التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
-البقرة

جواهر التفسير

هذه الآية مسبوقة بتسع آيات هاتكة أستار أهل النفاق، كاشفة خباياهم، سواء كانوا من اليهود أو من العرب الوثنيين، وجاءت بعدها هذه الآية لترسم صورة محسوسة للنفاق وأحوال المنافقين بما فيها من ضرب المثل، وقد تُلِّي هذا المثل بمثل آخر في آية ثالثة لهذه الآية.
الأمثال ترسخ المعاني وتقرِّب الحقائق:
وضرب الأمثال أسلوب معروف عند العرب وعند غيرهم، ولكتاب الله سبحانه الحظ الأوفر منه، كيف لا وهو أعلى قدحا وأسمى غاية من أي كلام، فلذلك كانت أمثال القرآن أعرق الأمثال في البلاغة، وأدقها في التصوير، وأدلها على المقاصد، وقد قال تعالى
{ { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت: 43]، وقال: { { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]، ومن فوائد الأمثال ترسيخ المعاني في الأذهان، وتقريب الحقائق حتى تكون كالصور البارزة للعيان، ومع ذلك ففيها إيجاز للقول بعد الاطناب، وإجمال بعد التفصيل، فإن المعاني إذا تقدمت في عبارات متفرقة ربما تتشتت في الذهن، فإذا جُمعت في الأمثال كان ذلك أدعى لأن تعيها الأذهان وترتسم في الأدمغة، على أن الوهم قد يكابر العقل في المعقولات، ولكنه أضعف من المكابرة في المحسوسات، فإذا ما أُبرزت الحقائق المعنوية في معرض الصور المحسوسة كان ذلك أدعى لأن تتضاءل الأوهام، وتتبدد الشُّبَه، فتستسيغ العقول تلك الحقائق المجلوة بدون تردد، ولذلك كثر ضرب الأمثال في معرض التفخيم والتحقير، والتكثير والتقليل، والتهويل والتهوين، والترغيب والترهيب.
وأصل المثل - بالتحريك - والمِثْل - بكسر فسكون - والمَثِيل كالشَّبَه والشِّبْه والشَّبِيه، دال على تشابه أمرين في وصف، ومأخذه من مَثَل الشيء مثولا إذا انتصب، وإنما شاع المثل فيما إذا كانت المماثلة بين محسوس ومعقول، أو بين محسوسين مركبين، ولفظة المثل موحية بالاستدلال على الممثل له بالممثل به، فإن نفس التمثيل دليل إمكان وجود المثل.
وما ذكرته من أن المثل إنما هو في المنافقين هو الذي يقتضيه السياق، وذهب قطب الأئمة -رحمه الله - إلى جواز أن يشمل معهم اليهود والمشركين، لأنهم طمسوا نور الفطرة بكفرهم، وذهب فريق من السلف إلى أن المثل في اليهود كما سيأتي، والأول هو الذي عليه الجمهور، وبه قال ترجمانا القرآن؛ ابن مسعود وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم -.
وذهب الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إلى أن هذا المثل والذي بعده ليس مضربهما واحدا، وإنما كل واحد منهما لفريق من اليهود والمنافقين، وحاصل ما يقوله أن هذا المثل في قوم أكرمهم الله تعالى بهداية الدين، ودرج عليها سلفهم، فجنوا ثمارها وصلحت أحوالهم، إذ استقاموا على طريقتها عندما كانوا يبصرون بنور من الوحي ويقفون عند حدود الشريعة، ثم جاء من بعدهم هؤلاء الأخلاف فانحرفوا عن تلك الطريقة إذ لم يبصروا الحقيقة، بل ظنوا أن ما كان عليه السلف من نعمة وسعادة أمر اختصوا به أو خير سيق إليهم لسبب امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ما استحقوا به هذه المزية أمرا شكليا لم يصل إلى سرائرهم فعدلوا عن الدين إلى تقاليد وعادات تمكنت في نفوسهم فلم تدع مجالا لغيرها، ولذلك لم يفكروا في الاعتصام بما اعتصم به سلفهم، ولم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اهتدى به من قبلهم لدعواهم أن فهمه خُصت به طائفة من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم إذا وُجدوا وبكتبهم اذا فُقدوا، فمثل هذا الفريق المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الانتفاع بها بالمرة، وانطماس الصوى بينها وبينه مثل من استوقد نارا .. الخ، ووجه التمثيل أن من يدعي الايمان بكتاب نزل من عند الله طالب بإيمانه أن توقد له نار يهتدي بها في سره ويستضيء بها في ظلمات اللبس، ويبصر بضوئها ما يصادفه من مخاطر الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بنور الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، عادت إليه ظلمة التقليد، وعصب عينيه شيطان الباطل لئلا يبصر ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة فانطفأ فيه نور الفطرة، وتعطلت مداركه فلم يبصر ما بين يديه، فإذا هو بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.
