جلالته فى النحو والتصريف كغيرهما من الحديث والتفسير، والفقه واللغة، والعروض، ذكر إلا هذه فى شرح التسهيل من أقسام إلا، وإنما ذلك منه على جهة الغفلة، أو زلة القلم، وجواب إن محذوف تقديره فسينصره الله وقوله:
{ فَقَد نَصرهُ اللهُ إذْ أخْرجَه الَّذينَ كفَرُوا ثَانىَ اثْنينِ } كالدليل عليه القائم مقامه، وذلك أن نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد يتضمن أنه ينصره، وقد كان معه آلاف رجل، وهذا باعتبار شأن الإنسان فى النظر إلى الوسائط، وإلا فالقلة والكثرة عند الله سبحانه سواء، أو الآية مشيرة إلى أن وجودكم وعدمه سواء، ألا ترون أنه نصره إذ لم تكونوا معه، ولم يكن معه إلا واحد، وأجاز جار الله كون قوله: { فقد نصره الله } جوابا على أن المعنى فقد أوجب الله له النصر المطلق فى ذلك الوقت الذى كان فيه ثانى اثنين، فنصره فيه، وينصره فى غيره انتهى بإيضاح.
وذكر النقاش: أن هذه الآية أول آية نزلت من سورة براءة، وأسند الإخراج إلى الكفار، لأنه لما هم بإخراجه أذن الله له بالخروج، أو لأنهم ضيقوا عليه حتى خرج، وثانى حال، وقرىء بإسكان الياء على لغة من لا يظهر النصب فى المنقوص، وهى قراءة حكاها أبو عمرو بن العلاء، والآخر من الاثنين هو أبو بكر،
"روى أن جبريل عليه السلام، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة فقال: من يخرج معى؟ قال: يخرج معك أبو بكر، وطلبه أبو بكر بلا علم منه بمقالة جبريل أن يخرج معه، فقال: نعم" .
{ إذ هُما فى الغَارِ } إذ بدل بعض من إذ قبله، لأن المراد بإذ قبله زمان متسع، سمى كله زمان الإخراج، والغار ثقب فى أعلى ثور، وثور جبل على يمين مكة، وهو غربى لها، بينهما مسيرة ساعة، وأل للعهد الذهنى.
{ إذْ } بدل ثان بدل بعض، أو بدل من إذ الثانية بدل الشىء من الشىء، أو متعلق باستقرار قوله: { فى الغار } أو بثانى { يقُولُ لصَاحِبه } هو أبو بكر رضى الله عنه، من أنكر صحبة أبى بكر أشرك للإجماع على أنه المراد فى الآية { لا تَحْزَن إنَّ اللهَ مَعَنا } تعليل جملى، والمعنى لأن الله معنا بالحفظ،
"طلع المشركون على الغار، فأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين ثالثهما الله فأعماهم الله عن الغار، فما علموه غارا، وجعلوا يترددون حوله فلم يروا له فما، فهو عندهم صخرة" ، وقيل: علموه غارا ورأوا فمه، لكن بعث الله حمامتين وحشيتين باضتا فى أسفله، وعنكبوتا نسج على فمه بقدر ما يظن أنه نسج لعام وهو المشهور.
{ فأنْزلَ اللهُ سَكينتهُ } الطمأنينة التى خلقها تسكن إليها القلوب، ورحمة منه سبحانه { عَليْه } أى على رسوله، وقيل: الضمير عائد إلى صاحب وهو أبو بكر رضى الله عنه، وهو أظهر لأنه كان منزعجا فى الغار، بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يزل ساكن النفس، مطمئنا، والجمهور على الأول وهو أنسب بما يعد ذلك فى الآية، ووجهه أنه ولو كان لم يزل ساكن النفس مطمئنا، لكنه قد تعتريه مخافة، ما أو أنه أراد أنه أنزل عليه سكينته على السكينة التى هو فيها، أو أنه أراد بالسكينة الحفظ الذى من شأنه أن يسكن إليه ساكن، أو أمرا يختص بالتبيين.
