التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
١٤
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٥
-البقرة

جواهر التفسير

يبين لنا الله تعالى هنا نمطا من أنماط معاملتهم لغيرهم، وأسلوبا من أساليب الخداع التي يلجأون إليها، هروبا من الفضيحة، وركونا إلى السلامة مما يترتب على انهتاك سترهم وظهور أمرهم، فهم يلقون الناس بوجهين، ويتحدثون إليهم بلسانين لأجل إرضاء كل طائفة والتوقي من كل فريق، وهو شر ما يكون في الانسان، ولذلك ترتب عليه أعظم الوعيد، كما جاء في الحديث: "من كان له وجهان في الدنيا كان له وجهان من النار يوم القيامة، ومن كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من النار يوم القيامة" .
طريقة المنافقين في التعامل:
هذه الطريقة متبعة عند منافقي جميع العصور على اختلافها، فهم عندما يحسون بقوة الحق، وظهور المحقين لجأوا إلى هذا المسلك، فلقوا المحقين بوجه، والمبطلين بآخر، متصورين أن هذه براعة وفطنة وذكاء، وما هي إلا غباوة ونذالة وانحطاط وسفاهة، لا يرضاها إلا الأدنياء، فلذلك عُدوا أسوأ حالا ممن أعلن باطله وجاهر بكفره، فإنهم مع ما اشتركوا فيه مع الكفار من عقيدة الكفر، تميزوا بهذا الأسلوب الذي يسخرون به من المؤمنين ويستخفون به بما أنزل الله من الحق، وتلك هي الحقيقة التي يبدونها لشياطينهم حتى يطمئنوا إليهم ويثقوا فيهم.
وإنما قلت إن هذا هو ديدن أهل النفاق عندما يشعرون بسلطان الحق، ويرون آثار مده، لأن استشراء النفاق إنما بدأ بعد ما أخذ الاسلام يهز قواعد الكفر ويزلزل أركان الجاهلية، وقد علمت مما تقدم أن النفاق إنما عهد بعد غزوة بدر التي جعلت شياطين الكفر يحسبون كل حساب لهذا الدين، ولم يكن الذين لجأوا إلى النفاق من الشهامة والرجولة بحيث يتمكنون من المنابذة الصريحة والمقاومة المكشوفة، فلم يجدوا أمامهم إلا هذه الطريقة الملتوية فصاروا مذبذبين بين الطائفتين.
وقوله عز من قائل { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا } توطئة لما بعده، فلا يُعد تكرارا لما في قوله { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
وأرى أن هذا العطف والذي قبله جيء بهما لتعداد مساوئ أهل النفاق كما سبق ذكره.
وذكر كثير من المفسرين في سبب نزول هاتين الآيتين قصة أخرجها الثعلبي والواحدي في أسباب النزول من رواية السدي الصغير، ومحمد بن مروان عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وملخصها أن عبدالله بن أبيّ وأصحابه خرجوا يوما فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبدالله: أنظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصّدّيق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله في الغار، الباذل ماله ونفسه لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا، فنزلت الآيتان فيهم.
وإسناد هذه القصة من الضعف بمكان، فقد ذكر الحافظ في تخريجه أحاديث الكشاف أن محمد بن مروان متروك متهم بوضع الحديث، وقال عن هذا الحديث إنه في غاية النكارة، وذكر الألوسي أن سلسلة هذه الرواية سلسلة الكذب وليست بسلسلة الذهب.
وأنتم إذا نظرتهم إلى سياق الآيات رأيتموها متناسقة، آخذا بعضها بحجزة بعض، كل آية منها كاشفة عن جانب مهم من مساوئ أهل النفاق، وذلك يقتضي عدم انفصال بعضها عن بعض بالاستقلال بالسببية، وإنما مجموع أعمال المنافقين في مجملها سبب رئيسي لنزول جميع هذه الآيات.
ولقاؤهم الذين آمنوا الذي يترتب عليه قولهم آمنا هو عند اجتماعهم بهم في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها، وخلوهم إلى شياطينهم عودهم إليهم في مجامعهم التي هي محل استقرارهم ومظان طمأنينتهم.
