التفاسير

< >
عرض

وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ
٣٥
-البقرة

جواهر التفسير

هذه مرحلة من المراحل التي مر بها أبو البشر صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه قبل أن يتم استخلافه في الأرض وينوء بأثقاله، ويتعود على تكاليفه، وقد أراد الله بإمراره في هذه المرحلة أن يعده بتربيته على الأمر والنهي وتعويده على البلاء والصبر للتكيف حسب مقتضيات هذا الاستخلاف، فمن المعلوم أن توطين النفس على التكاليف مما يقوي صبرها على تحملها، ومن لطف الله به أنه لم يلقها على ظهره دفعة واحدة، بل درجه فيها ليبتليه، ويعرفه بضعفه، وليُقِرّ في نفسه أنه لا ملجأ له من مكائد الشيطان ووساوسه إلا إلى الله تعالى وحده، حتى يكون أسوة لذريته في ذلك.
ويتمثل ذلك كله في إسكان الله إياه الجنة، وإذاقته نعيمها، وإباحة متعها له، ما عدا شيئا واحدا وهو شجرة حجر الله عليه الأكل منها سواء كانت هذه الشجرة فردا من الأشجار معينا أو جنسا من أجناسها تدخل ضمنه أفراد شتى، وقد تبدو هذه المحنة هينة عند من لا يعلم طبيعة الإِنسان ولا يحيط بمكائد الشيطان ولكنها في حقيقتها محنة صعبة، فإن النفس البشرية خلقت ميالة الى ما حجر عليها، ومتطلعة إلى ما خفي عنها، وللشيطان وسائل إليها وقد عقد العزم على إضلالها فكان في حجر الأكل على آدم وزوجه من هذه الشجرة اختبار لإِرادته وتعريف له بعجزه، ومن ناحية أخرى فإن السلب بعد الوهب من أتعب ما يعانيه الإِنسان، فلا غرو إذ اعيل صبر آدم على محنة الحرمان من هذا النعيم الذي كان يتفيأ ظلاله ويتقلب على لطفه الوثير، وضاق ذرعه من وحشة الإِبعاد بعد أن التقريب، ولم يكن قذفه بهذه المصائب إلا لتمام أعداده للمهمة التي نيطت به، فإنه خُلق لحياة الأرض التي يجد فيها العطاء والحرمان، والأنس الوحشة، والخير والشر، حتى يجتازها بسلام فينقلب إلى ما أعد له من النعيم الدائم جزاء عمله وصبره، وجهاده وكفاحه، فكان في كل ما مر به تربية نفسية له ولذريته الذين سينوؤن بما ناء به من التكاليف، وسيتحملون ما تحمله من مشاق حتى يعبروا طريق هذه الحياة، وينقلب كل منهم إلى حياة أخرى يجني فيها ما غرس، ويحصد ما زرع خيرا كان أو شرا.
وقد يقول قائل: إن آدم عليه السلام فشل في هذا الامتحان لأن الشيطان بلغ منه قصده، فقد تمكن من إنسائه عهد الله، وقدر على التأثير عليه حتى ارتكب ما نُهي عنه.
والجواب أن هذا لا يعد فشلا مع تدارك الأمر بالتوبة والانقلاب من الغفلة والغي والمعصية إلى أضدادها من الذكر والرشد والطاعة، وقد أراد الله لآدم أن يكون إمام التائبين من ذريته فإنهم جميعا خطاؤون وخير الخطَّائين التوابون، ولهم في أبيهم آدم - الذي ثاب إليه رشده فتعجل التوبة إلى الله - أسوة حسنة، أما الذي يُخلد إلى هواه ويصر على غيه ويركب رأسه في عناده لله فله في الشيطان - الذي أصر واستكبر استكبارا - أسوة سيئة.
