التفاسير

< >
عرض

مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
-الفاتحة

جواهر التفسير

في هذه الآية الكريمة تقرير لحقيقة هامة جاء القران الكريم ليقررها بكثير من آياته وهي كلية من كليات العقيدة الإِسلامية الصحيحة وضرورة من ضرورات الفكر الإِنساني الذي تصدر عنه التصرفات والأعمال وتقوم على أساسه حياة الإِنسان فإن الإِيمان باليوم الآخر ليس هو من الأمور الهامشية التي لا صلة لها بعمق الفكر ولا أثر لها في واقع الحياة ولكنه ركيزة أساسية في بناء الحياة الفكرية والعملية، ولذلك نجد الإِيمان به يأتي رديف الإِيمان بالله في الذكر سواء في آيات الكتاب أو في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا عندما يستدعي الحال تأكيد أمر أو نهي فكثيرا ما يأتي في القرآن { لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } أو ما يفيد مفاد هذا التعبير في حال التأكيد، كما أنا نسمع كثيرا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليفعل كذا" أو "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يفعل كذا" وفي ذلك ما يكفي برهانا أن الإِيمان باليوم الآخر كالإِيمان بالله في عمق أثرهما في سلوك الإِنسان وقوة تأثيرهما في توجيه ميوله ورغباته وضبط غرائزه ونزعاته، وهذا لأن الإِيمان بالله يعني الإِيمان بالمبدأ والإِيمان باليوم الآخر يعني الإِيمان بالمصير وهل تبقى للإِنسان قيمة إن جهل المبدأ أو المصير، وماذا عسى أن تكون حالة هذا الإِنسان الذي يعيش على هامش الحياة لا يستشعر حقوقا عليه لمبدئه، ولا مسئولية يخشى مغبتها في مصيره وإنما يلهو ويمرح ويأكل ويشرب ويسافد ويتناسل شأن البهائم التي لا عقل لها ولا ضمير أما إذا أدرك واستيقن أن له مُبدئا أخرجه من العدم واسبغ عليه صنوف النعم وبوأه في الأرض ومكن له فيها فإن إدراكه لذلك يحيي في نفسه شعورا لافتقاره إلى تحري مرضاة هذا المبديء الكريم والخالق العظيم فيدعوه ذلك إلى أن يستمد منه منهج حياته وميزانه الذي يعرف به الخير والشر والنفع والضر ولكنه مع ذلك قد يتعامى عن قصد السبيل لما يتجاذبه من طبائع النفس ويتقاضاه من مطالب الحياة فهو واقع بين العواطف الملتهبة والغرائز الجارفة والمطالب المختلفة والدوافع المتنوعة فلا عجب إذا أنساه ذلك ما يجب عليه تجاه خالقه وتجاه الخلق، ولكن إيمانه بالمنقلب الذي يلقى فيه جزاءه يجعله يستعلى على ضرورات حياته ورغبات نفسه ودوافع غرائزه فلا يجعل العواطف أساسا لتعامله مع الناس ولا الغرائز مقياسا للنفع والضر والخير والشر، وحياة الإِنسان في الأرض حياة محدودة بل حياة وهمية إذ لا يعرف أحد مقدار بقائه فيها فهو ينتظر فراقها بين لحظة وأخرى، فإذا لم يؤمن بحياة أطول يجازى فيها على عمله كان ذلك داعيا إلى التقاعس عن الخير واستغلال ما يمكن من المنافع العاجلة ولو على حساب الآخرين وما الذي يدعوا الإِنسان إلى التفاني في البر وهو غير واثق من إستيفاء جزائه في هذه الحياة الدنيا ولا راجٍ حياة أخرى يطمع فيها أن يلقى أجر ما كسب، وعدم الإيمان بالمعاد مدعاة للقلق بسبب عدم وثوق الإِنسان من التعمير في هذه الدنيا، وهبه معمرا فيها فإنه لا بد له من يوم يواجه فيه الموت الكريه، فهو يحسب حسابه بإستمرار ليوم فنائه الذي يفرق ما جمع، ويأتي على ما كسب، وما الليل والنهار إلا مطيته الدؤب التي تسير به إلى ذلك اليوم وهذا يدعوه - مع عدم إعتقاد المعَاد - إلى التكاسل عن واجباته الإجتماعية، أما إذا وثق بأنه سيعاد كما كان مرة أخرى وسيوفى جزاء عمله فإن وثوقه بذلك سبب لطمأنينة نفسه ونشاطها في العمل.
والمشركون الذين كان القرآن يواجههم كانوا يؤمنون إيمانا جزئيا بالله الخالق العظيم سبحانه وتعالى، فالله تعالى يقول عنهم:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25] ولكنهم فاقدون الإِيمان بيوم البعث وهذا جعلهم يعيشون بلا هدف ويحيون للشهوات الدنيئة، فقد حكى الله تعالى عنهم قولهم: { { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] وقولهم { { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } [المؤمنون:82، الصافات: 16- 17، الواقعة: 47- 48] وكان القرآن الكريم يواجههم بالأمثال المختلفة التي يضربها لهم لتبديد شبههم وتفريق أوهامهم، فاسمع إلى قول الله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج: 5- 7] وإلى قوله: { { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } [يس: 77- 81] تتصور تلك المعركة الحامية الوطيس، معركة الجدال في اليوم الآخر.
وقوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } جاء في هذه السورة الكريمة لقرن الترهيب بالترغيب، فإن الآيات السابقة آيات مبشرات، وقد قضت سنة الله في كتابه أن يجتمع الوعد والوعيد غالبا في آية أو آيات متجاورة لحكمة بالغة علمها الله تعالى، فإن العباد بحاجة إلى تربيتهم بالترغيب والترهيب، وإيقاظ الشعور بالخوف والرجاء في نفوسهم لينشطوا للأعمال الصالحة بباعث الرجاء، وليحاذروا الأعمال السيئة لداعي الخوف، وفي الآية قراءات: "قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في مختاره { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }، قال الألوسي: وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير، وقراءة كثير من الصحابة منهم أُبيُّ وابن مسعود ومعاذ وابن عباس والتابعين منهم قتادة والأعمش"
وذكر ابن عطية في تفسيره عن مكي أن نسبها - فيمن نسبها إليهم - إلى طلحة والزبير أيضا، وقرأ باقي السبعة "مَلِكَ يوم الدين"، ونُسبت إلى زيد وأبي الدرداء وابن عمرو وكثير من الصحابة والتابعين، وروى أحمد بن صالح عن ورش عن نافع "ملكي" بإشباع كسرة الكاف، وروي عن أبى عمرو من السبعة "مَلْك يوم الدين" بتسكين اللام، وثم قراءات أخرى منها: "مَلَك يوم الدين" بفتح اللام فعلاً ماضياً، و "مالكَ" بالنصب و "مالكاً" بالنصب والتنوين، و "مالكٌ" بالرفع والتنوين، و "مالك.." بالرفع والإِضافة، و "مالكَ" بالنصب والإِضافة، و "مليك" على وزن عظيم، وهي قراءات شاذة لا يقرأ بها في الصلاة، وإنما المشهور القراءتان الأوليان.
وروي الترمذي في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ "ملك" بغير ألف، وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس، وأخرج أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرأون "مالك" بالألف، وأخرجه الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، ورواه الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحوه عند سعيد بن منصور عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا، وأخرجه ابن الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد وابو داود عن ابن المسيب يرفعه أيضا ارسالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشوكاني في تفسيره: وقد روي من طرق كثيرة فهو أرجح من الأول، وللعلماء خلاف في ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع الإِجماع أن كلتيهما صحيحتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذهب إلى ترجيح { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } طائفة منهم المبرد وأبو عبيد من أئمة العربية وعليه ابن جرير الطبري والزمخشري والجرجاني والقرطبي وقطب الأئمة والإِمام أبو نبهان والسيد محمد رشيد رضا.
وذهب إلى ترجيح { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } طائفة أخرى منهم أبو حاتم وابن العربي وابن عطية والشكواني والإِمام محمد عبده، ولكل حجة.
أما الأولون فيحتجون لرأيهم بأن قراءة "ملك" هي قراءة أهل الحرمين وهم أجدر أن يقرأوا القرآن غضا طريا كما أُنزل، وبأنها تعتضد بقوله تعالى في وصف يوم الدين { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } وبقوله تعالى في سورة الناس وهي آخر القرآن ترتيبا
{ { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } وبأن نفوذ الملك أعم من نفوذ المالك وبأنه يلزم على قراءة "مالك" نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضا، وبأنه سبحانه وصف ذاته المتعالية بالملك عند المبالغة في قوله { { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26] والملك مأخوذة من المُلْك بالضم بخلاف المالك فإنه من المِلك بالكسر، واعترض على الأول بأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لم يسلم ذلك في عهد القراء المشهورين، ومن المعلوم أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك مع أن مالكاً هو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول بعضهم: لا يخفي أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام مردود بأنه لو ثبت ذلك لأقتضى ترجيح روايتهم على كل رواية والأخذ برأيهم دون من سواهم، واعترض على الثاني بأن عضد قراءة "ملك" بقوله تعالى: { { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16] يمنعه قوله سبحانه عن ذلك اليوم: { { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } [الانفطار: 19] فإنه أراد به يوم القيامة وهو يوم الدين، ونفى المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له، لأن السياق لبيان عظمته تعالى، ويعضده قوله من بعد: { { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19] فإن المقصود بالأمر واحد الأمور لا الأوامر، وإعترض على الثالث بأن ما في سورة الناس يختلف عما في سورة الفاتحة لأنه لو قٌريء هنالك "مالك الناس" لتكرر معناه مع ما في رب الناس وأما هنا فلا تكرار لإِختلاف المقام، واعتُرِض على الرابع بأنه لا يلزم أن يكون الملك أعمّ من المالك بل بينهما العموم الوجهي ويُتصور ذلك فيمن شمل ملكه مدينة فيها الكثير من الناس والممتلكات، ولكن لا مِلك له فيها - بالكسر - فهو ملك غير مالك بالنسبة إليها، وأصحاب المِلك بالكسر - هم الذين لهم مطلق التصرف فيما يمتلكون دون الملك، واعتُرض على الخامس بأن دعوى التكرار مدفوعة وهي أيضا لازمة على قراءة ملك إن فُسِّر الرب بالملك كما ذكره الجوهري، وقد أوردنا بعض الشواهد لذلك في تفسير الرب واعترض على السادس بأن قوله تعالى: { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } أدل على المالكية منه على الملكية، وإضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن المُلك - بالضم - قد جعل تحت حيطة المالكية لأنه أحد مملوكاته.
وأما الآخرون فيحتجون أيضا بأدلة، منها أن في قراءة مالك حرفا زائدا، ولكل حرف في التلاوة عشر حسنات كما جاء في الحديث، فكانت قراءته أكثر ثوابا، ومنها أن المالك أقوى تصرفا في مِلكه من الملك في مُلكه لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة، قال الإِمام محمد عبده: (وإنما تظهر هذه التفرقة في عبد مملوك في مملكة لها سلطان، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون السلطان)، ومنها أن الملك ملك الرعية، والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية، فوجب أن يكون القهر في الملكية أكثر منه في المالكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك، ومنها أن الرعية يمكنهم التخلص عن كونهم رعية ملكهم بإختيار أنفسهم وذلك بانتقالهم عن مملكته إلى مملكة أخرى وحملهم جنسية جديدة، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه أن يكون مملوكا لمالكه وهذا يدل على أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية، ومنها أن المملوك مطالب بخدمة المالك وليس له أن يستقل بأمره دونه، ولا يجب على الرعية خدمة الملك وهذا يعني أن الإِنقياد والخضوع في المملوكين أبلغ منهما في الرعايا، ومنها أن المالك يحق له بيع مملوكه ورهنه بخلاف الملك فلا يحق له بيع رعيته، ومنها أن المالك يضاف إلى العاقل وغيره، فيُقال مالك الناس، ومالك الدواب، ومالك الأرض، ومالك الشجر، أما الملك فلا يضاف إلى مُطلق هذه الأشياء بل يُضاف إلى الناس لأنهم عقلاء، ونحن إذا أمعنا النظر لم نجد فائدة في هذا الإِختلاف، فالقراءتان صحيحتان مشهورتان، وكل واحدة منهما تؤكد معنى، فالله تعالى قد وصف نفسه في التنزيل بأنه ملك ومالك، فقد قال:
{ { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر: 23] وقال: { { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26].
فلا داعي إلى ترجيح إحدى القراءتين على الأخرى مع ثبوتهما جميعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أختار أن يلتزم القاريء في الصلاة وفي غيرها القراءة التي اعتادها، فلا تكون قراءته للقرآن مركبة بعضها بقراءة قاريء وبعضها بقراءة قاريء آخر، فنحن هنا في المشرق نقرأ بقراءة عاصم فعلينا أن نقرأ { مالك } في الصلاة وفي غيرها إلا إذا أراد أحدنا أن يقرأ في الصلاة بقراءة أحد القراء السبعة الآخرين فعليه أن يلتزم تلك القراءة في كل شيء لا في (ملك) فحسب، وكذلك إذا أراد أحدنا أن يتلو القرآن خارج الصلاة بقراءة قاريء آخر فعليه أن يلتزمها من أول القرآن إلى آخره لا أن يقرأ بعضه بقراءة وبعضه بقراءة أخرى، أما أهل شمال افريقيا وغربها فهم يقرأون بقراءة نافع، فالأولى بهم أن يقرأوا (ملك) لئلا يخرجوا عن التركيب الذي ذكرته اللهم إلا أن يريد أحدهم أن يقرأ في صلاة بعينها أو في كل الصلوات أو في تلاوة بعينها أو في جميع التلاوات بقراءة قاريء آخر فله ذلك على أن يلتزم ما تقتضيه تلك القراءة من أحكام، أما إذا نظرنا إلى ما تدل عليه الكلمتان وجدنا أن كلمة مالك أبلغ في التنصيص على عدم وجود من يملك في ذلك اليوم شروى نقير إذ إنفراد أحد بكونه ملكا في زمان أو مكان لا يمنع من وجود ملاك تحته بخلاف ما إن (انفرد بكونه مالكا) ومن هنا قال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك وملك ابلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله مالكا كان ملكا، وبهذا تعلم أن الخشوع الذي تثيره قراءة مالك لا يقل عما تثيره قراءة ملك، وإن قال السيد محمد رشيد رضا في "المنار" بخلاف ذلك مستدلا لما يقوله بأن الملك هو المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، والمراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على اعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم.