ولا يخفى ما خص الله به أبا بكر، واختاره به على غيره بعد النبى صلى الله عليه وسلم، مثل جعله صاحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار حالة الخوف لشدة صفائه فى الظاهر والباطن، وذكر صحبته فى القرآن، ومثل جعله صاحبا له فى الهجرة قبل الغار، وفيه وبعده، صعد يوما على المنبر وقال: أيكم يحفظ سورة براءة؟ فقال رجل: أنا، فقال: اقرأ فقرأ، فلما انتهى إلى قوله: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال: أنا والله صاحبه.
قال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبى بكر رضى الله عنه، قال سفيان بن عيينة: عاتب الله الأمة بقوله: { إلا تنصروه } إلا أبا بكر فإنه خرج بقوله: { إذ أخرجه الذين كفروا } الخ، وليس كذلك، فإن المعاتبة إنما هى لمن تخلفه، ومثل عدم تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر ولا حضر، هو مثل نفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ونيته، وقد ذكر بعض العلماء أنه ثانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أكثر الأحوال كالإمامة والتوبة.
ومثل كونه أول من آمن عند بعض، وقيل: علىّ، وقيل: خديجة، وقيل: راهب، وعلى يده آمن عثمان، وطلحة، والزبير، ومثل كونه ما يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى موقف من غزواته إلا وأبو بكر معه فى ذلك الموقف، ومثل كون الله ثالثهما، ومثل ذكره بخصوصه بإنزال السكينة عليه مع عموم إنزال السكينة على المؤمنين إياه على ما مر.
وعن عمر رضى الله عنه: وددت أن عملى كله مثل عمل أبى بكر يوما واحدا من أيامه، وليلة واحدة من لياليه، أما يومه فيوم منعت العرب الزكاة فقال: لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم، فقال لى: أجبار فى الجاهلية خوار فى الإسلام، أنه قد انقطع الوحى، وتم الدين، أينقص وأنا حى، وأما ليلته فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ودخل قبله ليتلقى ما فيه من ضر وكسحه، وشق إزاره وسد به ثقبات، وبقيت واحدة فألقمها رجله، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل فدخل، فوضع رأسه فى حجره، ولدغ فى رجله من الثقبة، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مالك يا أبا بكر؟" فقال لدغت فداك أبى وأمى، فتفل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده وعادت عليه هذه اللدغة، وكانت سبب موته ليموت شهيدا، أو مما لا ينسى لأبى بكر مفارقته الرياسة التى هو فيها فى طاعة الله ورسوله، وفى الكفر مدة وإباء.
{ وأيَّدهُ } قوى رسوله { بجُنودٍ } من الملائكة { لَم تَروْها } أنزلها عليه لتحرسه فى الغار، تصرف وجوه الكفار من الغار، أو عن رؤيته، وليلقى الرعب فى قلوب الكفار حتى يرجعوا، وليعينوه على العدو ويوم بدر والأحزاب وحنين، فالعطف على: { نصره الله } ويجوز على: { أنزل الله سكينته عليه } أى على رسوله، ويضعف هذا إذا رجع الضمير لأبى بكر، والخطاب للناس أو للمؤمنين أو للمعاتبين، وهو أولى، وفى مصحف حفصة: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما، وقرأ مجاهد: وأيده بهمزة فألف وتخفيف الياء بوزن أفعل.
