التفاسير

< >
عرض

وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
-البقرة

جواهر التفسير

أقوال في المعنيين بالوصف:
اختلف في المعنيين بهذا الوصف، هل هم نفس الطائفة الموصوفة في الآية السابقة بأنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، أو هم طائفة أخرى؟ وبناء على هذا الرأي الأخير، فمن المراد بهم؟
روى ابن جرير في تفسيره عن ترجماني القرآني ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بالذين يؤمنون بالغيب .. الخ ما في الآية السابقة، مؤمنو العرب، إذ لم يكن لهم رصيد من علم الكتب السماوية من قبل، وإنما فوجئوا به على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهو ما لم يكونوا يألفونه، فكان إيمانهم به صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه أحرى بأن يوصف أنه إيمان بالغيب، وأما هذه الآية فهي في أهل الكتاب، لأنهم سبق لهم إيمان بما أنزل على النبيين من قبل، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى من عند الله، عرفوا صدقه بما سبق لهم من العلم بالنبوات، وبما كانوا يتلونه في كتبهم من البشائر ببعثته عليه أفضل الصلاة والسلام. واختار هذا القول ابن جرير واستدل له بما ذكرته، وعضده بتقسيم المعرضين عن هدي ما أنزل الله على رسول صلى الله عليه وسلم - في الآيات الآتية - إلى طائفتين؛ طائفة جاهرت بالكفر وأعلنت التكذيب، وأخرى أسرّت كفرها في قرارة نفسها ولم تبح بالتكذيب إلا فيما بينها.
وهذا التقسيم يتناسب - حسب رأيه - مع تقسيم المؤمنين المنتفعين بهدى التنزيل إلى طائفتين؛ مؤمني العرب، ومؤمني أهل الكتاب، واستشهد ابن كثير لهذا القول بقوله تعالى:
{ { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ } [آل عمران: 199]، وقوله سبحانه: { { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [القصص: 52 - 54].
وبحديث أبي موسى عند الشيخين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها" .
ويلمح من كلام القطبرحمه الله في هيميانه أنه يجنح إلى هذا القول، وذلك من تصديره إياه، وإتباعه كثيرا من البحوث المتفرعة عنه، واعتمده من المعاصرين العلامة ابن عاشور، واستدل له بما يوجبه تكرار الموصول من التغاير، غير أنه نبه على دخول أهل الكتاب - إن آمنوا - في عموم الفريق الأول، لأنهم يصدق عليهم أنهم يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقهم الله ينفقون.
وكلامه يقتضي أن عطف الموصول الثاني على الأول من باب عطف الخصوص على العموم.
وقيل: الآيتان في أهل الكتاب وحدهم، ذكر هذا القول ابن جرير ولم يعزه إلى أحد، ووصفه صاحب المنار بالشذوذ.
وقيل: كلتاهما في كل المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، المتبعين لهديه سواء منهم العرب الذين كانوا على الجاهلية الجهلاء، أو من كان من قبل على ملة كتابية، وعزا ابن جرير هذا القول إلى مجاهد والربيع بن أنس ورجحه ابن كثير في تفسيره - مع استشهاده للقول الأول بما تقدم ذكره - والشوكاني في فتح القدير.
وتردد جار الله الزمخشري والعلامة الألوسي بين هذا القول والقول الأول.