وقد نادى الله آدم باسمه العلم إيناسا وتكريما له وإشعارا بمنزلته في ذلك العالم العلوي، والكلام معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة كما تقدم. وقيل هو من باب عطف الجملة على الجملة، والمعطوف عليه جملة
{ { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ } [البقرة: 34]، والتزم أصحاب هذا القول أن قبل الجملة المعطوفة "إذ" محذوفة لدلالة السياق عليها وهو ضعيف جدا لأن حذف ما ينبغي أن يثبت من القرآن لا يتفق مع ما يتميز به من علو البلاغة وسمو الفصاحة، وذهب بعضهم القولين إلى أن المعطوف عليه "قلنا" السابقة، واعترض بعدم اتحاد زمن القولين مع استلزام هذا الرأي أن يكون القول الثاني مظروفا لـ "إذْ" كالذي قبله؛ وأجيب بأن "إذ" ليس مدلولها زمنا قصيرا بحسب ما يسع القول الأول فحسب بل هو زمن ممتد فيدخل في مظروفها القولان جميعا، وبناء على هذا الرأي ففي الكلام تذكير للبشر بإحدى النعم الكبرى التي من الله بها عليهم بإضفائها على سلفهم وهو آدم عليه السلام الذي بوأه دار كرامته وأباح له صنوف النعم المتوفرة فيها.
وتصدير الكلام بالنداء دال على أهمية ما سيليه مع دلالته على ما سبق ذكره.
وقوله: { ٱسْكُنْ } من السُّكنى بمعنى الاستقرار في المسكن لا من السكون الذي هو ضد الحركة لمنافاة ذلك قوله تعالى لهما: { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } فإن الأكل من حيث شاءا من الجنة يقتضي حركتهما في أرجائها، وذهب القرطبي إلى أن الأمر بالسُّكنى يوحي بخروجهما منها، إذ ليس في السُّكنى تمليك الساكن للمسكن، فلو قال قائل لأحد اسكن هذه الدار لم يدل قوله هذا على تمليكه إياها، واستظهر القرطبي من ذلك تأييد الجمهور في قولهم بعدم انتقال المسكن من ملك صاحبه إلى ملك الساكن بالسكنى ورجوعه إلى صاحبه بانتهاء مدتها؛ وفي هذا الإِستدلال نظر، ومسائل السُّكنى وما شابهها، كالعُمرى، والرُّقبى، والإِفقار، مبسوطة في كتب الفقه.
و"أنت" ضمير فصل جيء به لتهيئة عطف الاسم البارز على الضمير المستتر في "اسكن" لعدم جواز العطف عليه دونه، وفيه نوع من التأكيد له.
والزوج مفرد الأزواج، ويطلق على الذكر والأنثى، ولا يتميز إذا أريد به الأنثى بالتاء على لغة القرآن كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى:
{ { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب: 37]، وقوله: { { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء: 1]، وقوله: { { إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } [طه: 117]، وعليه الفصيح من كلام العرب، وإنما ورد خلافه شاذا كما في قول الفرزدق:

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتى كساع إلى أسد الشرى يستميلها

وعد بعضهم ذلك لحنا، وفرق الفقهاء بين الذكر والأنثى بإدخال التاء على ما يُراد به الأنثى كما هو شائع في كتب الفقه خصوصا حال التعرض لأحكام النكاح والمواريث، وقد نحوا هذا المنحى لما في هذا التفريق اللفظي من القرينة على التفريق المعنوي، وهو مسلك حسن - كما قيل - لدفع اللبس.