والأصل تعدى خلا بالباء أو بمع، يُقال خلوت به أو خلوت معه، وتعديه هنا بإلى لتضمنه معنى آب ورجع، فإنهم منقلبهم الذي يعودون إليه، لأن لقاءهم بالمؤمنين لا يكون إلا عرضا بخلاف لقائهم بشياطينهم.
والشياطين جمع شيطان وهو جنس من المخلوقات، ذو روح شريرة، طبعه الحرارة النارية، لأن النار عنصر تكوينه، بدليل قوله تعالى - حكاية عن إبليس لعنه الله -:
{ { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12]، وقوله: { { وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27]، وهم من جنس الجن لقوله تعالى: { { كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ.. } [الكهف: 50]، وأطلقت العرب اسم الشيطان على كل عات متمرد من أي جنس كان، فقد جاء في القاموس واللسان: "الشيطان كل عات متمرد من الإِنس والجن والدواب"، وهذا لأن طبيعة الشياطين التمرد والعتو، فأطلق اسمهم على كل ما شابههم في وصفهم على طريق الاستعارة، ومن هذا الباب قوله عز وجل: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } [الأنعام: 112]، وفي الحديث: "الكلب الأسود شيطان" ، وقال جرير:

أيام يدعونني الشيطان من غزلي وهن يهوينني إذ كنت شيطانا

وقد أطال علماء العربية وتبعهم المفسرون في بيان اشتقاق هذه الكلمة، وقد ذهبوا فيها مذاهب؛ منهم من عدها من شطن بمعنى بَعُدَ، ومنهم من قال هي من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل، ولا أجد داعيا إلى حشو التفسير بمثل هذه الأمور التي هي أخص بفنون أخرى، وذهب ابن عاشور إلى أن الشيطان اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة، ودخل في العربية من لغة سابقة، لأنه من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، ولم يأت بدليل يقضي بصحة قوله.
واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، قيل هم اليهود، وهو مقتضى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إنا على دينكم، وإذا خلوا إلى شياطينهم - وهم إخوانهم - قالوا إنا معكم على مثل ما أنتم عليه .. الخ"، وأخرج نحوه البيهقي في الأسماء والصفات، وقيل: هم رؤساؤهم في الكفر، روى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ورواه هو وعبد بن حميد عن قتادة، ورُوي مثله عن ابن عباس والسدي، وعزي إلى الكلبي أنهم شياطين الجن، وهو مشكل، وقيل هم الكهان، وعزاه القرطبي إلى جمع من المفسرين، والأظهر أنهم قادة اليهود، فإنهم الذين ديدنهم تأجيج الفتنة، وتمزيق الشمل، والتشكيك في الحق، وقد كانوا يستغلون المنافقين لهذا الغرض، على أن كثيرا من أهل النفاق كانوا من العنصر اليهودي.
والمراد بمعيتهم في قوله { إنا معكم } مجامعتهم لهم على الكفر بالإِسلام، ومناوأة المسلمين، وعدم تأثر نفوسهم بالإِيمان، وهو معنى ما روي عن ابن عباس "إنا معكم على مثل ما أنتم عليه".
وفي مثل هذا الموقف قد تثور خواطر الشكوك في نفوس أولئك الشياطين؛ لما يعرفونه عن أهل النفاق من التملق للمسلمين وإبداعهم في مجاملتهم، ومحاولة التنصل أمامهم من كل العقائد المغايرة للاسلام، وقد تؤدي هذه الشكوك إلى مساءلتهم؛ ما بالكم تتملقون لدى المسلمين وتتوددون إليهم بالكلمات الطيبة والعبارات المليئة بالتقدير والاحترام؟ فيدفع المنافقون عن أنفسهم التُّهم، ويتنصلون إلى شياطينهم بقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } ليستأصلوا منهم الشك، وليغرسوا في أنفسهم الثقة بهم والطمأنينة إليهم، أي إنما نأتي الذي نأتيه مع المؤمنين استخفافا بهم وسخرية منهم.