وأما المثل الثاني وهو قوله { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ }، فيراد به فريق آخر بقيت له نظرات إلى الهدى بين آونة وأخرى، وأنوار التنزيل تسطع بين يديه فيرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، وفطرته بقي لها شيء من هدايتها غير أن التقاليد والبدع تطغى ظلماتها على ذلك كله، فلذلك يتخبط في المهالك مع سماعه قوارع النذر الالهية، وإبصاره بوارق البراهين الفرقانية، فإذا أضاء له ذلك البرق سار، وإذا اختفى بشبه الضلالات والغرور قام وتحير، لا يدري أين يذهب، وكثيرا ما يُعرض عن سماع النذر وأصوات الحق، كما يضع أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع إرشاد المرشد، ولا نصح الناصح، يخاف إن أصغى إلى تلك القوارع أن تقتله، ويحذر من صواعق النذر أن تهلكه.
هذا حاصل رأيه في المثلين، ويظهر منه أن المثل الأول في قوم استحكم في نفوسهم الهوى، واستولى على أفكارهم الباطل، وأحاطت بهم الضلالة من كل جانب، فلا يسمعون للحق نداء، ولا يبصرون له ضياء، وليس في نفوسهم عزم على البحث عنه، أو الرجوع إليه إن انكشف لهم، لأنهم مُخلِدون إلى ما هم فيه من الضلال، ومستمسكون بما ورثوه من آبائهم المحرفين، وقادتهم الدجالين، وهم مغترون بذلك، فلا يرون أن شيئا أفضل مما هم عليه، وأما المثل الثاني فهو مضروب فيمن تردد بين الهدى والضلال، والرشد والغي، لا يستقرون على حال، وإنما ضلالهم أبلغ من هداهم، وعماهم أعمق من بصيرتهم، قد يبصرون للحق نورا فتنكشف لهم حقيقته إلا أنهم بسبب طغيان الهوى على نفوسهم لا يمكنهم الانفلات من قيود الباطل، والانطلاق من أغلال التقاليد.
هذا، والذي أراه أن ما ذكره من صفات أصحاب المثل الأول لا ينطبق على المنافقين، وإنما ينطبق على اليهود المتمسكين بيهوديتهم، المستعلين على الناس بغرورهم، فإنهم يرون أنهم أولى الناس بالهدى، وأن النبوة لا تخرج عنهم إلى غيرهم، بل أفرطوا في الغرور حتى ادعوا - زورا وبهتانا - أنهم أبناء الله وأحباؤه، ومن المعلوم أن أحبارهم حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذُكِّروا به، وجعلوا من تلك الضلالات التي لفقوها، والافك الذي اصطنعوه دينا لهم ولأتباعهم، فلذلك لا يصغون لصوت ناصح، ولا يقبلون عذل عاذل، وقد سُلبوا هداية أنبيائهم، وانطفأت أنوار ما كان بأيديهم من الكتاب.
وإذا ألقينا نظرة إلى سياق هذه الآيات لم نجدها إلا في المنافقين سواء كانوا من منافقي اليهود أو منافقي العرب، والمثلان مضروبان فيهم لا في غيرهم، ولا مانع من الانتقال من مثل إلى آخر مع كون الممثل له واحدا، فإن ذلك معروف عند العرب، وستأتي له شواهد إن شاء الله عندما نصل إلى المثل الثاني.