جنة آدم
والجنة مأخوذة من الجن بمعنى الستر، وتطلق على الأرض ذات الشجر الملتف لاجتنانها - أي استتارها - به، ومنهم من يرى أنها دالة على الشجر الملتف نفسه لأنه يجن ما كان داخله، واستعملت الجنة في عرف الوحي الشريف المنزل على النبيين في دار السعادة التي أعدت للمتقين، واختلف في جنة آدم هذه، هل هي دار السعادة نفسها أو أنها بقعة يصدق عليها هذا الوصف لكثرة ما فيها من الأشجار؟ فجمهور أصحابنا يرونها دار السعادة، وعليه المتقدمون من الأشعرية، وحكى القرطبي عن أبي الحسن بن بطال قوله: "وقد حكى بعض المشائخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أُهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم"؛ ونحوه كلام ابن تيمية حيث قال: "وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال أنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك، فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول"، وذهب بعض أصحابنا كأبي المؤثر وأبي سهل الفارسي، وابن أبي نبهان إلى أن هذه الجنة لم تكن إلا حديقة في الأرض مليئة بالأشجار تجري من تحتها الأنهار أنشأها الله لآدم قبل أن يحمله عبء تكاليف الخلافة، وهذا هو قول المعتزلة، وعليه أبو مسلم الأصفهاني وأبو منصور الماتريدي في تفسيره المسمى "بالتأويلات"، وعُزى إلى أبي حنيفة، واختاره الإِمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا، وعزاه الإِمام إلى المحققين من أهل السنة، ثم قال على إثر ذلك: "وبهذا التفسير تنحل إشكالات كثيرة:
1- أن الله خلق آدم في الأرض ليكون هو ونسله خليفة فيها، فالخلافة مقصودة منهم بالذات، فلا يصح أن تكون عقوبة عارضة.
2- أنه لم يذكر أنه بعد خلقه في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذكر لأنه أمر عظيم.
3- أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون فيكف دخلها الشيطان الكافر الملعون؟
4- أنها ليست محلا للتكليف.
5- أنه لا يُمنع من فيها التمتع بما يريد.
6- أنه لا يقع فيها العصيان.
وبالجملة إن الأوصاف التي وُصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على ما كان في جنة آدم، ومنه كون عطائها غير مجذوذ، ولا مقطوع، وغير ذلك".
وأضاف السيد محمد رشيد رضا إلى ما قاله أستاذه أن القول بأن آدم أُسكن جنة الآخرة يقتضي أن تكون الآخرة هي الدار الأولى والدنيا، فتكون تسمية الدارين غير صحيحة، وينافي أيضا كون الجنة دار ثواب يدخلها المتقون جزاء بما كانوا يعملون كما ورد في الآيات الكثيرة".
وذهب أبو علي الجبَّاني - وهو من أئمة المعتزلة - مذهبا ثالثا وهو أن جنة آدم ليست جنة الخلق ولكنها كانت في السماء ولم تكن في الأرض، وهو قول غريب لا سلف له فيه ولم يتابعه عليه أحد فيما أعلم إلا ما سمعته من أحد علماء العصر وهو أن جنة آدم كانت في أحد الكواكب العلوية وقد أُنزل منها إلى الأرض.
والقائلون بأنها كانت في الأرض اختلفوا في تعيينها، منهم من قال كانت بستانا بين فارس وكرمان، وقيل: بفلسطين، وقيل: بأرض عدن، وقيل: غير معينة وبه قال أبو منصور الماتريدي وعزاه إلى السلف كما ذكره عنه الإِمام محمد عبده.
واستدل أصحاب القول الأول بأن الله سماها الجنة - بالتعريف - وذلك ما لا يكون إلا لجنته التي أعدها للمتقين؛ وبأن الله أمر آدم وحواء بالهبوط منها وهو عبارة عن الإِنتقال من العلو إلى السفل، وبما رُوى أن موسى عاتب آدم عليهما السلام بقوله: "أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة".
وأُجيب عن الأول بأن تعريف الجنة ليس دليلا قاطعا على أنها جنة الخلد، فقد قال الله تعالى:
{ { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } [القلم: 17]، وهي جنة من جنان الأرض، وبأن الهبوط لا يلزم أن يكون إنتقالا من العلو إلى السفل، فقد قال الله: { { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } [البقرة: 61]، وبأن ما رُوي من قصة موسى مع آدم عليهما السلام حديث آحادي لا تنهض به حجة في أمور الاعتقاد فضلا عن كون هذا الكلام ينافيه أن الله سبحانه خلق آدم من أول الأمر ليكون خليفة في الأرض، لا ليكون في الجنة وتنشأ ذريته فيها.
