التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
-الفاتحة

جواهر التفسير

الحمد والمدح ينتظمهما الاشتقاق الكبير، وهو اتحاد الحروف مع اختلاف ترتيبها ، فالحاء والميم والدّال الموجودة في الحمد هى نفسها حروف "المدح" ولكن بترتيب آخر، والزمخشري يقول بتآخيهما، واختلف الذين عُنوا بشرح كلامه، هل قصده بالتآخي: اتحاد معناهما أو اتحاد حروفهما مع ما ينتظم الكلمات المتنوعة التي تلتقي بالاشتقاق من معنى لطيف قد يظهر مع التأمل الخاطف، وقد يخفي إلا مع التأمل الطويل؟ فالحمد والمدح كالجذب والجبذ في اتحاد الحروف، ووجود معنى يجمع بينهما، والذين فرقوا بين الحمد والمدح راعوا أن الحمد يكون على الأمور التي للمحمود اختيار فيها، بخلاف المدح، فقد يكون في الأمور الطبيعية كمدح الوجه بالحسن، والقامة بالاعتدال، والدرة بالصفاء، ولا يسمى شيء من ذلك حمدا، وعرّفوا الحمد أنه الثناء باللسان على الجميل وقيده بعضهم بكونه اختياريا، ومنهم من زاد على ذلك سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل على أن بعض العلماء يرى أن المدح أيضا لا يكون إلا في الأمور الاختيارية، وإن ورد على غيرها عُدّ من باب المجاز، وتقييد الثناء بكونه على الجميل يخرج الذم فإن الثناء قد يصدق عليه في نحو قولهم (أثنى عليه شرّا) وتقييد الجميل بكونه اختياريا يخرج المحاسن الاضطرارية كالتي أشرنا إليها وهي التي تُمدح - على رأي بعض - ولا تُحمد، وقول بعضهم سواء تعلق بالفضائل أو بالفواضل يقتضي دخول الصفات التي تكون ذات أثر في الغير فيما يُحمد عليه فإن الفضائل جمع فضيلة وهي صفة تقوم بنفس الموصوف لا تتعداه إلى غيره، والفواضل جمع فاضلة وهي ما ينتقل أثره إلى الغير، فسجية الكرم فضيلة، والكرم طبيعة قائمة بنفس الكريم لا تنتقل عنه وإنما ينتقل عنه أثرها وهو الإِحسان إلى الغير ويُعَبر عنه بالفاضلة، والشجاعة طبيعة في نفس الشجاع لا تتعداه إلى غيره وإنما يتعدى أثرها عندما تبعث صاحبها على نصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، ويُعبر عن هذا الأثر بالفاضلة كذلك، واستشكل هذا التعريف بأنه يمنع دخول صفات الله فيما يحمد عليه وهي من أجل المحامد، وسبب المنع هو قيد الاختياري، وأجاب القطبرحمه الله في (التيسير) بأن هذا القيد يراد به إخراج المحاسن الاضطرارية، فلا يمنع من دخول صفات الله تعالى لأنها وإن لم يجز لنا أن نصفها بأنها اختيارية لما يُفهمه هذا الوصف من إمكان تخلي الله تعالى عنها فإنه لا يجوز لنا أيضا أن نقول عنها إنها اضطرارية لما يقتضي ذلك من كون الله سبحانه مضطرا إليها - تعالى الله عن ذلك - ورأي القطب في (الهيميان) أن يستبدل قيد الاختياري بغير الاضطراري لئلا يكون مانعا من دخول صفات الله، ويرى السيد الجرجاني في حاشيته على الكشاف أن كون الصفات مبدأ للاختيارات يزيح المانع من دخولها وتابعه المفسر الشهير أبو السعود حيث قال عن الجميل اختياريا كان أو مبدأ له، وحاصل ذلك أنه لما كانت صفات الله تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة والمشيئة سببا لحصول أفعاله الاختيارية كالخلق والإِنعام جاز حمده عليها بل وجب ذلك. واختلف في الحمد والشكر هل هما متحدان؟ أم مختلفان؟ فذهب ابن جرير الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنهما بمعنى واحد ونسبه ابن جرير إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "الحقائق" عن جعفر الصادق وابن عطاء قال القرطبي: وليس بمرضي، واستدل له ابن جرير بصحة قولك: الحمد لله شكرا، وتعقبه ابن عطيه بأنه دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم، وأنكر ابن كثير على سلفه ابن جرير جعل الحمد والشكر بمعنى مستندا في هذا الإِنكار على التفرقة التي أوردها المتأخرون بينهما، وتعقبه الشوكاني في (فتح القدير) بأن كلام المتأخرين ليس بحجة على استعمال الكلمات العربية ولا سيما أن ابن جرير قد عضد رأيه بما رواه عن بعض السلف كما عضده بجواز مجيء الشكر مصدرًا للحمد، وفي السنه ما يدل على أن الحمد قد يسد مسد الشكر، فقد أخرج ابن جرير عن الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك" وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" والخطابي في "الغريب" والبيهقي في "الأدب" والديلمي في "مسند الفردوس" عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده" وفيه انقطاع إلى أن الألوسي ذكر أنّ له شاهدا يتقوى به، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبى قال: الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد، وأخرج الطبراني في "الأوسط" بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لئن ردها الله عليَّ لأشكرن ربي" فرجعت فلما رآها قال: "الحمد لله" فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى، فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت: "لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي" قال: "ألم أقل الحمد لله" وإنما كان الحمد رأس الشكر وأفضله لأنه إعلان باللسان عن إنعام المنعم، واللسان أقوى دلالة من غيره، وفيما أوردناه ما يؤكد ما قاله ابن عطية من أن الشكر أعم من الحمد فهو يشمل القول والعمل ويدل لذلك قول الله تعالى: { { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13] وقوله سبحانه: { { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14] إذ ليس المطلوب من شكر الله، وشكر الوالدين مجرد الاعتراف بالإِحسان وإنما المطلوب القيام بحقوق عبادة الله كما أمر، ومعاملة الوالدين بالإِحسان وهو واضح في قوله سبحانه: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً.. الخ } [الإسراء: 23] وعرف بعض العلماء الشكر لغة بأنه فعل ينبيء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر سواء كان قولا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان، أم عملا وخدمة بالأركان، واستُدُل بذلك بقول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

