التفاسير

< >
عرض

فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْخَالِفِينَ
٨٣
وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ
٨٤
-التوبة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فإنْ رَجَعَك اللهُ } ردك من هذه الغزوة غزوة تبوك { إلى طائِفةٍ منْهُم } من للبيان لا للتبعيض، وتنكير الطائفة للتحقير، إنما وقعت العبارة بالاسم الظاهر ليفيد التحقير بتنكيره، وإلا فالموضع موضع إظهار، وكأنه قال: فإن رجعك الله إلى ناس خبثاء السريرة، وهم هؤلاء المتخلفون الفرحون بالقعود، ولا يفرح به إلا المنافق، فالهاء لهؤلاء المتخلفين المنافقين الفرحين، والأصل فإن رجعك الله إليهم هذا تحقيق المقام عندى، ولم أر من أفصح به أشار إليه.
وزعم القاضى مع علو درجته فى العلم أن من للتبعيض، وأن الهاء للمتخلفين مطلقا والمنافقين وغيرهم، وأن الطائفة المتخلفون المنافقون، ويرده أن المتخلفين المذكورين فى الآية كلهم منافقون، ولعله إنما رد الهاء إلى المتخلفين مطلقا بطريق الاستخدام، وذكر جار الله وهو على درجة: أن من للتبعيض، والهاء للمتخلفين المنافقين، والطائفة هى الباقون على النفاق وغيرها هو من تاب منهم عن التخلف، وكأنه يرى أن هذا الكلام استثناء لغير الطائفة من العموم السابق فى ذمهم، قال: أو اعتذار بعذر صحيح، قلت: ما كان ليخفى عن الله والغدر حتى يعمه بالذم، إلا إن كان يرى أن هذا استثناء أيضا، وذكر بعضهم أن المراد بالطائفة رؤساؤهم المتبوعون وعليهم وقع التشديد بأن لا يخرجوا، ولا يقاتلوا، ولا يصلى عليهم، وقد عينهم الله له، وذكروا أن المتخلفين اثنا عشر رجلا.
{ فاسْتأذنُوكَ للخرُوجِ } إلى غزوة أخرى { فقُلْ لَن تخْرجُوا مَعىَ } وأسكن الياء أبو بكر وحمزة والكسائى { أبداً ولن تُقاتِلوا مَعىَ } وفتح الياء حفص { عَدوًّا } وذلك إخبار فى معنى النهى للمبالغة، كأنهم نهوا فانتهوا، فهو يخبر عن انتهائهم عن الخروج والقتال بعد كذا ظهر لى فى توجيه المبالغة، وأجرى الله ذلك الكلام على ما يليق بمخلوقاته من الشك وعدم علم الغيب، ولذلك أتى بأن ولفظة مع المضافة إلى ضمير النبى، مع أن الله سبحانه وتعالى قد علم أنه يرجع، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم لا يخرج ولا يقاتل بنفسه بعد هذه الغزوة، وإنما يأمر الجنود فتخرج وتقاتل مع ما فى ذلك من المناسبة لتهديد هؤلاء، ويجوز أن يكون معنى معية أنه إذا أمر بالخروج والقتال، فكأنه خرج بنفسه وقاتل.
{ إنكُم } تعليل { رَضيتُم بالقُعودِ أوَّل مَرةٍ } كان عقابهم الإسقاط عن ديوان الغزاة، وإنما لم يقل أولى مرة بالتأنيث، لأن اسم التفضيل يلزم التذكير والإفراد إذا أضيف لنكرة، أو جرد من الإضافة { فاقْعدُوا مَع الخَالفِينَ } القاعدين خلف القراء فى المدينة من المرضى والشيوخ، الذين لا يستطيعون والصبيان والنساء وذوى العذر، وغلب الذكور فجمع جمع المذكر السالم، وهذا أولى من قول ابن عباس: إن المراد الرجال، وزعم قتادة أن المراد النساء، ويرده أن المؤنث لا يجمع جمع المذكر السالم.
ويجوز على الصحيح أن يكون جمع خالف بمعنى فاسد من قولك خلف الشىء بمعنى فسد ذكره الطبرى، ومثله للكلبى وهو ضعيف غير فصيح، وقرأ عكرمة ومالك بن ديناررحمه الله مع الخلفين بإسقاط الألف.
"كان عبد الله بن أبى بن سلول سيد الخزرج فى آخر جاهليتهم، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف إليه الخزرج وغيرهم، حسده وناصبه العداوة، غير أن الإسلام تغلب، وكان رأس المنافقين، وكانوا ثلاثمائة رجل، ومائة وسبعين امرأة، وكان ولده عبد الله من أفاضل الصحابة إسلاما وعبادة، وانشراح صدر، وكان أبر الناس بأبيه، ومع هذا قال: يا رسول الله إنك لتعلم أنى من أبر الناس بأبى، وإن أمرتنى أن آتيك برأسه فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل نعفوا عنه" وكان شديد الحرص أن يسلم أبوه وينتفع ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"ولما مرض بعث إليه ابنه عبد الله ليأتيه، فطلب منه عمر أن لا يأتيه، فأتاه فدخل عليه فقال: أهلكك حب اليهود فقال: يا رسول الله لم أبعث إليك لتوبيخى، بل لتستغفر لى، وسأله أن يكفنه فى قميصه الذى يلى جسده، وأن يستغفر له ففعل ذلك، ولما مات دعاه وأنعم [عليه] بقميصه، وقيل: ناوله إياها حينئذ ابنه عبد الله إلى جنازته، وكان اسمه حباب، فسأله عن اسمه فأخبره فقال له: أنت عبد الله بن عبد الله، الحباب اسم شيطان فأتاه ووجده مكفنا فى القميص، مدخلا حفرته، فأمر بإخراجه فأخرج، فحل كفنه ووضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه وألبسه كفنه وهو القميص المذكور بيديه" .