وفرق الامام محمد عبده بين الموصوفين في الآيتين تفريقا دقيقا، سلك فيه مسلكا غريبا وافقه عليه تلميذه السيد رشيد رضا، لأنه - حسب رأيه - أقرب إلى مدلول النظم وإن كان أبعد عن الروايات. وخلاصة قوله أن الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا يدركه الحس متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم. والايمان بالله وملائكته وباليوم الآخر، إيمان بالغيب، ومن لم يكن مؤمنا بالله لا يمكن أن يهتدي بالقرآن، ومن يتصدى لدعوته، عليه أولا أن يقيم الحجة العقلية على أن لهذا العالم إلها متصفا بصفات الكمال التي يتوقف عليها وصف الألوهية، ثم يقنعه بأن هذا القرآن هداية من عنده سبحانه. لذلك كان الايمان بالغيب أول ما وصف الله به المتقين الذين يهتدون بالقرآن، وهو في حقيقته الايمان بما وراء المحسوس، ومن اتصف بهذا الايمان فهو واقف على رأس طريق الرشاد، لا يحتاج إلى من يأخذ بيده فيسلك به فيه، فإن من يعتقد بأن وراء المحسوسات موجودات يصدق بها العقل وإن كانت لا تقع تحت إدراك الحس إذا أقمت له الدلائل، ونصبت له الشواهد على وجود موجِد الوجود، الذي ليس كمثله شيء، لم يشق عليه تصديقك ولم يتردد في النظر في جلي المقدمات وخفيها، وإذا جاءه الرسول بوصف اليوم الآخر أو وصف عالم من عوالم الغيب التي استأثر الله بعلمها، كعالم الملائكة، لم يشق على نفسه تصديق ما جاء به الخبر، بعد ثبوت النبوة، وذلك بخلاف شأن أولئك الذين انحبسوا في مضائق المادة فصاروا ينفرون من كل خبر عما وراءها.
ويرى الأستاذ أن المتقين هنا هم طائفة من العرب في الجاهلية، كان عندهم إيمان جزئي بالغيب أداهم إلى مقت عبادة الأصنام لما عرفوه بالفطرة من أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأنه يحب الخير ويبغض الشر، وقد أدى ذلك ببعضهم إلى اعتزال الناس، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال، وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في عرفهم - وبعض الخبرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق.
وطائفة من أهل الكتاب، وهم الموصوفون بقوله سبحانه:
{ { مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [آل عمران: 113 - 114]، وقوله: { { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [المائدة: 82 - 83].
فإن كلتا الطائفتين على استعداد لتلقي هداية الحق والاستجابة له والانضمام إليه، لأنهم كانوا جميعا مشمئزين مما عليه أقوامهم من الكفر والضلال، ومتطلعين إلى شعاع من الهدى يلوح لهم فينير لهم الطريق، فهم جديرون بوصف التقوى، لأنهم زكت فطرهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، واستعدت لتلقي نور الحق الذي يحملها على توقي سخط الله واتباع مرضاته. فالطائفتان هما - في نظر الامام - أحرى بالوصف الذي في قوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ.. } "الآية"، وأما الموصوفون في هذه الآية فهم عنده الذين تحققت هدايتهم، ووصلوا إلى الغاية التي ينشدونها، إذ آمنوا فعلا بالرسول واتبعوا النور الذي جاء به، فهم أرقى درجة في الخير، وأبعد مدى في الهدى، واستدل الأستاذ للتغاير بينهما بمثل ما استدل به العلامة ابن عاشور، وهو إعادة لفظ الموصول معطوفا، كما استأنس لرأيه بتكرار اسم الاشارة مع العطف في قوله تعالى بعد ذلك:
{ { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5].
الرأي الراجح في هذه الأقوال:
هذا؛ وقد تأملت هذه الأقوال وتتبعت أدلتها؛ فوجدت في نفسي ميلا إلى رأي من يرى أن هذه الصفات التي ذكرت في هذه الآيات؛ هي لطائفة واحدة وهم المتقون حقا، الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي جاء به والتزموا منهاج الحق، فإن هذه الصفات هي صفات التقوى التي لا تنفك عن المتقين ولا ينفكون عنها، ولا داعي للتفرقة بين من كان من قبل على جاهلية العرب أو على ملة كتابية، بحيث يُعد بعض هذه الأوصاف خاصة بأهل الكتاب، والبعض الآخر خاصا بمؤمني العرب، فإن الجميع انصهروا في بوتقة الايمان، وصاروا كالجسد الواحد، وهم مخاطبون بالايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنبيين من قبله وبما أنزل إليه وإليهم، كما في قوله تعالى:
{ { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 136]، وهذا الايمان بجميع النبوات وكل ما أنزل على النبيين هو الذي وصف الله به رسوله والمؤمنين في قوله: { { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة: 285]، أما إعادة اسم الموصول معطوفا على ما قبله فليس فيه دليل على التغاير بين الموصوف بالموصولَيْن لمجيء ذلك كثيرا في القرآن، وفي الكلام العربي مع اتحاد الموصوف، ومنه قوله تعالى: { { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ وَٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ } [الأعلى: 1 - 4]، فقد تكرر فيه الموصول ثلاث مرات، ولا يقصد به إلا الرب الأعلى، ونحوه قوله سبحانه في وصف عباده: { { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [الفرقان: 63 - 65] "الآيات"، فانظر كيف تكرر الموصول ثماني مرات، ولا يقصد به إلا عباد الرحمن، ومثل ذلك في فاتحة سورة (المؤمنون) في وصفهم، وفي سورة المعارج في وصف المصلين.