{ وجَعَل كَلمَة الَّذينَ كَفرُوا } وهى كلمة الشرك أو الدعاء إلى الكفر، وقيل: كيدهم بالقتل { السُّفْلى } بإدحارها ودحضها، وذلك حصر لتعريف الطرفين وهما كلمة والسفلى، فإنهما مفعولا جعل، وأصلهما مبتدأ وخبر، كأنه قيل: ما جعل كلمة سفلى إلا كلمة الذين كفروا، وهذا كالنص فى أن كلمة الإسلام عليا، وصرح بذلك مع قصر العلو عليه فى قوله:
{ وكَلمةُ اللهِ } أى التوحيد، وقيل: الدعاء إلى الإسلام، وقيل: الشرع كله، وقيل: وعده بالنصر، وقرأ الحسن، ويعقوب بنصب كلمة عطفا على معمول عامل، ويناسبهما، قال الأعمش: من أنه رأى فى مصحف أنس بن مالك، المنسوب إلى أبى بن كعب: وجعل كلمته هى العليا، والرفع أولى وأبلغ لإشعاره بأن كلمة الله عاليه فى نفسه بدون أن تكون أسفل، ثم صيرت أعلى، فإنه ولو فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه، ولا اعتبار، ولكونه أولى وأبلغ، عقب ذلك بضمير الفصل وهو قوله:
{ هِىَ } وهو ضمير لا محل له، أو حرف وهو ضعيف وما بعده خبر كلمة أو مبتدأ خبره ما بعده، والجملة خبر كلمة وعلى النصب، وهو ضمير لا محل له، أو حرف وما بعده مفعول ثان، أو مبتدأ خبره ما بعده والجملة مفعول ثان { العُلْيا } فى ذاتها، وينصر الله لها وإظهارها، ونصر رسوله حيث حضر، وحفظه وتأييده بالملائكة، وبتخليصه من أيدى الكفار إلى المدينة إذ هاجر، والحكمة فى هجرته إلى المدينة، وإقامته بها حتى مات أن تتشرف به المدينة كما تشرفت بإبراهيم وإسماعيل، فلا يتوهم أن شرفه بمكة، وقد أجمعوا على أن أفضل البقاع قبره، ويليه على الصحيح الكعبة، والمسجد الحرام، وخرج بعد بيعة العقبة بنحو ثلاثة أشهر، وقيل: أول ربيع الأول بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وقدم المدينة لاثنى عشرة خلت من ربيع الأول، وقد خرج يوم الخميس عند بعض، وتواترت الأخبار أنه خرج يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ويجمع بأنه خرج من مكة يوم الخميس، ومن الغار يوم الاثنين أقام فيه ثلاث ليال، وخرج صبيحة الثالثة فقيل فى أثنائها:
"قالت عائشة رضى الله عنها: بينا نحن جلوس فى بيت أبى بكر فى نحر الظهيرة، وهو أول الزوال، إذا قال قائل لأبى بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فدى له أبى وأمى، والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن له فدخل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: أخرج مَنْ عندك فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبى أنت يا رسول الله، وذلك أنه قد زوجه عائشة رضى الله عنها قبل ذلك، وكان معها غيرها مثل أمها، قال صلى الله عليه وسلم: إنه قد أذن لى فى الخروج قال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال أبو بكر: فخذ بأبى أنت يا رسول الله إحدى راحلتى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن" لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله، ويكمل فضل الهجرة، وتكون على أتم الأحوال.
قالت عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز، وصنعنا لهما سفرة فى جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله تعالى عنه بغار ثور، ومكثا فيه ثلاث ليال وهو المشهور، وقيل: بضعة عشر يوما،
"ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خروجه على موضع عند باب الخياطين يسمى الحزورة بوزن قسورة لا بالتشديد كما قيل، نظر إلى البيت وقال: والله إنك لأحب أرض الله إلىَّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله" مخاطبا لمكة وهو من أصح ما يحتج به فى تفضيل مكة على المدينة، ولم يعلم بخروجه إلا أبو بكر وآله وعلىّ.