ووجه ضرب هذا المثل في المنافقين أنهم استضاءوا بشيء من نور الاسلام حال اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وسماعهم ما يدور في مجالسهم من مواعظ وأمثال، ومشاركتهم في الأعمال الدينية الظاهرة، ولكن سرعان ما تنطفئ هذه الشعلة عندما يفارقونهم، فتتراكم في نفوسهم ظلمات العقيدة التي يبطنونها، وهذا هو المروي عن مجاهد؛ وقال عطاء الخراساني: هذا مثل المنافق يبصر أحيانا، ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب، وعزا ذلك ابن أبي حاتم إلى عكرمة، والحسن، والسُّدي، والربيع بن أنس، ورُوي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم.
وما ذكروه من إبصارهم أحيانا يُحتمل أن يكون عند لقائهم بالمؤمنين وسماعهم منهم، وأن يكون بمجرد تفكرهم في الأمور، فإن الفطرة داعية إلى الحق لولا ما يضعفها من الهوى والضلال.
وروى ابن جرير عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية في قوم دخلوا في الاسلام عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طَفِئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر؛ وروي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم مثله.
وأنكر ابن جرير أن يكون هؤلاء أسلموا في وقت من الأوقات لقوله تعالى فيهم { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ }، وتعقبه ابن كثير بأن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهو لا ينافي أن يكونوا آمنوا من قبل ثم سُلبوا الايمان، وطُبع على قلوبهم، واستدل بقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }.
ولابن جرير أن يتخلص بما ذكرته من قبل، وهو أن المنافقين أصناف، منهم من آمن ثم ارتد، ومنهم من لم تخالط بشاشة الإِيمان قلبه ولكنه ادعاه بلسانه.
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم رأيا آخر في الآية لابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالاسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سُلب صاحب النار ضوءه، وروي مثله عن قتادة، وهو الذي مال إليه ابن جرير مستدلا بقوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد: 13]، فإن فيها ما يدل على أن المنافقين يطلبون المؤمنين يوم القيامة أن يختلطوا بهم ليستمدوا منهم المنافع كما كانوا يستمدون في دار الدنيا، ولكن لا يجديهم النفاق يومئذ شيئا، فيُفصلون عن المؤمنين إلى الذين كانوا معهم في سرائرهم.
وذهب سعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان ابن رئاب إلى أن الآية في أهل الكتاب الذين كانوا على علم بمبعث النبي الخاتم، فلما بُعث وانكشفت لهم آياته، وبهرتهم معجزاته كفروا به، فكان ما عندهم من علم الكتاب كالنار المستوقدة للإِضاءة، وما كان منهم من كفر بمثابة انطفاء تلك النار، لعدم استفادتهم من الضوء، وهذا لا يتفق مع السياق كما سبق.
و"الذي" يُستعمل للمفرد غالبا لوجود صيغة جمع له وهي "الذين"، وقد يُستعمل للجمع تشبيها بمن وما، وعليه قول الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وحُمل عليه قوله تعالى: { { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة: 69]، وهذا أولى أن يُحمل عليه هنا من دعوى بعضهم أنه وصف لموصوف محذوف دال على الجمع تقديره كالفوج الذي استوقد، أو كالجمع الذي استوقد لأن الأصل عدم الحذف، وفي مثل هذا الحال يجوز في الضمائر أن تُفرد مراعاة للفظ، وأن تُجمع مراعاة للمعنى، وكذا الصفات والأحوال، ويجوز أن يُنظر إلى اللفظ أولا ثم إلى المعنى ثانيا كما في قوله تعالى: { { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن: 23]، وهذا من باب التفنن المحمود في البلاغة، وعليه يُحمل اختلاف الضمائر هنا، فقد روعي لفظ { الذي } في { استوقد } ومعناه في { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }.
واستوقد بمعنى أوقد لترادف استفعل وأفعل أحيانا، ومنه استجاب وأجاب، واستنار وأنار، ويجوز أن يكون بمعنى طلب الوقود كاستعان بمعنى طلب الإِعانة، واستغاث بمعنى طلب الاغاثة، نظرا إلى أنه بمباشرة الأسباب والأخذ في الوسائل طالب لما تفضي إليه هذه الوسائل والأسباب، أو أن المراد طلب من غيره الايقاد والأول أظهر.