وقد استدل أصحاب القول الثاني بما ذكره الإِمام وبأن جنة الخلد وُصفت في القرآن بقوله تعالى:
{ { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [الطور: 23]، وقوله: { { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } [النبأ: 35]، وقوله: { { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [الواقعة: 25- 26] وأي لغوٍ أشد عن الدعوة إلى معصية الله ، وقد كان ذلك من ابليس في جنة آدم، وبأن داخلها لا يخرج منها كما دل عليه قوله تعالى: { { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر: 48]، فكيف يُخرج منها آدم وحواء؟ وبأنها دار قدس فلا تقع فيها خطيئة، فكيف يمكن لإِبليس أن يوقع آدم وحواء في معصية الله فيها؟
وقد أجيب بأن ما وُصفت به الجنة من كونها لا لغو فيها ولا تأثيم إلى غيره من صفاتها إنما هو بعد دخول المؤمنين فيها جزاء، وبأن أمر الله لآدم وزوجه بأن يسكناها دليل على أنهما قد رُفعا من الأرض إليها، وبأن كونها دار القدس لا ينافي أن تكون معصية وقعت فيها، فإن الله أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي أرض الشام التي قُدست في جميع الشرائع، وقد شوهد فيها وقوع جميع المعاصي على اختلافها ولم يكن تقديسها مانعاً منها.
أما وسوسة الشيطان لهما فقد رُويت فيها أقوال عن السلف سوف نذكرها إن شاء الله في تفسير الآية الآتية، ولأجل تعارض أدلة ألقولين قال من قال بالتوقف عن تصحيح أحدهما أو ترجيحه، وعليه أبو السعود والألوسي في تفسيريهما وبه أقول، وإن قال نور الدين السالمي -رحمه الله - "والقول بأن الجنة التي كانا - أي آدم وحواء - فيها غير الجنة الموعود بها في الآخرة تحكم من قائله إذ لا دليل عليه".
وإنما اخترت هذا القول لما فيه من السلامة من مغبة الخوض فيما لا علم لنا به، والأدلة التي استند إليها كلا الفريقين يعروها الاحتمال كما تقدم، والدليل إذا عراه الإِحتمال سقط الإِستدلال به، ولعل قوله تعالى:
{ { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [طه: 118-119] يجوز أن يُستأنس به للقول بأنها جنة النعيم لأن هذه الأوصاف أنسب بها غير أن الاستئناس لا يكفي وحده أن يكون دليلا خصوصا في الاعتقاديات التي يجب الاستناد فيها إلى القطعيات.
والأمر بسكنى آدم وزوجه الجنة وُجه إليه ولم يُوجه إليهما معا لأن المرأة تابعة للرجل، وقد سكت القرآن عن وقت خلق حواء فما لنا إلا أن نسكت عنه وإن كان في ذلك مجال رحب للذين يسوغون لأنفسهم أن يقولوا ما لا يعلمون، وقد اختلفوا؛ فقال بعضهم: خُلقت في الجنة بعد أن كان آدم فيها وحيشا لعدم المؤانس، فألقى الله عليه نومه فخلقها من ضعله الأيمن ولما استفاق وجدها بجانبه فسألها عن نفسها فأجابته بأنها امرأة خُلقت له ليسكن إليها؛ وقال آخرون خُلقت قبل إسكانهما في الجنة ثم حملتهما الملائكة إليها على سرير من ذهب، وكانت ثيابهما من نور، وكلا القولين منسوبان إلى بعض الصحابة، والأسانيد التي تُلقيا منها واهية جدا، والقضايا الغيبية لا يستند فيها إلا إلى ما نزل من عند الله أو حدث به المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وصحت نسبته إليه، وما أكثر ما حشي به التفسير من أقاويل أهل الكتاب - مع عزوها إلى الصحابة رضي الله عنهم - في هذه القضايا، ويمكن أن يُقال بأن قوله تعالى: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35] أدل على القول بأنها خلقت قبل سكناه فيها.