ولا إشكال في العطف، ولو أن القاعدة فيه تقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التغاير لا يلزم أن يكون في الذوات، بل كثيرا ما يلحظ في الصفات، فتعطف صفة على أخرى والموصوف واحد، كما في الآيات التي استدللنا بها، ومنه قول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

ويؤكد أن هذه الصفات جارية على جميع المؤمنين بالكتاب من غير تفرقة بين من كان من قبل على ملة كتابية أو على طريقة جاهلية أنهم جميعا جمعوا في الوصف في سائر السور، كما في قوله سبحانه: { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُم بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [النمل: 1 - 3]، وقوله: { { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [لقمان: 2 - 5].
وفي تعدد الاشارة في سورة لقمان مع أن المشار إليه طائفة واحدة - وهي طائفة المحسنين - نقض لاستدلال الامام محمد عبده بتعدد الاشارة في سورة البقرة على اختلاف المشار إليه، كما سنبينه إن شاء الله في الآية التي تلي هذه.
أما ما ذكره ابن جرير من أن في تقسيم المؤمنين إلى طائفتين تناسبا مع ما يأتي من بعد من تقسيم غيرهم إلى طائفتين أيضا؛ طائفة الكفار، وطائفة المنافقين، فهو مما لا ينبغي التعويل عليه في تأويل الكتاب، فإن تقسيم الكفار إلى طائفتين إنما هو بحسب ما هم عليه في الحال لا بحسب ما كانوا عليه من قبل.
والمؤمنون بعد إيمانهم توحدت حالهم فلا داعي لاعتبار ما كانوا عليه قبل أن يكرمهم الله بالهدى، على أن الحق هو مذهب واحد بخلاف الباطل، فإنه على طرائق؛ بدليل قوله تعالى:
{ { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153].
أثر الإِيمان بالغيب في صفاء النفوس:
والخلاصة: أن الصحيح مما تقدم من الأقوال قول مجاهد والربيع بن أنس ومن وافقهما، وهو أن هذه الصفات هي لجميع المؤمنين، وذلك الذي يقتضيه تناسق الآيات وترابط النعوت، فالله عز وعلا عندما ذكر الكتاب بيّن أن هدايته خاصة بالمتقين، والتقوى تستلزم صفاء الروح، وروحانية النفس، وزكاء الفطرة وسلامة الحس، وطهارة اللسان، ونقاء الوجدان، واستقامة الأركان، وحياة الضمير. وبهذا يتم التناسق بين المشاعر الباطنة، والحركات الظاهرة عند المتقين. وبسبب هذا النقاء الباطني تشف السرائر وتتألف البصائر، وترتفع عن النفوس حجب الطبع الكثيفة الحائلة بين كثير من الناس، واتصالهم بعالم الغيب، وبارتفاعها عن نفوس المتقين تتجلى لهم الحقائق الغيبية بحسب ما تفيضها الأدلة العقلية أو النقلية، تجليا لا يدع مجالا للشك أو الريب. ومن ثم كان الايمان بالغيب أول ما نعت به المتقون هنا.
والايمان شعلة في النفس تطوي من جنباتها سجاف ظلماتها، فتستنير لها مسالك الحياة، وينكشف لها ما فيه سلامتها أو خطرها. وهذه الشعلة المعنوية لا تختلف عن الشعل الحسية في حاجتها إلى ما يمدها بالطاقة؛ وإلا خبا نورها واختفى شعاعها، وقد جعل الله سبحانه عباداته المتنوعة وقودا روحانيا للايمان، وعلى رأس هذه العبادات الصلاة التي تتميز بعمق أثرها وقوة تأثيرها، فلذلك كانت إقامتها الصفة الثانية للمتقين.