والإِضاءة فرط الإِنارة، ويُستعمل فعل أضاء لازما ومتعديا، لتجرده تارة عن الهمزة كقول العباس - رضي الله عنه - في النبي صلى الله عليه وسلم:

وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ض وضاءت بنورك الأفق

واقترانه بها تارة مع كونه بمعنى المجرد، وأخرى للتعدية، ويُحتمل أن يكون هنا لازما ومتعديا، فإن حُمل على اللزوم (فما) هي الفاعل، وجاز تأنيث الفعل لاعتبار التعدد في معنى { ما حوله }، لأن المراد به الأماكن المحيطة بالمستوقد، وهي متعددة، فإن الخلف غير الأمام، واليمين غير الشمال، وعضد الزمخشري هذا التأويل بقراءة ابن أبي عبله "ضاءت" بالتجريد، وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار، ويُجعل الحول ظرفا و(ما) إما مزيدة أو موصولة، بمعنى الأمكنة، وإن حُمل على التعدي (فما) موصول مفعول به، و(حوله) صلته ويُراد تصييرها الأماكن التي حول المستوقد مُنحسرا عنها الظلام.
والحول يراد به المكان القريب لما أضيف إليه، ويرى الزمخشري أن تأليفه للدوران والإِطافة، ومنه تسمية العام حولا لأنه يدور، ولم ير لزوم ذلك ابن عاشور، والأظهر أن النظر إلى الدوران فيه حكم غالب وليس لازما.
والمراد بذهاب الله بنورهم إطفاء النار التي هي مصدر النور، وإنما ذُكر النور دون الضياء إما لأن ذهابه يستلزم ذهاب الضياء بناء على ما تقدم من أن الإِضاءة فرط الإِنارة، وهو يعني أن النور أعم من الضوء، ولا بقاء للأخص مع ذهاب الأعم، وإما لأن المراد تلاشي فائدة تلك المظاهر الاسلامية التي كان المنافقون يخدعون بها المؤمنين، وقد شاع التعبير بالنور عن الاسلام في القرآن، فصار اختيار لفظه أنسب.
وإنما عُبِّر بالذهاب بالنور دون إذهاب النور لما في ذلك من المبالغة، فإن أصل استعماله أن يكون مع استصحاب الفاعل للمفعول به، نحو قوله تعالى:
{ { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف: 15]، وهو آكد فيما يراد ذهابه من مجرد الاذهاب لوقوعه تحت رقابة الفاعل نفسه، بخلاف ما لو قيل أذهبه، إذ لا يلزم منه أن يكون ذهاب المفعول تحت إشراف الفاعل وحراسته، ثم استعمل هذا اللفظ حال قصد المبالغة، ولو لم تكن مصاحبة، ولم تتصور الحراسة، نحو قول القائل "ذهب بمالِهِ الديْن".
وجملة { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } جواب للشرط الذي تقتضيه لما على الصحيح، وهو الذي عليه الجمهور، ولا داعي إلى تكلف الزمخشري تقدير جواب قبله نحو (فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام مُتحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار)، وهو مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه، وبناء على قوله هذا يكون قوله { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } كلاما مستأنفا استئنافا بيانيا جوابا لما ينشأ عن هذا الوصف من السؤال عن حال هذا المستوقد بعد خمود النار، وعلى هذا فهو داخل في التمثيل، أو يكون بدلا من جملة التمثيل بأسرها على البيان، فيكون مرجع الضمير فيه إلى المنافقين لعدم اتحاد البدل والمبدل منه، ويقرب من هذا الوجه الأخير ما ارتآه الإِمام ابن عاشور، وهو أن يكون الضمير في التمثيل يعود تارة إلى المشبه وهو المنافقون، لأن الغرض الأصلي الاخبار عن انطفاء نور الايمان منهم، وشبهه بتجريد الاستعارة المفردة، وعد من محسناته جمع التمثيل بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم بالخيار في مراعاة ما شاء منهما، لأن الوصف لهما، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه، ومن مراعاة الأمرين إفراد الضمير تارة وجمعه أخرى، ولأجل ذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به تنبيها على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة، للدلالة على أن الله أذهب نور الايمان من قلوب المنافقين.