ويُبحث في وجه تأكيدهم لخطاب الشياطين دون خطاب المؤمنين، مع أن المتبادر أنهم أحوج إلى التأكيد في خطاب أولي الإِيمان ليدرأوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وأجيب عنه بجوابين:
أولهما: أن خطابهم لأهل الإِيمان لم يصدر عن باعث في نفوسهم فلذلك اختصروا؛ لأن ألسنتهم لا تطاوعهم على التأكيد لما وقر في قلوبهم من الكراهة المتأصلة للحق ولأهل الحق، على أنهم لا يدّعون عندهم أنهم على ذروة الإِيمان لعدم رجائهم رواج ذلك بين من يخاطبونهم، كيف وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والانجيل، وإنما يقنعون بادّعاء أنهم منتظمون في سلك عامة أهل الإِيمان، وبعكس ذلك خطابهم للشياطين، فإنه خطاب ناشئ من أعماق نفوسهم وصادر عن أقصى رغبتهم، وتأكيد الخطاب يراعى فيه تارة جانب المتكلم، وتارة جانب المخاطب، وأخرى جانبهما معا.
ثانيهما: أن العدول عن مقتضى الظاهر في خطابهم للمؤمنين ولشياطينهم؛ لأنهم لا يريدون أن يضعوا أنفسهم موضع من يتطرق ساحته الشك في صدقه، إذ لو خاطبوا المؤمنين بالتأكيد لكان من خطابهم ما يشكك المؤمنين فيما يقولون، وهذا من إتقان نفاقهم، على أن المؤمنين قد يكونون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم، فتعبيرهم عن إيمانهم جدير بأن يكون تعبيرا عاديا خاليا من المؤكدات، وذلك بخلاف مخاطبتهم لقومهم، فإن إبداعهم في النفاق واختراع أساليب الخداع عند لقائهم بالمؤمنين قد يثير شكوك كبرائهم في بقائهم على دينهم، فلذلك احتاجوا إلى التأكيد في مخاطبتهم ليتقرر في نفوسهم بقاؤهم على الكفر.
أساليب المنافقين في الخطاب:
وأنتم إذا أمعنتم النظر فيما ورد من آي الكتاب حاكيا أقوال المنافقين، أدركتم أن خطابهم للمؤمنين كان يتلون بحسب المقامات، فتارة يكون مؤكدا، وتارة خاليا من التأكيد، وكثيرا ما يقترن بتغليظ الأيمان، وهذا يرجع - حسبما أرى - إلى اختلاف أحوال المؤمنين المخاطبين أو أحوال المنافقين المتكلمين، فخطابهم للذين يتفطنون لأحوالهم ويتنبهون لغاياتهم ليس كخطاب غيرهم ممن يكون خالي الذهن من تصور عمق النفاق وإدراك ملامح أهله، ولذا عندما يحكى خطابهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه مقرونا بمؤكدات أكثر مما إذا حكي خطابهم لغيره، كما تجد ذلك في نحو { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }، وذلك لما يعرفونه عنه صلى الله عليه وسلم من عمق إدراكه وسرعة تفطنه لمكائدهم، كيف وهو الذي يتلقى عن الله تعالى وحيه الكاشف لخفايا الأمور، وكذا يستدعي حال الذين شُهروا بالنفاق عند المؤمنين أن يكون كلامهم أكثر تأكيدا من كلام غيرهم، محاولة منهم لتبرئة ساحتهم وتغطية مساوئهم.
والفرق بين خطابهم للمؤمنين الذي جاء جملة فعلية، وخطابهم لغيرهم الذي صيغ من الجملة الإِسمية، لأنهم عند المؤمنين يدّعون حدوث الايمان في نفوسهم بعد أن كانوا على ملة الكفر، والجملة الفعلية من شأنها الدلالة على الحدوث والتجدد، بينما يؤكدون لشياطينهم بقاءهم على ما كانوا عليه من عقيدة الكفر، وذلك يستفاد من كون الجملة الدالة عليه اسمية؛ فإنها من شأنها الدلالة على الثبوت والدوام، ويتضح مما قررناه سابقا أن جملة { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } مستأنفة استئنافا بيانيا، جوابا لتساؤل شياطينهم عما يكون منهم في خطابهم للمؤمنين من دعوى الايمان مع أنهم على مثل ما كانوا عليه من الكفر، فيجيبونهم بأن ذلك ناشئ عن استهزائهم بهم، ليس غير، وقال بعض أهل التفسير هو بدل من { إنا معكم }، واختلفوا هل هو بدل اشتمال أو كل أو بعض، وذهب الفخر إلى أنه تأكيد له، والصحيح ما أسلفناه.