وبما أن الإِيمان بالغيب، وإقام الصلاة يسكبان في النفس الإِنسانية الشعور بآلام الآخرين ويبعثان فيها الإِحساس بضرورة العطف على البؤساء والمحرومين، وهو مما يدفع صاحبه إلى الإِحسان، كان ثالث ما وصفوا به الإِنفاق من رزق الله.
ومع كل ذلك فالضرورة داعية إلى الوحدة الفكرية والرابطة الروحية التي تنتظم عباد الله منذ بداية الخلق إلى أن يرث الكون مكوّنه، وبدونها تتقطع جميع الروابط وتنحل كل الوشائج، وهذه هي المناسبة في اختتام هذه الصفات بكونهم يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل إلى من قبله من النبيين، وهذا مما يقتضي وراثة هذه الأمة لمن تقدمها من الأمم في هدي أنبيائها، كما يؤكد وحدة رسالات الله التي تتابعت مواكب رسله لنقل هدايتها إلى الناس.
والإِنزال: نقل الشيء من جهة عالية إلى أدون منها، ويطلق مجازا على الإِيصال والإِبلاغ، كما يطلق النزول على الوصول والحلول، نحو قوله تعالى:
{ { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ ٱلْمُنْذَرِينَ } [الصافات: 177]. وقد يطلق على إنشاء النعم أو إظهارها نحو قوله: { { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25]، وقوله: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6]. والتحقيق أنه لا بد من رعاية معنى العلو في مصدره، والله سبحانه متعال فوق خلقه بقهره وسلطانه، فلذا صح إطلاق لفظ الانزال على ما يصدر منه من إحسان إلى خلقه. ويكون العلو معنويا كما يكون حسيا.
وإنزال القرآن وسائر الكتب السماوية إنما هو عبارة عن نزول الملك المكلف بإبلاغها متلبسا بها حتى تصل إلى المرسل إليه بأمر الله. والملك يتلقاها من الله سبحانه بالطريقة التي تقتضيها مشيئته تعالى.
وقد أخبر سبحانه أن تكليمه للبشر لا يكون إلا بصفات ثلاث، بيّنها في قوله:
{ { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [الشورى: 51].
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم كيفية تلقيه للوحي في جوابه للحارث بن هشام الذي رواه الامام الربيع والشيخان من طريق عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"سأل الحارث بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملَك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" .
وبناء على رأي من قال إن هذه الآية في مؤمني أهل الكتاب خاصة، استظهر العلامة ابن عاشور فائدة من الاتيان بالموصول في قوله: { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }، ولم تكن العبارة والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب، وهي الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الاسلام، ككون التوراة لا تقبل النسخ، وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية، ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات - قال - ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم، وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ وقد عبر في الآية بصيغة الماضي في قوله بما أنزل إليك، مع أن القرآن لم يكن كله منزلا عند نزول هذه الآية، والناس مطالبون بالايمان بكل ما أنزل أو سوف ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الايمان بما تحقق نزوله يقتضي الايمان بما سوف ينزل، لاندراجه فيه، ويرى بعض المفسرين أن هذا التعبير من باب المجاز العقلي، وهو تغليب ما أنزل على ما لم ينزل، ويرى غيرهم أنه مجاز لغوي، وذلك أنه أستعير ما أنزل لما لم ينزل.
وانتقد القطبرحمه الله هذين الرأيين لما فيهما من الجمع بين الحقيقة والمجاز، واختار ما تقدم ذكره من أن الايمان بما أنزل يقتضي الايمان بما سوف ينزل، وهو الذي يقتضيه كلام المحقق ابن عاشور، إذ يرى أن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل، لعدم احتياج ذلك إلى الذكر، فإنه من المعلوم أن الذي يؤمن يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول، لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكونان في أول الأمر، فإذا زالا بالايمان أمِنَ من الارتداد، كما قال هرقل: وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب. فالايمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب، وهي الدلالة الأخروية، وليس هو مدلولا للفظ الماضي بطريق التغليب، ولكنه مراد من الكلام.
الإِيمان بالقرآن الكريم وأثره:
والايمان بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون إيمانا تفصيليا، بحيث يقصد المؤمن بإيمانه الكتاب المنزل إليه للاعجاز والهداية الذي رقم في المصاحف وتناقلته الألسنة بالتواتر.