وعد ابن عاشور هذا من الإِيجاز البديع لإِفادته ذهاب نور الايمان من قلوب المنافقين كما تنطفئ النار بعد اتقادها، وذكر أنه أسلوب لم تكن العرب تعهده، فهو من أساليب الإِعجاز، وجعل قريبا منه قوله تعالى:
{ { بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف: 22 - 24]. حيث جمع ضمير الخطاب في { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل بمعرض جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الموجه إلى قومه بقوله { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في التشبيه الآتي من قوله { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } فإنه يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه.
والذي يقوله ابن عاشور لا يبعد مما قاله الزمخشري على الوجه الأخير، وإنما الفارق بينهما أن جملة "ذهب الله بنورهم .. الخ" خارجة عن التمثيل عند الزمخشري، على هذا الوجه، وداخلة فيه عند ابن عاشور، ولكن التُفت فيها إلى المشبه كما يفرق بينهما أنها جواب "لما" عند ابن عاشور، وجوابها عند الزمخشري مقدر كما ذكرت من قبل، وما ذكره الزمخشري من الجواب المقدر ينكشف للفهم على ما ذهب إليه ابن عاشور ولو بدون تقدير.
وإذا رجعت تتأمل ما أوردته من آراء السلف في الآية الكريمة علمت احتمال أن يكون ذهاب هذا النور ممن ضُرب فيهم المثل - وهم المنافقون - في الدنيا والآخرة معا، فأما ذهابه في الدنيا فما يعتريهم من الشكوك فيما أدركوا حقه من عقيدة التوحيد، وعلموا صدقه من رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وما يتبع هذه الشكوك من رسوخ الكفر في نفوسهم واستحكام الضلال، وأما في الآخرة فإن المنافق بمجرد موته أو إشرافه عليه تنكشف له حقيقة الأمر ولا يعود ينفعه ما كان يتشبث به في الدنيا عند الناس من تديُّن ظاهري، وهو معنى ما سبقت روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وبما أن الامام محمد عبده يرى أن هذا المثل في اليهود ومن كان على شاكلتهم كما سبق، ذهب في تطبيقه عليهم إلى أنهم استوقدوا نار الهداية الالهية بفطرتهم السليمة عندما صدقوا رسله، فلما أشرقت لهم، واستنارت لهم الطريق، انحرفت بهم التقاليد والعادات وصرفتهم عنها المنافع التي يتوهمونها والفوائد العاجلة التي يقصدونها، فحرموا الانتفاع بذلك النور واستبدلوا به ظلمات الليل البهيم.
ومهما قيل في معنى المثل فليس فيه ما يدل على أنهم أُجبروا على الزيغ عن الهدى إلى الضلال، وعن النور إلى الظلمات، وإنما كان ذلك باختيار أنفسهم، وعندما يركن أحد إلى الضلال، وينحرف عن طريق الاستقامة، يتوالى عليه خذلان الله سبحانه فيسلبه نور الفطرة باستحبابه العمى على الهدى.
وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - النور بالإِيمان، رواه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد نحوه عن مجاهد وقتادة، ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن، والسدي، والربيع بن أنس، وروى مثله عن الضحاك.
ومادة الترك تستعمل في الطرح والاهمال، ومفارقة الشيء لغيره، وكثيرا ما تذكر معها الحال التي باين التارك المتروك عليها، وفي مثل هذا الاستعمال يضمن الترك معنى الجعل والتصيير فينصب مفعولين، وغالبا ما يدل ذلك على الزهد في الشيء أو تحقيره، ويراعى إذا اعتبر المنصوب الثاني مفعولا به كونه هو محل الفائدة المقصودة بالإِخبار.
والظلمات جمع ظلمة، وهي نقيض النور، وكثيرا ما يفرد النور وتجمع الظلمة في كلام العرب، ولم يأتيا في القرآن إلا كذلك، وفسر ابن عباس الظلمات بالكفر، وروي عنه تفسيرها بالضلال وهو غير بعيد مما قبله، وروي عنه أيضا تفسيرها بالعذاب، وهو مبني على ما سبق نقله من أن انحسار هذا النور إنما يكون بعد مفارقة الحياة، وروي مثل ذلك عن الحسن البصري، وعن السدي أنه فسر الظلمات بالنفاق.