وروى أنهما خرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ليلا، ولما فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب نحو ثور أثره هنالك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع به لما انتهى إلى ثور، وقيل: اتبعه أيضا فى الجبل حتى بلغ فم الغار، وقال: هو فى الغار، فكذبوه البيضتين والحمامتين والنسج، وقيل: لما وصل الغار قال: من هنا طلع إلى السماء، وشق على قريش خروجه، وجزعوا، وجعلوا مائة ناقة لمن رده، ولما دخل الغار أنبت الله على بابه راءة وهي من شجر السهل، فحجبت عن الغار أعين الكفار، وقيل: هى أم غيلان، وعن أبى حنيفة تكون كقامة الإنسان، زهرها أبيض يحشى به المخاد، فيكون كالريش لخفته ولينه، لأنه كالقطن.
ويروى أن الله سبحانه أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين باضتا فيه وعششتا، ووقفتا بفمه، وقيل: وقفت بفمه يمامة، وذلك مما صد المشركين عن الغار، قيل: حمام الحرم من نسل الحمامتين.
أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر فى الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا به: مالك؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين، فعرفت أنه ليس فيه أحد، وقال الآخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما إربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد، وقالوا: لو دخل الغار لتكسر البيض، وتفسخ نسج العنكبوت.
"وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعم أبصارهم فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار" ، وروى " أن أبا بكر قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما" "وروى أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تقطرتا دما، فبكيت بكاء شديدا وعلمت أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعود الحفاء والجفوة" ، وروى "أنه رأى ثقبا فى الغار فألقمه عقبه لئلا يخرج ما يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت الأفاعى والحيات تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر، ولما رأى القافة وسمع وقع حوافر دواب المشركين، اشتد حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا بكر؟ فقال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلتَ أنت هلكت الأمة، ولا يعبد الله بعدك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا فجعل أبو بكر يمسح الدموع عن خده، وكان أرق خلق الله، وأحضرهم دموعا" .
"وكان حين خرجا إلى الغار، تارة يمشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة أمامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب فأمشى خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشى بين يديك" ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل تمامة فى باب الغار، فجعلها فتخليها المشركون نابتة فانصرفوا، وقيل: جعلها بيده.
والمشهور أن أنصرافهم عن الغار للحمامتين والبيضتين ونسج العنكبوت، ونسجت العنكبوت أيضا على داود عليه السلام حين طلبه جالوت، وعلى الغار الذى دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن نبيح الهذلى بالعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل فى غار، فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين، وعلى عورة زيد بن الحسين بن على أبى طالب حين قتل وصلب عريانا، فى سنة إحدى وعشرين ومائة.
وكان يبيت عندهما إذا كانا فى الغار: عبد الله بن أبى بكر وهو شاب ثقف أى ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن، أى سريع الفهم، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا خبرهما به، يأتيهما حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبى بكر منحة من غنم فيريحها عليهما بعد العشاء بساعة كل ليلة،
"وكان أبو بكر رضى الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم استأجرا عبد الله بن أريقط الديلى، وهو على دين قريش، ولم يعرف له إسلام دليلا، وهو ماهر فى الدلالة، دفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح الثالثة، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، وأخذ بهم الدليل طريق الساحل، ومروا بقديد على أم معبد عاتكة بنت خالد الخزاعية تسقى وتطعم من مر، وكان القوم مسنتين، فطلبوا لبنا ولحما يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخيمة خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من لبن؟ فقالت: هى أجهد من ذلك، فقال: أتأذنين أن أحلبها فقالت: نعم بأبى أنت وأمى، إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها، ومسح ضرعها، وسمى الله ففتحت ما بين رجليها، ودرت ودعا بإناء يشبع الجماعة فحلب فيه سائلا، وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرا، ثم حلب فيه وتركه عندها، ولبثت قليلا.
