التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٦
-البقرة

جواهر التفسير

هذا الكلام يفيد تقرير ما تقدم من أوصاف أهل النفاق وما يترتب عليها، ومن حيث إن التقرير في مضمونه التأكيد قُطع عما قبله، وقد يقتضي الحال أن يسأل السامع لأوصافهم المتلوة فيما تقدم عن منشأ تلك العجرفة وسبب ذلك الغرور، فيجاب { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } وهذا يعني أنه استؤنف استئنافا بيانيا، وهو من دواعي عدم العطف أيضا، ومن ناحية أخرى فإن هذه فذلكة لما سبق، ومن عادة الفذلكة أن تكون مقطوعة كما في قوله تعالى: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }.
والأصل في الاشارة أن تكون إلى متعين إما بحضور شخصه، أو بتعين وصفه، كما تقدم في قوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ }، والمشار إليهم هنا ليست شخوصهم كلها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما يدل عليه قوله تعالى { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ }، وثم الكثير من الأحاديث الدالة على أن جمهرة من المنافقين لم يكونوا متعينين بشخوصهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وإنما جازت الاشارة إليهم لما تقدم من الآيات الكاشفة لأحوالهم، المحددة لأوصافهم، التي جعلتهم كأنما يشاهدون رأي العين.
والاشارة هنا لا تفيد قربا ولا بعدا لعدم الاشارة إلى مكان المشار إليه.
والاشتراء هو أخذ المثمن ودفع الثمن، فهو كالابتياع، وذهب بعض أئمة اللغة إلى أن فعل وافتعل يتعاقبان في مادة الشراء، ولعلهم يستدلون لذلك بقول الشاعر:

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

وانتقد ابن عاشور التسوية بينهما، وذكر أن الذي جرأهم عليه سوء التأمل في قوله تعالى: { { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [يوسف: 20]، فتوهموا أن الضمير عائد إلى المصريين، مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى: { { وجاءت سيارة } [يوسف: 19]، أي باعوه، ثم قال: "وحسبك شاهدا على ذلك قوله" { { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين، ألا ترى قوله لامرأته { { أكرمي مثواه } [يوسف: 21].
وللغويين أن يستدلوا لقولهم بقول الشاعر:

إن الشباب رابح من باعه

فإنه من المعلوم أن آخذ الشباب هو الرابح وليس باذله، ومن الواضح أن البائعين كلاهما آخذ ومعط، فما المانع من جواز تعاقب الفعل والافتعال من كلتا الكلمتين في كل منهما.
وبما أن البيع والشراء يقتضيان استبدال شيء بآخر، أطلقت العرب الاشتراء على مطلق الاستبدال، ومنه قول الشاعر:

أخذت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمرا حيدرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا

وقول الآخر:

إنا بني نهشل لا ندعى لأب عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

ونحوه في البيع كقول الحماسي:

وما إن بعت منزلة بأخرى حللت بأمره وبه تسير

وحمل جماعة من المفسرين الاشتراء هنا على هذا المعنى، ورأى آخرون أن إطلاق الاشتراء على اختيارهم الضلالة على الهدى، لأن من اشترى شيئا لا يشتريه إلا وهو فيه راغب، وفي ثمنه زاهد، ومن حيث إن هؤلاء زهدوا في الهدى ورغبوا في الضلالة، أُطلق على فعلهم الاشتراء، وهو من المجاز المرسل بعلاقة اللزوم.
وانتقد الامام محمد عبده تفسير الاشتراء بالاستبدال لما بين اللفظين من فارق، والقرآن الكريم لا يؤثر لفظا على لفظ إلا لمزية فيه، ولخص الفارق بينهما في وجهين:
أحدهما: أن الشراء لا يكون إلا لفائدة يطلبها كل من البائع والمشتري، سواء كانت حقيقية أو وهمية، والاستبدال أعم من ذلك.
ثانيهما: أن الشراء يكون بين طرفين ولا يلزم ذلك في الاستبدال، فقد يستبدل أحد ثوبا من ثيابه بثوب من غير أن يكون في مقابله أحد، ولا يصدق على ذلك أنه بيع أو شراء، وفي هذا ما يدل على أن معنى الآية أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة يتوهمونها، فهو معاوضة بين طرفين يُقصد بها الربح.
ثم أوضح الامام ذلك بما معناه أنهم كانت عندهم كتب سماوية فيها مواعظ وأحكام وتبشير بمبعث نبي يُحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، ويغمر الأرض نوره، ويشمل الأمم هداه، فيعطي العقول حقها من الاستقلال، ويجعل لكل فرد حرية في الأفكار، فكان عندهم بذلك حظ من هداية العقل، والمشاعر، وهداية الدين والكتاب، غير أنهم تفشت منهم الأحداث والبدع، واستولت عليهم الانحرافات والضلالات، فعلا سلطان ذلك على سلطان الدين، ونتج عنه ضلال الرؤساء في فهمه بإخلادهم إلى تحكيم تقاليدهم الموروثة ونبذهم الكتاب بطرق من التحريف والتأويل، كما نتج عنه إهمال المرؤوسين التفكر والنظر في الكتاب بسبب حظر الرؤساء ذلك عليهم، ومن هنا ضل الفريقان في استخدام العقل، وفي فهم الوحي بعد أن كان ذلك ميسرا لهما، واستعاضا عنه المنافع العاجلة، فللرؤساء المال والجاه والتفخيم باسم الدين، وللمرؤوسين الاستعانة بجاه الرؤساء على مصالحهم ومنافعهم، ورفع أثقال التكاليف بالفتاوى الباطلة، والتأويل المحرف، هكذا استحبوا العمى على الهدى، وهو العقل والدين رغبة في الحطام، وطمعا في الجاه الكاذب.
هذا معنى كلامه، وهو مبني على ما تقدم ذكره عنه أنه يرى أن المنافقين المعنيين في الآيات كانوا من اليهود وحدهم، ولغيره أن يتعقب تفسيره للاشتراء بأن المعاوضة التي تكون بين طرفي المبايعة اللغوية غير موجودة هنا، إذ لم يكن فريق آخر دفعوا إليه ما كان عندهم من الهدى وأخذوا ما عنده من الضلال، على أن العرب يطلقون هذا اللفظ أحيانا على مطلق الاستبدال من غير مراعاة للقيود التي ذكرها، كالشاهد المتقدم:

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل

إذ لم يكن في ذلك طرفان، بائع ومشتر، ولا فائدة في هذا الشراء حقيقية أو وهمية، وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: "أخذوا الضلالة وتركوا الهدى"، ومثله عن ابن عباس، وأناس من الصحابة - رضوان الله عليهم -، وأخرج هو وابن أبي حاتم، وعبدالرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: "استحبوا الضلالة على الهدى"، ويعضده قول الله سبحانه: { { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17].
وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - الضلالة هنا بالكفر، والهدى بالايمان، وقد تقدم معنى الكلمتين في تفسير الفاتحة الشريفة.
ولسائل أن يسأل، كيف استعاضوا الضلالة بالهدى مع أنهم لم يكونوا مهتدين من قبل، على أن قطب الأئمة -رحمه الله - فسر في هيميانه اشتراءهم الضلالة بالهدى ببقائهم على الضلالة وإعراضهم عن الهدى.
والجواب أنهم كانوا متمكنين من الهدى، إذ لم يكونوا مكرهين على الضلالة، وقد لاحت لهم أعلام الحق، وأشرقت بين أيديهم أنوار الحقيقة، وإنما رفضوه من تلقاء أنفسهم على أن الدين القويم هو نفسه فطرة الله التي فطر الناس عليها، فما من أحد إلا وهو مفطور عليه، غير أن البيئات الفاسدة، والتربيات المنحرفة، وإيثار العاجلة على الآجلة، هي السبب في انتزاع هداية الدين، والحاجز بين النفس والانتفاع بهذه الهداية.
ومن المفسرين من يحمل هذا الوصف على قوم آمنوا من قبل ثم ارتدوا في سريرتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى
{ { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [آل عمران: 86]، وقوله { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [المنافقون: 3]، وهو معنى ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد عن مجاهد، قال آمنوا ثم كفروا، وهو مقتضى قول قتادة: قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة.
وانتقد ابن جرير من قال إن هذا الوصف فيمن آمن ثم كفر، لأن السياق يأبى ذلك، فإن كل ما في سورة البقرة من وصف المنافقين دال على أن الايمان لم يصل إلى سويداء قلوبهم في وقت من الأوقات وإن ادعوه بأطراف ألسنتهم، وهذا يعني أن فريق المنافقين المذكور هنا غير الذين ذكروا في قوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا }، وقوله { كَيْفَ يَهْدِي ٱللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ }.
ولما كان كل من المتبايعين يسعى إلى الربح، إذ هي ثمرة التجارة ومطمح التجار، عُقِّب ما تقدم ببيان أن هؤلاء المنافقين فشلوا في سعيهم، وخابوا في أملهم، ومن المعلوم قطعا أن من آثر الضلال على الهدى، واختار الكفر على الايمان، فقد بذل ما ينفع في مقابل ما يضر، وتلك هي الخسارة العظمى، وإنما عُدل عن التنصيص على خسرانهم إلى نفي ربحهم للتنبيه على أنهم كانوا بصنيعهم يهدفون إلى مكاسب يبتغونها، ومنافع يتصورونها أجدى لهم من هداية الدين، ولما كانت تلك المنافع لا توازي شيئا بجانب ما افتقدوه من الهدى مع ما كان ينغصها عليهم من الخوف والحذر، نُفي عنهم الربح لعدم الاعتداد بها، ومن المعلوم أنهم أضاعوا رأسمالهم بهذا العسف، ففقدوا الطلبتين بقاء رأس المال وحصول الربح، ولما كان انتفاء الربح مترتبا على الاشتراء عُطف عليه بالفاء.
والتجارة هي صنعة التاجر، والربح طلبته منها.
وبما أن إيثار الضلالة على الهدى ليس من الاهتداء في شيء، اختار بعض المفسرين أن يكون قوله عز وجل من بعد { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } نفيا للهدى اللغوي حتى لا يكون ذلك تكرارا مع ما في قوله { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }، وهو معنى قول بعضهم وما كانوا مهتدين في هذا الخداع لأنهم رجوا فلاحهم، فخاب رجاؤهم بما تفشى من فضيحتهم عند الناس، ويحتمل أن يكون المراد بنفي الاهتداء أنهم ليسوا أهلا له بسبب ما طرأ على فطرتهم من الفساد، وهذا أولى من حمل الألفاظ الشرعية على المفاهيم اللغوية التي نقلها عنها الشارع.
هذا ويرى بعضهم أن ما كان عليه المنافقون في الظاهر من نطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والتحلي بسائر خصال الاسلام ضرب من الهدى، فإذا رجحوا عليه ما في قرارة نفوسهم من عقيدة الكفر، فقد اشتروا الضلالة بالهدى، وهو رأي مردود إذ لا وزن للأعمال الظاهرة مع خلو الباطن من أصلها، وهو الايمان بها، والاخلاص فيها، فالنطق بالشهادتين إن لم يكن صادرا عن عقيدة راسخة في النفس، لا زنة له عند الله، ومثل ذلك جميع الأعمال كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وانتقد بعض المفسرين تفسير الهدى هنا بالفطرة، لأن المنافقين كانوا مشتركين مع غيرهم في أصل هذه الفطرة، ثم اشتركوا مع المشركين الصرحاء في الانسلاخ منها، وإيثار الضلال عليها، ولقائل أن يقول بأن ذلك لا يمنع من وصف المنافقين بما وُصفوا به؛ لأن القصر هنا ادعائي ليس إلا.
والأصل في الربح أن يُسند إلى التاجر، ولكنه أُسند هنا إلى التجارة لأجل الملابسة، وهذا من باب ما يسمى عند أهل المعاني بالمجاز العقلي، وهو ضرب من ضروب البلاغة، وذكر الربح والتجارة بعد ذكر الاشتراء ترشيح للاستعارة بما يلائم المستعار منه، وهو أسلوب من أساليب البلاغة الشائعة عند البلغاء.
وهذه الآية مرتبطة بسابقاتها، فهي في المنافقين كما هو بدهي ولا معنى لقول من يقول إنها في أهل الكتاب أو المشركين، أو إنها شاملة للمنافقين وأهل الكتاب، لأنه يفضي إلى خروجها عن نسق ما تقدم وما يأتي، ولا دليل عليه.