ولا فارق بين هذه الأقوال، فإن الضلال يصدق على الكفر والنفاق، والنفاق في حقيقته كفر، وإنما يزيد عليه بما يكون عليه المنافق من الخداع لله ورسوله وللمؤمنين، فالخلاف ما بين هذه الآراء لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف المعنوي بينها وبين قول من يرى أنها العذاب، وإن كان كل من الكفر والنفاق والضلال مفضيا إلى العذاب، ذلك لأن من فسر الظلمات بها اعتبر أن ذهاب النور حاصل في الدنيا قبل الآخرة، ومن فسرها بالعذاب ذهب إلى أن النور ما يتمتع به المنافق في الدنيا بسبب كلمة التوحيد، وأن الظلمات ذهاب ذلك بعد مفارقته لها كما تقدم.
أحوال المنافقين كلها ظلمات:
ذهب ابن عاشور أن جمع الظلمات في هذه الآية يُشار به إلى أحوال المنافقين التي يصلح تشبيه كل منها بالظلمة، وهي الكفر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبعها من آثار النفاق المتنوعة، وذكر أن طي وجه الشبه في هذا التشبيه لأجل الاعتماد على فِطنة السامع، فإنه يمكنه أن يستظهره من مجموع ما تقدم من شرح أحوالهم؛ ابتداء من قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا.. } الخ، وما يتضمنه المثلان من الاشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة التي شُبّهوا بها، فإن إظهارهم الإِيمان بقولهم { آمنا بالله }، وقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }، وقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا }، أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما يتظاهرون بالاسلام، ويأتون بواجباته؛ كالصلاة والصدقة والصيام، ويصدر منهم طيب القول، وقويم السلوك، وتُشرق عليهم الأنوار النبوية، فيكاد نور الايمان يخترق إلى قلوبهم، ولكن سرعان ما تنقلب تلك الحالة إلى نقيضها عندما ينفضُّون عن تلك المجالس، ويجتمعون ببطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم، فتعاودهم الأحوال الذميمة؛ من مزاولة الكفر، وخداع المؤمنين، والحقد عليهم والاستهزاء بهم، ووصفهم بالسّفه، فهذا التظاهر وما تبعه من الإِنقلاب مُثِّلا بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
وأتبع ذلك ابن عاشور أن من بدائع هذا التمثيل كونه - مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم - قابلا لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها، فيشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، ويشبه رجوعهم إلى كفرهم بالظلمات، ويُشبَّهون بقوم انقطع إبصارهم.
ولم يُذكر مفعول { لا يبصرون } لقصد عموم المبصرات، لأن الفعل المتعدي قد يُنزل في مثل هذه الحالة منزلة اللازم لافادة تأكيد العموم، فكأنه قيل ليس من شأنهم الابصار رأسا، وجملة "وتركهم في ظلمات .. الخ" جاءت تقريرا لمضمون ما تقدمها؛ لأن من شأن مَن ذهب نوره أن يكون في ظلمة لا يبصر، والجملة التقريرية وإن كان مدلولها تتضمنه الجملة المقررة قبلها؛ فإن فيها من الفائدة إيقاظ الذهن الخامل لما قد يعزب عنه من هذا المدلول، وذلك أن الذهن قد لا يتصور النتيجة المترتبة على ذهاب الله بنورهم إلا عندما يوقظ، بأنها كانت تَخَبُّطهم في ظلماتهم بعدم إبصارهم.
ولا يخلو إما أن يكون ترك هنا متعديا إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين؛ إن ضُمِّن معنى صيَّر وجعل كما تقدم، وعلى الأول فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول، وجملة { لا يبصرون } حال مرادفة، ويجوز أن يكون { في ظلمات } متعلقا بترك، و{ لا يبصرون } حال، وعلى الثاني فالمفعول الثاني { في ظلمات } و{ لا يبصرون } جملة حالية من المفعول أيضا، ولا يجوز أن تكون جملة { لا يبصرون } هي المفعول الثاني، و{ في ظلمات } في موضع الحال، لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والأخبار لا تُساق للتأكيد، ومن المعلوم أن من تُرك في الظلمات لا يبصر، فإذا صرح بعدم إبصاره كان في هذا التصريح تأكيد لما سبقه.