وجاء زوجها أبو معبد أكتم بن أبى الجون، ويقال ابن الجون يسوق أعنزا عجافا مخهن قليل، فقال: أنى لك هذا يا أم معبد والشاء عازل حيال ولا حلوب فى البيت؟ قالت: مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، فقال: صفيه يا أم معبد، فقالت:
رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، وضىء الوجه، حسن الخلق، ليس بعظيم البطن، ولا بريق الجسم، عظيم الرأس، حسن الوجه والأعضاء، فى عينه سواد، كثير شعر الجفن، وفى صوته بحة، شديد سواد العين وبياضها، وسواد شعر الأجفان وغيرها، دقيق طرف الحاجبين، كادا يلتصقان ولم يلتصقا، طويل العنق، لا دقيق اللحية ولا طويلها، وفيها كثافة، فى سكوته وقار، وفى كلامه بها يعلو أصحابه، وكلماته كالدر ينحدر، حلو المنطق، كلامه فاصل بين الحق والباطل، ولا يكثر كلامه، ربعة القد، يحف به رفقاؤه، تبادرون لأمره، غير عابس الوجه، ولا يكثر اللوم.
فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته"
.
قالت أسماء بنت أبى بكر: لما خفى علينا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل، فخرجت إليهم فقل: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدرى أين أبى، فلطم خدى لطمة خرج منها قرطى، وكان فاحشا خبيثا، ثم انصرفوا، وأنشد رجل من الجن يسمع ولا يرى:

جَزَى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلاَّ خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبرِّ ثم ترحَّلا فأفْلح من أمسى رفيق محمد
فيالَ قُصىّ ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهنا بنى كعب مكان فتاتهم ومقْعَدها للمؤمنين بمرصد
سلُوا أختكم عَن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشَّاة تَشْهد
دَعَاها بشاة حائل فتحلَّبت له بصَريح ضرة الشَّاة مزبد
فغادَرَها دهنا لديها لحالب يرددها فى مصدر ثم مورد

ولما سمع الناس قوله، عرفنا حيث توجه، والضرة لحمة الضرع فاعل تحلبت، والأصل يا آل قصى فخفف بالحذف، أو يكتب بلام متصلة بالقاف، وأسلمت أم معبد وزوجها بعد ذلك، قالت: بقيت الشاة إلى خلافة عمر نحلبها صبوحاً وغبوقاً، وما فى الأرض قليل ولا كثير.
وتعرض لهم بقديد سراقة بن مالك بن جشعم، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال: "كلا" ودعا بدعوات فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان فقال: أعلم أن قد دعوتما علىَّ فادْعُوا لى، ولكما أن أردّ الناس عنكما، فوقفا له، فركب فرسه فجاءهما، قال: ووقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهما بأن قومهما جعلوا دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، وعرضت عليهما الزاد والمتاع ولم يأخذا شيئا.
وذكر سراقة: أنى بينما أنا جالس فى مجلس قومى بنى مدلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إنى رأيت آنفا، أشخاصا بالساحل أرهما محمداً وأصحابه، فعرفت أنهم هم، فقلت: ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا، ثم لبثت فى المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتى أن تخرج بفرسى وتحبسها علىَّ وراء أكمة، وأخذت رمحى، فخرجت من ظهر البيت معتمدا على الرمح حتى وصلت الأرض وأتيت فرسى فركبتها تغدو حتى دنوت منهم، فعثرت بى فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدى إلى كنانتى، فاستخرجت منها الأزلام واستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج لا، فركبت فرسى وعصيت الأزلام، ودنوت حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يلتفت مرارا، وساخت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع فى السماء كالدخان، فرجعت للأزلام فخرج الذى أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا إلى آخر ما مر.
وروى أنه ساخت يداها ثلاث مرات، وقيل: سبعا، وقال له: أخف عنا ما استطعت، قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب لى كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لى فى رقعة من جلد مدبوغ.
"وروى أن أبا بكر التفت، فإذا بفارس فقال: يا رسول الله هذا فارس قد لحق بنا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اصرعه فصرعه عن فرسه، ثم قامت تحمحم وهو سراقة، فقال: يا نبى الله مرنى بما شئت، فقال: قف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا فكان أول النهار جاهدا على نبى الله صلى الله عليه وسلم، وآخره مسلحة له" .