أما الايمان بما أنزل من قبل على سائر الرسل فيكفي أن يكون إيمانا إجماليا، بل هذا هو الواجب نظرا إلى أن المنزل إليهم لم يبق كما هو، بل دخله التحريف والتبديل، فليس ثم شيء معين مما أنزل إليهم باقيا على ما كان عليه حتى يقصد بالايمان، وهذا أحد سببين أوجبا التفرقة في الايمان بين القرآن والكتب السالفة.
وثاني السببين أن القرآن تعبدنا بالعمل به بخلاف تلك الكتب، فقد انتهى أمدها وهيمن عليها جميعا هذا الكتاب الخالد الذي لا أمد لأثره وهدايته، ولا يمكن العمل به إلا بعد تشخيصه في الايمان.
وذهب جماعة، منهم الفخر الرازي وأبو السعود والألوسي، إلى أن الايمان بالقرآن الواجب على العوام هو إيمان إجمالي أيضا كغيره من الكتب المنزلة لتعذر الاحاطة بدقائق حِكَمِهِ وتفاصيل أحكامه على عوام الناس، وإنما رأوا الايمان به تفصيلا فرضا كفائيا يقوم به العلماء المتبحرون الذين يستخرجون من أعماق بحاره الزاخرة مكنون جواهر حكمه وأحكامه.
وذكر العلامة الألوسي اختلاف الفقهاء في قدر المسافة التي يجب أن يتوفر فيها من يقوم بهذه المهمة بين الناس، فمنهم من رأى وجوب وجود مثله في كل حد مسافة القصر من البلاد الاسلامية لئلا تبقى طائفة من الناس تتخبط في ظلمات جهلها بدون مرشد ولا دليل، ويحرم - عند هؤلاء - على الامام إخلاء مثل هذه المسافة من مثل هذا الشخص الجامع لهذه الصفات.
ومنهم من يرى وجوب توفر مثله في كل إقليم، ومنهم من يرى أن وجود مثله في أي جزء من العالم الاسلامي يسقط هذا الواجب عن جميع الأمة، وفي المقام بحث نرجئه إلى مكانه المناسب بتوفيق الله.
ولا أرى فارقا معنويا بين ما قالوه وما قلته في تحديد الايمان الواجب بما أنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فإن مرادهم بالتفصيل الاحاطة بكل محتوى ما يؤمن به، ومرادي به تشخيصه بالايمان وتمييزه عن غيره، واتباع ما جاء به بحيث يصبح مسيطرا على شعاب النفس، وموجها للجوارح والأركان، وهذه هي صفة المؤمنين بآيات الله كما وصفهم بها في قوله:
{ { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [السجدة: 15 - 16].
وقد وبخ الله سبحانه الذين ادعوا الايمان بالقرآن ثم هَمُّوا بأن يتحاكموا إلى غيره حيث قال:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } [النساء: 60].
وإذا كان الله تعالى جعل صنيع بني إسرائيل - إذ عملوا ببعض ما أنزل إليهم وأعرضوا عن بعض - من باب الخلط بين الايمان والكفر، حيث قال بعد تعداد ما صدر منهم:
{ { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 85].
فإن هذا الحكم نفسه يسري على الذين ينتسبون إلى القرآن وهم يعرضون عنه بمجانبة هديه وتعطيل أحكامه ومخالفة تعاليمه، وابتغاء الحق في غيره، ومن ثم حكم سبحانه وتعالى على من لم يحكم بما أنزل بالكفر والظلم والفسق، وذلك في قوله:
{ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } [المائدة: 44]، { { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [المائدة: 45]، { { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [المائدة: 47]. وبهذا يتبين أن الايمان بالقرآن له معنى عميق ترتبط به حياة المؤمن، وذلك أن يتكيف في فعله وتركه بحسب ما تقتضيه أحكامه وتعاليمه.