وقد شاع استدلال المفسرين وغيرهم للقول بأن حواء خُلقت من ضلع آدم بقوله تعالى:
{ { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189] وبحديث أبي هريرة عند الشيخين "إن المرأة خُلقت من ضلع" وليس في ذلك نص على ما قالوه فإنه يحتمله ويحتمل ما قاله الإِمام محمد عبده من أن المراد بقوله تعالى: { مِنْهَا } من جنسها، كما في قوله عز وجل: { { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا } [الروم: 21] فإنها لا يماري أحد في أن الله لم يخلق امرأة كل رجل من بدنه، وإنما المراد بقوله: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم، وما قاله السيد رشيد رضا في الحديث أنه محمول على ما يُحمل عليه قوله تعالى: { { خُلِقَ ٱلإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء: 37].
وقد أباح الله لآدم وزوجه التنعيم بأكل ثمار هذه الجنة أكلا هنيئا لا يكدره شيء من التقتير بدلالة قوله { رَغَداً }، فان الرغد هو الواسع عند العرب، ولا ينافيه النهي عن الاقتراب من شجرة ما سواء كانت شجرة معينة، أو جنسا معينا من الأشجار، فإن النهي عنها مع إباحة سواها لا يدخل عليهما شيئا من الكدر.
ونجد النهي عن تلك الشجرة لم يقتصر على الأكل منها بل شمل القرب منها لأجل سد ذرائع المعصية، فإن الدنو منها مفض إرتكابها، ونحوه قوله عز وجل:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [الإِسراء: 32]، ومن ثم حُجر على الإِنسان ممارسة أي سبب يُفضي إلى معصية الله كما يدل عليه حديث النعمان بن بشير عند الشيخين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" وفي ذلك داعية إلى نفرة المسلم العاقل من كل المعاصي بعدم الحوم حول حماها، والقرب من الأمر يهون خَطبه ويدعو إلى ألفته، والنفس ميالة بطبعها إلى ما فيه مضرتها إن لم يتعهدها صاحبها بالرعاية ويستمد من الله التوفيق والعون.

ودأب النفوس السوء من حيث طبعها إذا لم يصنها للبصائر نور

ومن باب النهي عن الدنو من المحرمات ما فصله الفقهاء من تحريم بيع الذرائع المسمى ببيع العينة، ونحوه من العقود التي يحتال بها المحتالون ليسوغوا لأنفسهم ارتكاب ما حرم الله من الربا.
وقَرِبَ يَقْرَبُ كَقَرُبَ يَقْرُبُ في دلالتهما على الدنو، وقد نص على عدم التفرقة بينهما كل من الجوهري في صحاحه، والفيروز أبادي في قاموسه، وابن منظور في لسانه، وحُكي عن ابن العربي أنه نقل عن الشاشي التفرقة بجعْل قَرِبَ بالكسر بمعنى "الملابسة"، وقَرُبَ بالضم بمعنى "الدنو"، وذكر مثله الزبيدي في شرح القاموس ونسبه إلى أرباب الأفعال كما نسبه إلى شيخه - ويعني به الفاسي - والقول الأول هو المشهور، ولا معنى لهذه التفرقة فإن حمل القرب على التلبس بالشيء مجاز ولا يستقل المجاز عن الحقيقة بصيغة معينة.
وقد عُطف قوله كلا في هذه السورة بالواو بخلاف ما في سورة الأعراف وهو قوله سبحانه:
{ { وَيَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } [الأعراف: 19] فإن عطفه فيه بالفاء، ولا إشكال في ذلك فإن الواو المطلق الجمع فلا ينافي مدلولها مدلول الفاء، وذهب الفخر الرازي إلى التفرقة بين ما في السورتين، وخلاصة قوله أن المعطوف على الفعل إن كان ذلك الفعل كالشرط له وهو كالجزاء يُعطف بالفاء دون الواو كقوله تعالى: { { وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } [البقرة: 58]، فإن الأكل منها متعلق بدخولها فلذلك عطف بالفاء كأنه قال إن دخلتموها أكلتم منها، وعطف بالواو في قوله: { { ٱسْكُنُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } [الأعراف: 161] لأن الأكل لا يتوقف على السكنى فقد يأكل من البستان من كان مجتازا به، وعليه فإن الأمر بالسُّكنى في سورة البقرة يُراد به الاستمرار في البقاء، وقد ورد بعد أن كان آدم في الجنة، وليس ذلك شرطا للأكل، فلذلك عُطف بالواو، والأمر بها في سورة الأعراف ورد قبل دخوله الجنة، فهو محمول على دخولها، والأكل متعلق به فلذلك ورد بالفاء.