فإن مراده من هذا أن النعماء سخرت لهم يده يخدمهم بها، ولسانه يثني عليهم به، والضمير المحجب يواليهم به، وإذا القينا نظرة على هذا التعريف وجدنا بين الحمد والشكر عموما وجيها، فكل واحد منهما أخص من وجه وأعم من آخر، أما الحمد فهو أخص موردا وأعم متعلقا لأن مورده اللسان وحده ومتعلقه النعمة وغيرها، وأما الشكر فهو بعكس ذلك لأن مورده اللسان والقلب والجوارح ومتعلقه النعمة وحدها، وهذا كما ذكرنا أن الحمد يكون على الفضائل كالشجاعة والكرم وغيرهما، وبعض العلماء جعل تعريف الشكر المذكور نفسه تعريفا للحمد العرفي فيكون بين الحمدين اللغوي والعرفي كالذي بين الحمد والشكر اللغويين من العموم الوجهي، ولست أدري ما هي حجة هؤلاء في جعل الحمد العرفي أعم موردا من الحمد اللغوي بحيث يكون باللسان وغيره، وهؤلاء يرون أن الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خُلق لأجله، وهو سائغ نظرا إلى أن جميع آلاء الله تعالى تستدعي طاعته والقيام بحسن عبادته، ويؤكد ذلك قوله تعالى: { { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3] وقوله على لسان سليمان عليه السلام: { { لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [النمل: 40] على أن بعض العلماء يرى أن الحمد لا يتصور أن يكون عملا لسانيا لا يشامله عمل القلب والجوارح لأن حمد المحمود باللسان وحده من غير استشعار معناه بالقلب ولا تصديق له بالجوارح يعد سخرية واستخفافا، وأُجيب بأن استشعار معني الحمد بالقلب وتصديقه بعمل الجوارح شرطان له وليسا من جوهره ومما يستغرب منه دعوى القرطبي: إن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وهو مردود بالأحاديث الصحيحة التي أوردها القرطبي نفسه في تفسيره منها ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها" وروى ابن ماجه عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ" ، وفي الكتاب العزيز ما يدل على أن الحمد يكون في مقابل الإِحسان فالله تعالى يقول تعليما لعباده كيف يحمدونه: { { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا.. } [الكهف: 1] ويقول { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1] وحكى عن أهل الجنة قولهم وَقَالُواْ { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر: 34- 35] ويستغرب من القرطبي قوله عقب هذا.
وعلى هذا الحد قال علماؤنا الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر، فإن هذا الذي ذكره أخيرا يهدم ما بناه أولا حيث اشترط في الحمد أن يكون من غير سبق إحسان، اللهم إلا أن يكون مراده أن الحمد يأتي تارة في مقابل نعمة وتارة بدونها كما صرح به ابن عطية وكما يفيده تعريف الحمد الذي ذكرناه، وإذا كان هذا هو مراد القرطبي فهو معنى صحيح ولكن عبارته لم تف بمطلوبه.
و "ال" في الحمد قيل هي للاستغراق وعليه أبو حيان في (البحر) والقرطبي في تفسيره والألوسي "مع بعض تردد" والفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) والشوكاني في (فتح القدير) وقطب الأئمة في (الهيميان) ونور الدين السالمي في (طلعة الشمس).
وقيل هي للجنس وعليه الزمخشري وكثير من الذين تأثروا برأيه، ووهّم الزمخشري أصحاب الرأي الأول، وحمل خصوم الزمخشري هذا التوهيم على أنه أراد به الانتصار لمذهبه الفاسد في خلق الأفعال فإنه إذا جعلت جميع صنوف المحامد محصورة في الله عز وجل كما يستلزمه القول بالاستغراق فات الزمخشري مطلوبه من جعل العباد الصالحين مستحقين لشيء من الحمد على خلقهم الأفعال الحسنة كما هي عقيدة المعتزلة في أن الإِنسان يستقل بخلق أفعاله استقلالا تاما، وللإِمام نور الدين السالميرحمه الله في أول "طلعة الشمس" بحث نفيس في هذه المسألة أطال فيه مناقشة الزمخشري في رأيه، غير أن السيد الجرجاني انتصر للزمخشري في حاشيته على "الكشاف" بإيضاح لا يدع مجالاً للشك في أن الزمخشري لم يرد برأيه هذا نصرة مذهبه في خلق الأفعال، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذ لو وُجِدَ فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وإنما اختار الزمخشري الجنس على الاستغراق لأنه يُسْتَفَاد من جوهر الكلام، ويستلزم اختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية، بل يكون على ما اختاره اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء.
وإذا كان إفراد الحمد على كلا القولين مختصة بالله سبحانه فإن في ذلك ما يفيد أن جميع النعم لا تصدر إلا عنه
{ { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النمل: 53] وفي تذكير الإِنسان بذلك تحرير لرقبته من الذل لغير الله تعالى، ورفع للرؤوس حتى لا تتطأطأ لغير عزته وكبريائه، ورفع من معنوية الإِنسان فلا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه.
وجملة "الحمد لله" قيل إنها خبرية يراد بها الإِخبار عن كون جميع المحامد لله سبحانه وقيل هي خبرية لفظا، إنشائية معنى، والظاهر أن معناها يحتمل الخبر والإِنشاء بحسب قصد المتكلم بها، وأما لفظها فخبري قطعا.
"الرب" مأخوذ من ربه يربه بمعنى نماه أو أصلحه أو مَلَكه، ويقال أيضا ربّبَه وربّته ورباه، ويُطلق الرب على الملك كقول النابغة: -