والاستهزاء: الاستخفاف، ومادته دالة عليه، فإنهم يقولون تهزأ به ناقته إذا أسرعت وخفت، وذكر الامام الغزالي أنه الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يُضحك منه، وذكر الفخر أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، وأتبع ذلك بقوله: فعلى هذا قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم، ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم". ورده الألوسي بأنه مخالف للغة والعرف.
وبعد أن حكى الله سبحانه عن أولئك السفهاء ما حكاه من استخفافهم بأولي الحلوم الراجحة، والايمان الراسخ، رد على مقالتهم السيئة بقوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ليكون في هذا الرد الصريح تسلية للمؤمنين في ذلك العصر، وفيما يتبعه من العصور؛ بأن الله تعالى كافيهم مكائد خصومهم الذين يلقونهم بوجوه الخير ويخفون وراءها قلوبا طافحة بالشر، غاصة بالأحقاد، ومثله قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } [الحجر: 95]، وفي هذا تثبيت لعزائم أهل الحق، وبعث لهم لأن يشقوا طريقهم، لا يلوون على أحد من مناوئيهم، ما دام الله سبحانه هو المتكفل بأن يجزيهم جزاء من جنس عملهم.
والآية الكريمة وإن نزلت في المنافقين الذين كانوا في عهد الرسالة، فمدلولها يشمل كل من كان على شاكلتهم، وما أكثر أولي الاستخفاف بالحق والاستهزاء بأهله الذين يلقون المؤمنين بالألسنة الكاذبة، والقلوب الحاقدة والنوايا السيئة، وإنما سلو المؤمنين في هذه الكفاية الربانية
{ { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيراً } [النساء: 45].
وقطع هذه الجملة عما قبلها لأن عطفها قد يوهم أنها من مقول المنافقين، وأنهم يدعون أن الله تعالى يؤيدهم ويعزز جانبهم، إذ يستهزئ بالمؤمنين كما يستهزئون، فكان فصلها دالا على استقلالها عن كلامهم، وأنها من كلام الله تعالى تبكيتا لهم وانتصارا لعباده المؤمنين، وثم سبب آخر، وهو أن حكاية ما كان من المنافقين في معاملتهم أهل الإِيمان، ومصارحتهم قومهم بأنهم يستهزئون بهم بما يلقونهم به من الكلم الطيب، يجعل الأعناق تشرئب، والعيون تتطلع إلى ما يحدث من رد فعل من جانب المؤمنين، فرب قائل يقول ماذا عسى أن يفعل الذين آمنوا، وقد اصطبغوا بخديعة أهل النفاق، ووقعوا في فخ كيدهم، وشراك مكرهم؟ فجاء هذا الرد من قبل الله بأن ذلك ليس موكولا إليهم، وإنما الله الذي هداهم إلى الحق هو المتكفل بخصومهم، وفي القطع في هذا المقام من الجزالة ما لا يخفى.
ومن ناحية أخرى فإن العطف يقتضي أن يكون استهزاؤهم مما يُعْتَدّ به، وتركه يشعر أنه لا شيء بجانب استهزاء الله بهم، فهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى شيء من مرادهم في الذين آمنوا لأن الله بهم محيط، وبكيدهم خبير.
ومما يؤكد اعتبار الاستئناف تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي الذي وَلِيَهُ، إذ لم يقل يستهزئ الله بهم، لأنه مما يجول في خواطر السامعين السؤال عن من يتولى جزاء صنيعهم، وفي هذا الجواب تنبيه على أن الله تعالى وحده هو الذي يتولى ذلك، وفيه ما لا يخفى من رفعة قدر المؤمنين عنده، ونحوه قوله سبحانه:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } [الحج: 38]، على أن بعض أهل البلاغة يرى أن تقديم المسند إليه هنا قاض بقصر المسند عليه، وهو مقتضى مذهب إمامي البلاغة عبدالقاهر الجرجاني وجارالله الزمخشري.