وما ذكره يستلزم أن يكون آدم خوطب بذلك مرتين، ولعدم الدليل عليه عدلت عن رأيه إلى ما ذكرته قبل.
وللناس أقوال في الشجرة التي نُهيا عنها، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن أبي حميد عنه أنها الكرم وأخرجه ابن جرير عن ابن مسعود، وأخرج أبو الشيخ عنه أنها اللوز، وأخرج ابن جرير عن بعض الصحابة قال هي التينة، وروى عن قتادة، ورُوي عن أبي مالك أنها النخلة، وقيل غير ذلك، ولا فائدة وراء هذا الاختلاف، وهو ينبئ عن ضعف هذه الأقوال، ولا دليل يمكن به ترجيح أحدها، ومما يُستغرب كثيرا تعليل بعضهم تحريم الخمر بكونها من العنب الذي نهى عنه، وما أسخف هذا القول، فإن الخمر إنما حُرمت لإِسكارها لا لكونها من العنب، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل لكان العنب نفسه قبل استحالته خمرا أجدر بالتحريم، ولكان عصيره حراما ولو لم يسكر، ومن المعلوم أن الخمر ما خامر العقل، فيحرم كل مطعوم أو مشروب هذا شأنه مهما كان أصله، ولعمري إن هذا الإِختلاف ليس منشؤه إلا تصديق أهل الكتاب في دعاواهم الكاذبة والثقة بأقوالهم في تفسير كتاب الله، وما عُزى إلى الصحابة من ذلك لا يصح عنهم، وقد أغرب قطب الأئمة -رحمه الله - في قوله إن ما رُوي عن الصحابة في مثل هذا له حكم المرفوع إذا صح، وأني تثبت الصحة مع هذا الاختلاف، وقد عَلمتَ مما سلف في مقدمة التفسير أن أقوال أهل الكتاب كان لها أثر على آراء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم في تفسير ما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام من آي الكتاب، وإن كان أثر ذلك في تفسير التابعين أكثر بكثير، فيكف يصح مع ذلك أن نُعطي ما يُروى عنهم حكم الرفع وإن ثبتت نسبته إليهم، وقد أبعد بعض المفسرين النجعة فزعم أنها شجرة العلم والصبغة اليهودية بادية على هذا القول، فإن اليهود هم الذين يقولون بأن منشأ طرد الإِنسان من رحمة الله، وإقصائه عن دار كرامته أكله من شجرة المعرفة التي ميز بها بين الخير والشر، وإن عجبت فإنني أعجب ممن يتقبل ذلك عنهم ويُؤَثِّره في تفسير كتاب الله والقرآن نفسه ينادي بأن فضل الإِنسان إنما كان بالعلم الذي فُضل به على الملائكة حتى أُمروا بالسجود له.
وقد ذكر المفسرون تفصيل قصة الأكل من الشجرة، ومن ذلك أن آدم لم يأكل منها حتى كانت حواء هي البادئة بالأكل، وذلك لا يختلف عما قبله في كونه قولا لم يبن على دليل.
وقد أسرف القرطبي في الاستناد على هذه الحكايات الوهمية حتى أتى شيئا إمرا إذ ادّعى أن المعصية لم تتحق بأكل حواء وحدها من الشجرة حتى تبعها آدم فتحققت معصيتهما فكان ما كان من عقاب الله لهما بإخراجهما من الجنة بعدما أُريا سوآتهما، ومنشأ قوله بأن المعصية لم تقع حتى أكلا جميعا أن الخطاب بالنهي وُجِّه إليهما معا ولم يُخص كل واحد به، وبني على ذلك أن من قال لزوجتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو لأمتيه إن فعلتما فأنتما حرتان، بأن الطلاق والعتاق لا يقعان حتى يصدر ذلك منهما معا، وأنكر - تبعا لابن العربي - ما يعارض هذا القول لعدم وقوع الشرط وهو دخول الاثنتين كما أن آدم وحواء لم يكونا ظالمين حتى أكلا جميعا من الشجرة مع قوله عز وجل: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [البقرة: 35].