وقد كان السلف الصالح يعدون مجانبة شيء من هديه منافيا للايمان به، كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عندما أبصرت امرأة عليها ثياب رقاق: "ما آمنت بسورة النور امرأة لبست هذه الثياب"، فأعجب لأولئك الذين يزعمون أنهم من أمة القرآن وهم يرتعون في المعاصي، غير مبالين بخلق ولا فضيلة ولا شرف، ما قيمة إيمان هؤلاء بالقرآن؟ إن القرآن الكريم مليء بأوامر الله الموجهة إلى عباده، منها ما يتعلق بالحياة الفكرية، ومنها ما يتعلق بالشعائر التعبدية، ومنها ما يتعلق بالشؤون السياسية، ومنها ما يتعلق بالنظم الاقتصادية، ومنها ما يتعلق بالواجبات الاجتماعية، ومنها ما يتعلق بالأحكام القانونية. والواجب على من آمن به أن يسلم تسليما لذلك كله وينقاد له بفكره ومشاعره وجوارحه، حتى يتحول القرآن إلى واقع محسوس يتجلى للناس جميعا في حياة المؤمنين الخاصة والعامة.
أثر الإِيقان بالآخرة:
واختتم تعالى صفات هذه الطائفة بذكر الإِيقان بالآخرة، لأنه ملاك الأمر، وسور الصالحات، والحاجز دون تردي النفس في مهاوي شهواتها ونزواتها، لأن فيه ربط العمل بالجزاء، ووصل المبدأ بالمصير، وما قبل الموت بما بعده، ولأن اليقين بالحياة المطلقة الأبدية بعد هذه الحياة المقيدة الفانية؛ هو مفترق الطرق بين أولئك الذين يعيشون في مضيق الحس لا يعرفون وجودا إلا هذا الوجود المحسوس، ولا متعة إلا هذه المتعة الفانية، ولا هدفا إلا ما يختص بحياة الأرض، وأولئك الذين تفتحت مداركهم واتسعت آفاق أفكارهم فأيقنوا أن المحسوس ليس هو كل شيء في الوجود، وأن هذه الحياة ليست هي كل وجود الانسان، وأن متعها الفانية ليست هي كل شيء بالنسبة إلى منافعه ومصالحه، وأن أهدافها يجب أن تكون وراءها أهداف أسمى منها قدرا، وأغلى منها قيمة، فإن من شأن هذا الإِيقان أن يدفع بصاحبه إلى التفكير في العاقبة والجزاء على الأعمال وتكييفها بحسب رغبته في نوع جزائها.
والآخرة وصف أغنى عن الموصوف في التعبير، لاستقراره في الأفهام، والمراد به الحياة الآخرة، أو الدار الآخرة، حيث يحاسب كل أحد على عمله، ويجزى به جزاء وفاقا، والايمان بها يشمل الايمان بكل ما يحدث فيها، مما تضمنته النصوص القاطعة.
واليقين: قيل هو الاعتقاد للواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال. ذلك لأن الاعتقاد إما أن يكون اعتقادا بأن الشيء كذا، أو اعتقادا بأنه لا يمكن إلا أن يكون كذا.
وقيل: هو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات، ويعم الجزم بخبر الصادق والاعتقاد المبني على الأدلة والأمارات إن كان ثابتا لا شك فيه.
وفسره أئمة اللغة بأنه العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر. وقالوا: إنه نقيض الشك، كما أن العلم نقيض الجهل، ولعل هذا التفسير دعا بعض المفسرين من المتقدمين والمتأخرين إلى القول بأنه العلم بالشيء عن نظر واستدلال، أو بعد شك سابق.
والشك إنما يكون فيما يستوجب النظر، وعليه فيكون اليقين أخص من الايمان ومن العلم. واحتج بعضهم لذلك بقوله تعالى:
{ { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } [التكاثر: 5 - 6].
ومن ثم لا يطلق الايقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية، وبناء على هذا فإن إيثار مادة الايقان في ذكر الايمان بالآخرة لما فيها من الاشعار بأن علمهم بالآخرة ناتج عن كد الفكر وسعة التأمل في الاستدلال، لأن الحياة الأخروية حياة غائبة عن الأبصار وسائر الحواس، غريبة على الأفكار المنغلقة بين جدران الحس، وقد تراكمت على هذه الأفكار شبه جمة حالت بينها وبين إدراكها حالة الدار الآخرة، وهي مناسبة جديرة بالاعتبار في اقتناص دقائق أسرار التعبير القرآني وقد نبه عليها أحد أئمة التفسير الحاذقين.