وفى رواية قال: "يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجنى مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائى من الطلب، وهذه كنانتى فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلى وغنمى بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لى فى إبلك ودعا له، فانطلق راجعا لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتم ما هنا ورده" ، ولامه أبو جهل على رجوعه بلا شىء، فقال سراقة مخاطبا له:

أبا حكم والله لو كنت شاهداً لأمرى جوادى إذ تسوخ قوائمه
عَلمت ولم تشكك بأن محمداً رسولٌ ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكفّ القوم عنه فإننى أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم بأن جميع الناس طرأ يسالمه

"وروى أن راعيا عرف خبرهما فأسرع إلى قريش يعلمهم، فلما ورد مكة ضرب على قلبه فما يدرى ما يصنع، وأنسى ما جاء له حتى رجع إلى موضعه.
ومرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندى شاة تحلب، غير أن ها هنا عناقا حملت عام أول فما بقى لها لبن، فقال: ادع بها فاعتقلها صلى الله عليه وسلم، ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بشىء كالترس، يوضع على الرأس يقى من يمشى بين الشجر من الشوك يسمى المجن، فحلب فسقى فيه أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعى، ثم حلب فشرب، فقال الراعى: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك؟ فقال: أو تراك تكتم علىَّ حتى أخبرك؟ قال: نعم، قال: إنى محمد رسول الله فقال: أنت الذى تزعم قريش أنه صابٍ، قال: إنهم ليقولون ذلك قال: فأشهد أنك نبى، وإنما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبى وأنا متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك فإذا بلغك أنى قد ظهرت فأتنا"
.
ولقى الزبير فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا، وكان الناس يعرفون أبا بكر، ولا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: من هذا؟ فيقول: رجل يهدينى السبيل، يعنى دين الله، ويظنون أنه أراد الطريق فى الأرض، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخفاء أمره.
ولما سمع المسلمون بالمدينة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة وهى الأرض التى يعلوها حجارة سود ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، وكان الإسلام فيهم من البيعة التى بايعوه إياها فى الموسم، وانقلبوا يوما بعد ما أطالوا الانتظار، فلما آووا إلى بيوتهم، أو فى رجل من اليهود على بناء رفيع لهم، لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذوى ثياب بيض، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى نفسه فنادى بأعلى صوته: يا بنى قيلة وهم الأوس والخزرج، هذا جدكم أى حظكم ومطلوبكم قد أقبل، وقيل قال: يا معشر العرب هذا جدكم الذى تنتظرونه، فخرجوا سراعا بسلاحهم، فتلقوه صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة يعدل بهم ذات اليمين، حتى نزل بهم فى بنى عمرو بن عوف بقباء.
وقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وإنما كانت الغمامة والملائكة تظلله قبل البعثة.
وقدم فى أول يوم من ربيع الأول، وقيل: ليلتين منه، وقيل: لاثنتى عشرة منه يوم الاثنين وهو صحيح، وقيل: لثلاث عشرة، ويجمع بين هذين بالاختلاف فى رؤية الهلال، وقيل لاثنتين وعشرين.
قال ابن حزم: خرجا من مكة، وقد بقى من صفر ثلاث ليال، وأقام علىّ بمكة بعد مخرج النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع ربيع الأول، وقيل: ثامن عشرة، وأقام مع النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أو ليلتين، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتاريخ فكتب من حين الهجرة.
وقيل: إن أول من أرخ عمر، وجعله من المحرم، وأقام صلى الله عليه وسلم بقباء فى بنى عمرو بن عوف اثنين وعشرين يوما، وقيل: أربعة عشر يوما، وقيل: يوم الاثنين والأربعاء والخميس، وأسس مسجد قباء الذى أسس على التقوى، وهو أول مسجد بنى فى الإسلام، وأول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وأما ما تقدمه من المساجد فلخصوص بانيه، مثل الذى بناه أبو بكر بفناء داره، وذلك أن الدين أسرع فى أهل أبى بكر كما قالت عائشة: لم أعقل أبوى إلا وهما يدينان الدين، أى يعتقدانه ويخضعان له، ولم يمر علينا [يوم] إلا أتانا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة وعشية، طرفى النهار.