وهو كلام جدير بأن يستوقف كل سامع، كيف لا يكون ارتكاب النهي معصية وظلما حتى يقع ذلك من كل من وُجه إليهم الخطاب إذ لا فرق بين صيغة التثنية وصيغة الجمع في مثل هذا؟ ويترتب على هذا القول ان لا يصدق حكم المعصية على أحد حتى يرتكب الناس كلهم ما نُهوا عنه ما دام الخطاب بالنهي موجها إليهم جميعا فيجوز لكل زان أن يعتذر عما ارتكب بأنه غير عاص ما لم يزن جميع الذين خوطبوا بقوله تعالى:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ } [الإِسراء: 32] كما يجوز لكل آكل ربا ان يعتذر بأنه غير عاص بأكله الربا حتى يأكله الذين خوطبوا بقوله تعالى: { { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَا } [آل عمران: 130]، ومثل ذلك يقال في قتل النفس المحرمة بغير حق وسائر المعاصي الموبقات ما لم يُخصّ مرتكبها بالنهي عنها في خطاب يخصه، وهو فاسد بالإِجماع، وإذا فسد اللازم فسد الملزوم لعدم انفكاكه عنه.
وما أختاره - وفقا لابن العربي- من أن الطلاق والعتاق لا يقعان إن علقا على فعل المرأتين أو الأمتين اللائي خوطبن لأمر نيط به الطلاق أو العتاق إلا إن فعلتاه معا، مردود حسب رأيي لأن كل واحد يعتد بفعلها في الحكم فيترتب عليه طلاقها أو عتاقها وإن كان الخطاب للإِثنتين، لعدم الفارق بين صيغة التثنية وصيغة الجمع في مثل هذه الأحوال، وأنت تدري أن تكفير السيئات المعلق على اجتناب الكبائر في قوله عز من قائل:
{ { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [النساء: 31] لا يشترط أن يكون حاصلا من جميع المخاطبين، بل هذا الحكم يتجه إلى كل واحد منهم في خصوصه وإن لم يجتنب غيره الكبائر.
هذا وإني لأعجب ممن يقول إن إبليس لم يتسلط على آدم إلا من طريق حواء مع أن القرآن صريح بأنه - لعنه الله - كان خطابه لآدم فقد قال تعالى:
{ { قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ فَأَكَلاَ مِنْهَا } [طه: 120-121]، فإن ذلك واضح في أن أكلهما ناشئ عن هذا الخطاب الموجه إلى آدم، وهو لا ينافي أن يكون خاطبهما معا كما يدل عليه قوله سبحانه: { { وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20] وإنما حكى الله تارة خطابه لهما معا، وتارة خطابه لآدم وحده لأن حواء تبع له كما سبق.
هذا وقد بين الله لهما عاقبة مخالفتهما أمره بقربهما من تلك الشجرة التي نُهيا عنها حيث قال لهما: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } وأصل الظلم وضع الشيء في غر موضعه، ومنه استحسان ما ليس بمستحسن، وقد استحسنا الأكل من تلك الشجرة بتزيين إبليس لهما ذلك مع ما فيه من مخالفة أمر الله.
وإطلاق الظلم على فعلهما لا يستلزم أن يكون من الكبائر لمنافاة ذلك عصمة النبوة، وللعلم بأنهما لم يأتيا ما أتياه لأجل الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى، وإنما كان ذلك إما نسيانا وإما خطأ كما سيأتي قريبا إن شاء الله، وليس تهويل هذه المخالفة إلا لعلو قدرهما وعظم شأنهما، وما أحسن قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، ومن هذا الباب مضاعفة الوعيد بالعذاب لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن في قوله تعالى؛
{ { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [الأحزاب: 30] مع قوله: { { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } [الأحزاب: 32]، فلا غرابة في إطلاق اسم الظلم على صنيع صفي الله آدم عليه السلام وإن كان بالنسبة إلى غير صغيرا.