وإنما قلت بأن القراءتين جميعا تؤثران الخشوع في القلب بالسواء نظرا إلى أن المالك لذلك اليوم هو الذي وعد وتوعد ولا اخلاف لوعده أو وعيده ولا تبديل لكلماته فليس معنى لما يقوله السيد رشيد رضا من أن قراءة ملك أكثر تأثيرا في الخشوع ولا يلزم من هذه القراءة أن يكون معناها تكرارا لما في رب العالمين لأن ذكر الخاص بعد العام إنما هو دليل الاهتمام به ولا يعد من التكرار، وذكر ابن عطية والقرطبي في تفسيريهما عن أبي على أن أبا بكر بن السراج حكى عن بعض من اختار القراءة بملك، أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فلا فائدة في قراءة من قرأ مالك لأنها تكرير قال أبو على: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله تعالى:
{ { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24] فالخالق يعم ويذكر المصور لما في ذلك من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة، وكما قال تعالى: { { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] بعد قوله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3] والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها، وكما قال: { ٱلرَّحْمـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } فذكر الرحمن الذي هو عام وذكر الرحيم بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله: { { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب: 43]
والإضافة في مالك كالإِضافة في ملك ليست مجرد إضافة لفظية فالتعريف بها حاصل ولذلك جاز وصف اسم الجلالة بها ويوم الدين وإن كان مستقبلا فإنه لتحقق وقوعه نازل منزلة الشيء الكائن وملك الله تعالى له أمر ثابت.
وكون الله تعالى مالك ذلك اليوم يعني أنه مالك لكل ما فيه لأن الزمان كالمكان تقتضي الإِضافة إليه شمول ما ينطوي عليه، وقد جاء ذكر يوم الدين في كثير من آيات الكتاب العزيز في معرض التخويف من الجزاء وبيان عاقبة القوم الظالمين من ذلك قوله سبحانه:
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ، ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ، يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 17- 19] وقوله: { { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى ٱلْكَافِرِينَ عَسِيراً } [الفرقان: 25- 26] وقوله: { { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ، مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ، هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } [الحاقة: 18- 32] وبين تعالى أن العبد يومئذ يتخلى عنه كل ما أوتيه في الدنيا من ملك وجاه، وكل ما يكون سببا للاعتزاز والافتخار فقد قال عز من قائل: { { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94] وقال سبحانه: { { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً، لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [مريم: 93- 95] وأخبر تعالى عن تقطع جميع الصلات والأسباب يومئذ وتحول جميع المودات إلى عداوة ساخنة إلاَّ ما يكون بين عباده المتقين حيث قال: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101] وقال: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67] وقال: { { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34- 37] وفي هذا ما يدعو ذوي الألباب لانتهاز فرصة الحياة وتزود تقوى الله تعالى منها { { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [البقرة: 197].
و { ٱلْيَوْمَ } لغة وقت طلوع الشمس إلى وقت غروبها، وشرعا من بين طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، ويُطلق على مجموع الليل والنهار واستُعير هنا لما بين ابتداء القيامة إلى استقرار أهل الدارين فيهما، و (الدين) يأتي لغة لمعان، نقتصر منها على معنيين لصلتهما بالمراد في الآية:
أولهما: الحساب على الأعمال والمجازاة عليها، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وقول الشاعر:

واعلم يقينا أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تُدان

وقول الآخر:

إذا ما رمونا رميناهم ودناهم مثلما يقرضونا

ثانيهما: القضاء ومنه قوله تعالى: { { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } [يوسف: 76] وقول الشاعر:

لعمرك ما كانت حمولة معبدعلى جُدها حربا لدينك من مُضر

وفسر الدين في الآية بالمعنى الأول ابن عباس وابن مسعود من الصحابة رضى الله عنهم، وعليه ابن جريج وقتادة، وحكى ذلك عنهم ابن جرير وغيره من المفسرين، وروي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما تفسيره بالمعنى الثاني وكلاهما سائغ، وجاء الدين في القرآن بمعنى الجزاء في قوله: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [النور: 25] وقوله: { { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات: 53] ويدل عليه قوله تعالى: { { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر: 17] وقوله: { { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 28]
وقد يسأل سائل، أليس الله مالكا لجميع الأيام؟ فكيف يُخَص مُلكُه بيوم الدين؟.
والجواب أن كل زمان داخل في حيطة ملك الله تعالى الواسع كدخول كل مكان، وإنما خُص يوم الدين بالذكر لأن الذين يتعامون في الحياة الدنيا عن دلائل اختصاص الله تعالى بالملك فيدعون الملك لأنفسهم أو لغيرهم ويخشون غير الله تعالى، ويرجون سواه يدركون في ذلك اليوم أن الملك لله تعالى وحده، فلا يتطاول أحد على ادِّعاء الملك، ولا يتعلق خوف أحد ولا رجاؤه بغير الله، ولذلك قال الله تعالى:
{ { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16] وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟" ، ومن هنا حرم أن يوصف أي أحد غير الله بأنه مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين، كما يحرم وصف غيره بأنه رب العالمين، ومثلهما ملك الملوك وملك الأملاك فإنهما وصفان لله تعالى وحده، ففي حديث أبي هريرة عند الشيخين أيضا أن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام قال: "إن أخنع إسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك" - زاد مسلم - "لا مالك إلا الله عَزّ وجل" وفي رواية أخرى "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله سبحانه" .
أما الملك فيجوز اطلاقه مجازا على غير الله كما في قوله تعالى حكاية عن بني اسرائيل: { { ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [البقرة: 246] وقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } [البقرة: 247] وفي الحديث "ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة" .
ولسائل أن يسأل أيضا أليست كل الأيام أيام جزاء وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في اداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم؟ واترك الإِجابة لصاحب المنار الذي طرح هذا السئوال واجاب عنه بما معناه: أن الجزاء قد يقع في أيام الدنيا على جميع الأعمال خيرا كانت أم شرا ولكن ربما لا يظهر للمجزيين إلا على بعضها دون جميعها، وانما يظهر الجزاء على التفريط في العمل الواجب ظهورا تاما في الدنيا بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من أفرادها فكل أمة تنحرف عن صراط الله المستقيم ولا تراعي سننه في خليقته لا ينتظرها إلا مصير حاسم تلقى فيه من العدل الإلهي ما تستحقه من الجزاء كالفقر والذل وتبدد العزة وتلاشي السلطة جزاءً وفاقا، أما الأفراد فإن كثيرا من المسرفين الظالمين منهم يقضون أعمارهم في لجج الشهوات والملذات وقد توبخهم ضمائرهم أحيانا ولا يسلمون من المنغصات وقد يصيبهم النقص في أموالهم وعافية ابدانهم وقوة مداركهم ولكن كل هذا لا يقابل بعض اعمالهم القبيحة لا سيما أولئك الجبابرة المتسلطون الذين تشقى بأعمالهم السيئة شعوب وأمم، وفي مقابل أولئك نرى المحسنين في انفسهم وفي الناس يبتلون بصنوف البلاء ولا ينالون الجزاء الذي يستحقونه على صنوف أعمالهم! نعم يكرمهم الله تعالى براحة ضمائرهم وسلامة أخلاقهم وصحة ملكاتهم ولكن ليس ذلك كل ما يستحقون، أما في ذلك اليوم فكل فرد من افراد العاملين يوفى جزاؤه كاملا لا يظلم شيئًا منه كما قال تعالى: { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } الزلزلة: [7- 8].