وضيق المشركون على المؤمنين، فخرج أبو بكر نحو أرض الحبشة، حتى بلغ برك الغماد، وهو موضع بخمسة ليال من مكة مما يلى ساحل البحر إلى المدينة من بلاد غفار، وقيل: قليب ماء لبنى ثعلبة، لقبه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال: أخرجنى قومى، فأريد أن أسيح فى الأرض فأعبد ربى، فقال: مثلك يا أبا بكر لا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم بضم التاء على حذف مفعول، أى تملك الشىء المعدوم من لا يملكه أو بفتحها، أى تحصل بكسبك ما عدمه الناس، وتصل الرحم، وتحمل الكل، ، أى المنقطع أو ما يثقل من حقوق الناس، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، أى مثل الدية وسائر المغارم، فأنا لك جار، أى ناصر وحافظ، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع مع ابن الدغنة بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون، وأطاف فى أشراف قريش وقال: إن أبا بكر لا يُخرَج مثله، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقرى الضيف، ويعين على نوابب، الحق.
فأنفذت قريش جواره وأمنوا أبا بكر وقالوا له: مُرْه يعبد ربه فى داره ويصلى ويقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يعلن فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال لأبى بكر ذلك ففعل، ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلى فيه، وينتصب، فيه أبناء المشركين ونساؤهم يعجون منه، وكان لا يملك عينيه من البكاء إذا قرأ القرآن، فأتوه فقالوا: إنه قد ظهر أمره وكرهنا هو أن يحقرك، فيرد لك جوارك، فأتاه فقال له: أخف أمرك أو رد إلىَّ جوارى، فإنى لا أحب أن تسمع العرب أنى حقرت فى رجل عقدت له، قال أبو بكر: فإنى رددت إليك جوارك، وأرضى بجوار الله.
"وأراد الخروج من مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصبر فلعل الله يسهل فى الصحبة، وإنى أرجو أن يؤذن لى فى الهجرة، وقد رأيت دار هجرتكم حرة سبخة، ذات نخل بين لابتين أى جبلين فقال له: هل ترجو ذلك يا رسول الله بأبى أنت وأمى؟ قال: نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر أربعة أشهر، فخرج إلى الغار معه، ثم خرجا منه حتى نزلا ببنى عمرو بن عوف فى قباء" ، على حد ما مر.
وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركتهما الجمعة فى بنى سالم بن عوف، فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن كان معه من المسلمين وهم مائة فى بطن رانوناء، براء ونونين ومد بوزن عاشوراء، فيسمى مسجد الغيب، ومسجد الجمعة، وهو صغير، بنى بجحارة قدر نصف القامة، وهو يمين السالك إلى قباء، وركب منه على راحلته إلى المدينة، قال أنس: وهو مردف أبا بكر قال: وأبو بكر شيخ يُعرَف والنبى صلى الله عليه وسلم غير شيخ ولا يعرف، وقال صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: "اله الناس عنى" فيلقاه الرجل فيقول: يا أبا بكر من هذا الذى بين يديك، فيقول رجل يهدينى السبيل، يريد سبيل الخير، ويحسبون أنه أراد الطريق، ويلقاه الرجل فيقول: من أنت؟ فيقول: باغى حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهدينى السبيل، وكان فيهم من يعرف أبا بكر لأنه مر بهم مسافر إلى الشام.