وقد كان مقتضى الظاهر أن يقال: الله مستهزئ بهم ليوافق قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } غير أنه عدل عن الاسم إلى الفعل للدلالة على تجدد الاستهزاء من الله بهم، حتى لا يغتر أحد بما يراهم فيه من نعمة ظاهرة، فإن البلاء بهم متلاحق، والجزاء فيهم متنوع، والمحن عليهم مسترسلة،
{ { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } [التوبة: 126]، وكان الخوف يساورهم، يحذرون دائما من تهتك أستارهم، وانتشار أسرارهم، وبدوِّ أمرهم، وكانوا وجلين من كل ما ينزل من الآيات { { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [التوبة: 64].
وقد سبق معنى الاستهزاء وهو في حقيقته لا ينشأ إلا عن الجهل، ولذلك أجاب موسى - عليه السلام - عندما قيل له: { أتتخذنا هزوا } بقوله
{ { أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [البقرة: 67]، وبهذا تعلم أن حقيقته مستحيلة على الله عز وجل، ولذا اختلف المفسرون فيما يراد به هنا، فمن قائل هو بمعنى الانتقام، وقد ورد نحوه في كلام العرب ومنه قوله:

قد استهزأوا منهم بألفي مدجج سراتهم وسط الصحاصح جُثَّم

وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في معنى ذلك: يسخر بهم للنقمة منهم. ومن قائل: أُطلق الاستهزاء على جزائه لما عُرف من إطلاق اسم الشيء على ما يترتب عليه، نحو قوله تعالى: { { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]، وقوله: { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وقوله: { { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، وقوله: { { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ } [آل عمران: 54]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن فلانا هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه اللهم، والعنه عدد ما هجاني" ، أي اجزه جزاء هجائه، وهذا من باب ما يسمى بالمشاكلة اللفظية، وهي أسلوب من أساليب كلام العرب، كما قال عمرو بن كلثوم:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وعزا ابن عطية هذا القول إلى جمهور العلماء.
وأرى أنه لا يختلف عما قبله، فإن إطلاق الاستهزاء على الانتقام لا يعني إلا العقوبة على ما صدر من المنتقَم منه من الاستهزاء والاستخفاف.
وذهب آخرون إلى أن إسناد الاستهزاء هنا إلى الله إنما هو من حيث كونه سبحانه يصرف عن عباده المؤمنين ضرر استهزاء خصومهم، وينزله بالمستهزئين، وفي هذا ما يشبه الاستهزاء بهم، فلذلك استعير له اسمه، وقيل: لما كان الاستهزاء من لازمه حقارة المستهزأ به وهوانه، والمنافقون من الحقارة والهوان بمكان، أطلق اسم الملزوم على اللازم على طريقة المجاز الإِرسالي، وقيل: إن الاستهزاء هنا عبارة عما شرعه الله من أحكام في الدنيا تجعل المنافقين يطمئنون إلى أنهم لا يختلفون عن الذين آمنوا، مع أنه تعالى أعد لهم في الآخرة عذاب الهون، كما أظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أمرا يبطنون ضده.
وضعّف الفخر الرازي هذا القول؛ لأنه تعالى عندما شرع لهم هذه الأحكام في الدنيا لم يكتم عنهم مصيرهم في الآخرة.
وقيل: إن الله سبحانه عاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فمن حيث أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يخفونه، وأما في الآخرة فقد رُوي أنه يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يُفتح له باب آخر فيقال هلم هلم، فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أُغلق دونه، فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال هلم هلم فما يأتيه، عُزي ذلك إلى ابن عباس والحسن، وقال قوم: إن النار تجمد كما تجمد الإِهالة، فيمشون عليها ويظنونها منجاة فتخسف بهم، وحمل ابن جرير هذا الاستهزاء على ما أخبر الله تعالى به في قوله:
{ { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد: 13].
ومهما يكن فإن حقيقة الاستهزاء منتفية عن الله سبحانه، ولا معنى لما يقوله البعض من امتناع التأويل وحمل هذا اللفظ على حقيقته مع مراعاة التنزيه في جانب الله تعالى، فإن من لازم الحمل على الحقيقة التشبيه، وهو لا يمكن أن يجامع التنزيه، على أن المتأولين هم أرسخ قدما في العربية، كما أنهم أعمق فهما لمقاصد القرآن، وإن أطال ابن جرير في الانتصار للفريق الآخر، ولم يبعد الألوسي رأيهم عن الصواب.