وكان إعطاء القميص وتلك الفعلات تطييباً لنفس أبيه، إذ كان مخلصا، "وقد روى أنه هو الذى سأله لما مات أن يكفنه فى قميصه الذى يلى جسده، وأن يقوم على قبره، ولا يشمت به الأعداء فى أبيه ولكن العباس لما أسر ببدر لم يجدوا له قميصا، وكان رجلا طويلا لا يليق به إلا قميص ابن أبىّ فكساه ابن أبىّ قميصه، ولكن المشركين قالوا يوم الحديبية: لا نأذن لمحمد ونأذن لك، فقال: لا إن لى فى رسول الله أسوة حسنة، فشكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا، ويتوفر من المروءة، ويعمل بعادة الكرام، ولما كفنه وأراد الصلاة عليه، وثب عمر رضى الله عنه، وجبذه بثوبه وقال: أتصلى على عدو الله، وقد قال يوم كذا كذا وكذا يعدد عليه قوله، وقد نهاك الله أن تصلى على المنافقين، يعنى أن تستغفر لهم كما صرح به فى رواية، أو يعنى صلاة الميت إلهاما من الله، فإنه مروع ومحدَّث أو فهما من النهى عن الاستغفار، وأراد بالنهى آية هذه السورة، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أكثر عليه قال: أما أنى خيرت فاخترت، لو أنى أعلم أنى لو زدت على السبعين يغفر له لزدت فصلى عليه وأدلاه فى حفرته، فلم يلبث إلا يسيرا بعد الانصراف حتى نزل:
{ ولا تُصلِّ عَلى أحدٍ منْهُم ماتَ أبداً } إلى: { فاسقون } وفى رواية إلى: { كافرون } قال عمر: فعجبت بعد من جرأتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ من الله ورسوله أعلم، فما صلى على منافق بعده، ولا قام على قبره، وكان قبل ذلك يقوم على قبور المنافقين، ويدعو لهم فيما روى"
.
وقال أنس: لما تقدم ليصلى عليه، جاءه جبريل فجبذه بثوبه، وتلى عليه الآية، فانصرف ولم يصل، والمشهور الأول، وأنها نزلت بعد الصلاة، ولم ينه عن القميص لأنه مكافأة والضنة به بخل، بخلاف الصلاة فإنها استغفار، ولا حظ فيه لكافر، كما يدل عليه ترتيب النهى على قوله: { مات } أى مات على الكفر، كما نص عليه بقوله: { أبدا } على أنه متعلق بمات، أى مات موتا أبديا، فان إحياء الكافر بعد موته للتعذيب دون التمتع، فلا حياة له نافعة، فكأنه لا حياة له، والمشهور تعليقه بتصل، أو بلا، وأيضا تكفنه فى قميصه مع كفره لا ينفعه، فهو كغيره من الأكفان.
"كما روى عنه أنه قيل له فى ذلك فقال: إن قميصى لا يغنى عنه شيئا ولن أؤمل من الله أن يدخل بفعلى هذا فى الإسلام كثيرا" فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب التبرك بثوبه، والنجاة به، وطلبوا ترحمه واستغفاره، فكان ذلك لطفا وجلبا لغيره، ولكن الرواية الصحيحة أنه قال: "آمل أن يدخل رجال من قومه فى الإسلام" فإنه قد ضعف النفاق، ولا يبلغ أهله حينئذ ألفا، وإنما صلى عليه جريا على ظاهر أمره لما فى ذلك من المصلحة، ولو علم أنه مشرك ما صلى عليه، أو كان عالما بإشراكه، ولكنه قبل عنه إنكار الشرك حين اعتذر وأنكر ما يقال عنه، كيف وقد نزل عليه: { { ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } على ما يأتى فيهم إن شاء الله، وجملة مات نعت ثان، والأول منهم أو حال من أحد أو من ضمير المستتر فى النعت.
{ ولا تَقُم عَلى قَبْره } للدفن أو الزيارة { إنَّهم كَفرُوا باللهِ ورسُولِه ومَاتُوا وهُم فاسِقُونَ } تعليل جملى للنهى عن الصلاة، والوقوف على القبر، أو تعليل لتأبيد الموت على تعليق أبدا بمات، وإنما قال: مات وماتوا بلفظ الماضى، مع أنهم حينئذ لما يموتوا لأنهم لا بد يموتون، فكأنهم ماتوا، أو لأن ذلك على تقدير حصول الموت، ويدل على سوغ أن النفاق فى القرآن قد يقع على من أسر الشرك قوله: { إنهم كفروا بالله ورسوله } فإن من فعل كبائر غير الشرك، لا يقال فيه إنه كفر بالله ورسوله، ولعل أصحابنا يقولون: المراد كفروا بنعم الله ورسوله، ونعم الرسول ما جرى على يده من الخير وأمر الإسلام، أو يقولون: نزل أفعالهم وأقوالهم الخبيثة منزلة الكفر بالله ورسوله، ويقصرون منع الصلاة على هؤلاء الذين خصهم الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ويأخذون الصلاة على سائر المنافقين الذين لم يسروا الشرك من قوله صلى الله عليه وسلم:
"ظلوا على كل بار وفاجر من أهل القبلة" هذا ما ظهر لى فى تطبيق كلام الأصحاب على الآية، ولم أر من تكلم بذلك، ولى فى ذلك كلام فى جامع الوضع والحاشية.