وذكر بعضهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسن من أبى بكر، لكنه لم يشب يومئذ، ولم يكن من الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر،
"وكان صلى الله عليه وسلم كل ما مر على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم: يا رسول الله هلمَّ إلى القوة والمنعة، فيقول: خلو سبيلها، يعنى ناقته، فإنها مأمورة وقد أرخى زمامها وما يحركها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد، أى منشر للتمر، وهو لسهل أو سهيل ابنى رافع بن عمرو، وهما يتيمان فى حجر معاذ بن عفراء، أو سعد بن ذرارة وهو الصحيح، ثم ثارت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، حتى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى، ثم ثارت منه ورجعت خلفها، وبركت فى مبركها الأول، وألقت جرانها بالأرض، أى باطن عنقها أو مقدمه، وصوتت من غير أن تفتح فاها، ونزل عنها، صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا المنزل إن شاء الله واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله بيته، ومعه زيد بن حارثة" ، وكان دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلهم، وهم أخوال عبد المطلب، جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم أمه سلمى بنت عمرو.
"روى أنه لما مر بهم قالوا: يا رسول الله هلمَّ إلى أخوالك، إلى العدد والعُدة والمنفعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة فانطلقت حتى أتت دار بنى مالك بن النجار على حد ما مر، وكان أبو أيوب فى العلو، ولما خلا بامرأته قال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منَّا، تنزل عليه الملائكة والوحى، فما بات تلك الليلة ولا امرأته، فلما أصبح قال: ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: لِمَ يا أبا أيوب؟ قلت: كنت أحق بالعلو منَّا، تنزل عليك الملائكة والوحى، والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا" .
وهذا البيت الذى لأبى أيوب بناه تبَّع الأول للنبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبى صلى الله عليه وسلم، ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه للنبى صلى الله عليه وسلم، فتداول الدار الملاَّك إلى أن صارت لأبى أيوب، قيل: وهو من ولد ذلك العالم قبل، وأهل المدينة الذين نصروه صلى الله عليه وسلم من ولد أولئك العلماء، وعلى هذا فقد نزل فى منزل نفسه، وسيأتى إن شاء الله بعض كلام فى أمر تبع.
وبنى صلى الله عليه وسلم مساكنه ومسجده، وعمل فيه بنفسه مع المهاجرين والأنصار،
"ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول الله قتلونى يحملون علىَّ ما لا يحملون، قالت أم سلمة رضى الله عنها: فنفض وفرته بيده، وهو يقول: ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية" وقتله أصحاب علىّ وهو مع من أنكر الحكومة.
وقد اشتهر أن ذوات الخدور طلعن على السطوح والولدان والإيماء تلقوه وكلٌّ يقول:

طلعَ البدرُ عَلينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

عند قدومه المدينة صلى الله عليه وسلم، وتقدم أن هذا عند مرجعه من تبوك، وأن ثنية الوداع من جهة الشام، قيل: ويحتمل أن تكون الثنية التى من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمى ثنية الوداع، وسميت ثنية الوداع لأن المسافر يشيع إليها ويودع عندها قديما، كما يدل عليه البيت السابق، وقيل: لأنهم يشيعون الحاج والغازى إليها، ويودعونه عندها، وقيل: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيع إليها بعض سراياه فودعها عندها، وقيل: ودع بها بعض المقيمين بالمدينة فى بعض أسفاره، "ولما نزلت الناقة فى باب أبى أيوب خرج من جوار بنى النجار بالدفوف ويقلن:
* نحن جوار من بنى النجار * يا حبذا محمداً من جار *
فقال صلى الله عليه وسلم: أتحببننى قلن: نعم يا رسول الله، فقال: الله يعلم أن قلبى يحبكم"
وتفرق الغلمان والخدم فى الطرق ينادون: جاء محمد، جاء رسول الله، ولما قدم المدينة أرسل عليا، وقيل: زيد بن حارثة، وأبا رافع مولاه، وأرسل أبو بكر ابن أريقط فجاءوا بأهليهما.
{ واللهُ عَزيزٌ } فلا يغلب من أراد أن يكون غالبا { حَكيمٌ } فى أمره كله.