تخب إلى النعمان حتى تناله فذلك من ربٍّ تليدي وطارفي

ومنه قول الآخر: -

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني فضعت ربوب

ويطلق على المالك، واستشهد له بقصة صفوان بن أمية مع أبي سفيان صخر بن حرب عندما نمى إلى أهل مكة بعد فتحها أن المسلمين هُزموا في حربهم مع هوازن وكان أبو سفيان لا تزال الجاهلية مترسبة في نفسه، وكان صفوان لا يزال على شركه فسُرّ أبو سفيان بما سمع، وأخذت الحمية القرشية صفوان فغضب عليه وقال له "في فيك الكثكث لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن" يعني لأن يملكني رجل من قريش - يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أن يملكني رجل من هوازن، ويُطلق الرب على السيد والمصلح والمدبِّر، وهذه المعاني قريب بعضها من بعض، والله تعالى يربي عباده بالآلاء الظاهرة والباطنة التي يسبغها عليهم وهو مالك أمرهم ومدبره، وجابر كسرهم، ومصلح شأنهم.
"العالمين" جمع عالم وفي العالم خلاف! هل هو مأخوذ من العلم أو العلامة؟
فعلى الأول يطلق على ما من شأنه العلم، فيقال عالم البشر وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين، وعلى الثاني يطلق على كل ما كان علامة على وجود الله سبحانه فيشمل الكائنات كلها، فإن كل ذرة في الوجود هي حجة قاطعة على وجوده سبحانه، ودليل ساطع على صفاته اللائقة بجلاله، ومن ثمَّ يقول الإِمام ابن أبي نبهان رحمهما الله: "إن كل ذرة في الوجود هي كلمة من كلمات الله سبحانه، دالة على معرفته، ناطقة بتوحيده، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة" ونظرا إلى الاختلاف في اشتقاقه كلمة "العالم" وما توحيه القرائن اختلف المفسرون في المراد بالعالمين هنا، فقيل يراد به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما رواه ابن جرير عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه أن المراد بالعالمين الإِنس والجن وهو محكي عن سعيد بن جبير ومجاهد واستدل له بقوله تعالى
{ { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وقال الفراء وأبو عبيدة: يراد به العقلاء وهم أربعة أمم الإِنس والجن والملائكة والشياطين، ونسبه صاحب المنار إلى الإِمام جعفر الصادق، وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه، والله تعالى يقول: { { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ.. } [الشعراء: 23- 24] وكل ذرة في الكون هي بحاجة إلى الرعاية والإِصلاح والتنمية من قبل الله تعالى إذ لو تخلى الله سبحانه عن أي كائن في هذا الوجود في أقل من لحظة لما قر له قرار، وتربية الله سبحانه تغمر كل كائن دقيقا كان أو جليلا وما من شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله معلنا افتقاره إلى الله ذي الجلال، ومن هنا ساغ أن يجمع العالم - مع صدقه على ما يعقل وما لا يعقل - فيقال العالمون إذ لا فرق بين العاقل وغيره في دلالة حاله على احتياجه إلى واجب الوجود لذاته، ويرى الإمام محمد عبده تغليب العاقل على غيره لنكتة لاحظتها العرب وهي أن لفظ العالم لا يطلق على كل كائن وموجود فيقال عالم الحجر وعالم التراب وإنما يطلق على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه فيقال عالَم الإِنسان وعالَم الحيوان وعالَم النبات ثم قال ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذى يعطيه لفظ رب لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان ثم حكى عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني أن الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب وإن كان لا ينام ولا يغفل.
ويتضح لك مما ذكرناه سابقا أن التربية تظهر في كل شيء وليس ظهورها محصورا في الأصناف التي ذكرها الأستاذ الإِمام، وللعلماء أقوال في جمع العالَم مع أن العالَم اسم جنس يستغرق جميع أفراده من غير أن يجمع وأحسن ما يقال أنه أريد بالجمع إدخال جميع أجناس العالَم المختلفة في مدلول هذه الكلمة بينما يحصل استغراق أفراد هذه الأجناس بالتعريف إذ لو قيل رب العالَم لربما توهم أن المراد به جنس من أجناس العالَم كالبشر أو الملائكة أو الجن، أما بهذه الصيغة فلا يبقى مجال لتوهم ذلك.
وتربية الله للعالمين تنقسم إلى قسمين: تكوينية وتشريعية. فالتكوينية ظاهرة على كل شيء ولنأخذ الإِنسان مثلاً لذلك فإن الله أوجده من خلية مهينة حقيرة إذا نظرت بالمجهر لم تكد تبصر لدقتها المتناهية ولكن لم تلبث أن تطورت بأطوار تربية الله المختلفة حتى خرج منها بشر سوي سميع بصير يفكر ويقدر ويدبر ويعلم ويريد، يتميز بقدرات معنوية مع ما أوتيه من قوة حسية، أهلُّه كل ذلك للخلافة في الأرض والاضطلاع بأمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها، وكل ما يسره الله سبحانه للإِنسان من قوام جسده داخل في حدود تربيته التكوينية.
وأما التربية التشريعية فالإِنسان هو المستهدف بها وإن عم أثرها غيره وهى تتمثل في رسالات الله التي بعث بها رسله المصطفين لإِخراج الناس من الظلمات إلى النور وجمع شتاتهم وتوجيه عقولهم وأفكارهم وتصفية فطرهم وطبائعهم وكما أن الخلق لا يكون إلا من الله والبشر مهما أوتوا من قوة لن يخلقوا ذبابا، فإن التشريع الصالح للإِنسانية لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى أما التشريعات البشرية فما هي إلا مصدر شقاء الإِنسانية وبلائها إذ لا يمكن أن تؤلف بين الأجناس المختلفة في العادات والظروف ولا أن تجمع بين الرغبات المتباينة، ولا يصح أن تعتبر من التربية في شيء، وكل من تسول له نفسه فيشرع من الأحكام ما لم يأذن به الله كمن تسول له نفسه بأن يستطيع أن يشارك الله تعالى في خلقه تعالى الله عن ذلك.