والمد الزيادة مأخوذ من مده، وفي معناه أمده، وفرّق بينهما بعضهم بأن المجرد يستخدم في معنى زيادة الشر، والمزيد في زيادة الخير، وهي في الحقيقة قاعدة أغلبية كما أفاد القطبرحمه الله وغيره، ويدل على عدم التفرقة قراءة ابن محيصن وشبل بضم الياء من أمد الرباعي، ونُسبت هذه القراءة إلى ابن كثير، كما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى:
{ { وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [لقمان: 27]، ويطلق المد على زيادة العمر غير أنه يتعدى باللام، وادعى بعض المفسرين أنه هو المراد هنا، وأن انتصاب الضمير إنما هو باب الانتصاب بنزع الخافض، ويرده أن نزع الخافض ليس قياسيا، ولا يكون إلا مع أمن اللبس، واللبس هنا حاصل.
والطغيان مصدر كالشكران والكفران، وهو دال على المبالغة في الطغي وأصله من طغى الماء إذا جاوز حده المألوف، واستعمل عرفا في مجاوزة الحد في العصيان.
ولا إشكال في إسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى لما علمته من أن العقيدة الحقة أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، وأن كل ما يحدث إنما هو بإرادته.
ومن حيث إن المعتزلة ينفون عن الله سبحانه خلق أفعال العباد حملوا المد هنا على خذلانهم، ومنعهم الألطاف التي يهبها تعالى عباده المؤمنين، أو على عدم قسرهم وإلجائهم إلى الطاعة، أو على أنه سبحانه خلى بينهم وبين الشيطان فتمكن من إغوائهم.
وذهب العلامة ابن عاشور إلى أن إسناد المد إلى الله عز وجل هنا هو من باب إسناد ما خفي فاعله إليه تعالى لأنه الموجد للأسباب الأصلية والمرتب لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها، من غير مشاهدة من تُسند إليه على الحقيقة غيره، وذلك أن النفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره عدم انقطاعه عنها، ولما كان من شأنه أن تنمى عنه الرذائل المتنوعة، كان تكونه في نفوسهم ناشئا عن شتى الأسباب في طباعهم، متسلسلا بحسب ارتباط المسببات بأسبابها، وهي أسباب شتى، وقد حرمهم الله توفيقه الذي يباعدهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان هذا الحرمان مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ، ومن حيث إن الله سبحانه هو الذي خلق النظم التي هي أسباب ازدياده أسند هذا المد إليه، وهذا الاسناد معدود من الحقيقة العقلية، هذا ما ذهب إليه، وهو في جوهره يتفق مع مذهب المعتزلة وإن اختلف المذهبان من حيث إن المعتزلة يعدون هذا الاسناد من باب المجاز العقلي كما هو واضح من كلام الزمخشري.
وتعريف الطغيان بالاضافة إلى الضمير العائد إليهم، إما للاشعار بأنه حاصل بسبب إخلادهم إلى النفاق من تلقاء أنفسهم من غير أن يُجبروا عليه، وإما للاشعار بأنه نوع غريب من الطغيان اختصوا به ولم يشاركهم فيه غيرهم.
وفسر ابن عباس الطغيان هنا بالكفر، أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي، وأخرج مثله ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه -، وروي عنه تفسير مدهم بالاملاء لهم، وروي عن أبي العالية وقتادة، والربيع ابن أنس، ومجاهد، وأبي مالك وعبدالرحمن بن زيد نحو ما تقدم في تفسير الطغيان.
والعمه فُسّر بالتردد والتحير، وروى ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه فسر يعمهون بيتمادون، وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - مثله، وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، أنه فسره بيلعبون ويترددون.
وأصله انطماس البصيرة، فهو كالعمى، إلا أن بعضهم قال بأن العمى مختص بالبصر، والعمه بالبصيرة، وذهب الزمخشري إلى أن العمى عام، والعمه خاص بالقلب، وهذا أولى لقوله تعالى:
{ { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ } [الحج: 46]، وهو نص صريح في إطلاق العمى على انطماس البصيرة.
وإذا تأملت مفهوم الكلمة اللغوي أدركت أن المأثور من تفسيرها إنما هو تفسير باللازم، فإن من تعمق في الطغيان لا بد أن يبقى حائرا مترددا متماديا في ضلالته، نسأل الله تعالى العافية.