وبناء على ما ذهب إليه الامام محمد عبده من التفرقة بين الطائفتين الموصوفتين في الآيتين، وأن الأولى كانت على إيمان جزئي، والثانية هي التي آمنت الايمان الكلي، قال ما معناه:
وصفت هذه الطائفة التي اكتمل إيمانها بالإِيقان بالآخرة، لأنهم مؤمنون بالقرآن، بخلاف الأولى فإنها كانت فقط على جزء من الايمان، وهي في طريقها إلى الايمان الكامل لما أوتيت من الاستعداد لذلك.
وقد عرفت مما تقدم أنني أرجح رأي من يقول إن جميع الصفات الواردة في الآيتين هي لموصوف واحد، وهو الطائفة المؤمنة.
واليقين هو أساس الايمان الذي لا يقوم إلا عليه، فإن إيمان من يعتمد على مجرد الظن إيمان متزلزل لا ثبات له، فهو منهار الأسس منهد الأركان، ولذلك قال سبحانه في اعتقاد بعض الناس:
{ { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [النجم: 28].
وإذا كان هذا هو حكم الظن في الاعتقاد، فما بالك بما دونه من الشك والارتياب.
واليقين الحق في الايمان بالله واليوم الآخر إنما يعرف بآثاره في الأعمال، كما سبق ذكره في الحديث عن الايمان وصفات المؤمنين حسب ما يدل عليه القرآن.
وذكر الامام محمد عبده من أمثلة من لم يقم إيمانه على الايقان، من يأتي إلى محكمة بدعوى كاذبة يريد بها أكل مال أخيه بغير حق، أو بشهادة مفتراة يجامل بها صديقه، أو ينتقم بها من عدوه، وهو يعلم باطله وزوره، فيوعظ ويذكر:
{ { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [الفرقان: 27] فيقول: أعوذ بالله أنا أعلم ذلك اليوم الذي أمامي، وأن بين يدي شبرا من الأرض - يعني القبر - وأن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى بأنه محق في كلامه، ثم يكشف التحقيق عن إفكه، ويضطر إلى الاعتراف بزوره، فكأن الايمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح له عندما يريد أن يخادع غيره، وشرك يصطاد به حقوق الناس بغير حق.
صفة الإِيمان اليقيني:
وذكر الامام أن الايمان المبني على اليقين هو الذي يكون معه إحساس من طريق الوجدان يجعل المؤمن كأنه يرى ما آمن به، وهذا الايمان هو الذي يملك نفس صاحبه، وهو يأتي من طريقين:
الأول: النظر الصحيح فيما دعت الحاجة فيه إلى النظر، كالايقان بوجود الله ورسالة رسله، وذلك بتخليص المقدمات إلى أن تصل إلى حد الضروريات، فيكون الانسان بذلك كأنه راء بعينيه ما استقرت عقيدته عليه.
الثاني: خبر الصادق المعصوم بعدما دلت على صدقه الدلائل، وقامت على عصمته الشواهد.
ولا يكون ذلك الخبر طريقا لليقين حتى يسمعه السامع من نفس المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، أو يصل إليه من طريق لا يحوم حولها الريب، وهي طريق التواتر دون سواها، فلا مصدر لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة فيما يأتي من طريق النقل إلا التواتر الذي لا خلاف فيه، وذلك في الأمور الغيبية التي لا سبيل للعقل إليها، نحو وصف الآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وصفاته. وكذلك صفات الله تعالى التي تتوقف معرفتها على الوحي.
وتقديم الجار والمجرور - وهما بالآخرة - على متعلقهما - وهو يوقنون - وبناؤه على الضمير يفيدان الحصر عند الزمخشري، وفي ذلك تعريض بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالآخرة على حقيقتها، وخالفه في ذلك العلامة ابن عاشور، فرأى أن تقديم الجار والمجرور إنما هو لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وفيه ثناء على هؤلاء لأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن، وأنكر الحصر الذي ادعاه الزمخشري لاقتضائه أن يكونوا يوقنون بالآخرة دون غيرها، ورأى أن تكلف إخراج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله غير معهود.