التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ
٤٥
ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ
٤٦
-البقرة

جواهر التفسير

في هذا الخطاب عود على الأمر بعدما ولى الأوامر السابقة ذلك التأنيب اللاذع على أمرهم الناس بالبر ونسيان أنفسهم وهو اسلوب عجيب في التربية النفسية إذ في هذا الأمر ما يشعرهم أنهم مظنة الطاعة والامتثال، وإن صدر ما صدر منهم من المعايب التي كانت منشأ ما لحقهم من الإِنكار والتقريع.
ولم يخرج الخطاب عن مواجهة بني اسرائيل وإن قال من قال: انه هنا للمسلمين وهو القول الذي صدره قطب الأئمة -رحمه الله - في التيسير. ومنشؤه توهم قائليه أن الأمر بالصبر والصلاة يتنافى مع الحالة التي كان عليها بنو إسرائيل إذ لا فائدة لهم مما أُمروا به مع إصرارهم على عدم الإِيمان بنبوة النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد أنكر أكثر المفسرين - كالفخر الرازي في المتقدمين، وابن عاشور في المتأخرين - هذا القول لما يلزمه من تفكيك النظم الشريف، واستند ابن عاشور أيضا في انكاره إلى أن وجود حرف العطف ينادي على خلافه، وأن قوله: { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ }، مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ } الآية، اللهم إلا أن يكون من الإِظهار في مقام الإِضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي، وأتبع ذلك قوله: والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد، وأي عجب في هذا وقريب منه آنفا قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } خطابا لبني إسرائيل لا محالة".
وقد صدق وأجاد الإِمام ابن عاشور في نفيه العجب عن كون هذا الخطاب لبني اسرائيل، وإنما العجب من التعامي عما دلت عليه الآيتان وغيرهما من أن الكفار مخاطبون بالعبادات وسائر فروع الشريعة خطابهم بأصل الإِيمان، وقد سبق تحرير هذه المسألة في الآية التي استدل بها بما يكشف اللثام عن وجه الحقيقة في المراد بالخطاب.
والتلاؤم بين هذه الآية وسوابقها واضح، فإن الله عز وجل عندما ابتدأ خطاب بني اسرائيل ذكرهم نعمه، وأمرهم أن يوفوا بعهده ليوفي بعهدهم، وطالبهم بالإِيمان بما أنزل مصدقا لما معهم، وحذرهم أن يكونوا أول كافر به، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا، وأمرهم بتقواه، ونهاهم عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، ودعاهم إلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين، ووبخهم على أمر الناس بالبر ونسيان أنفسهم، وهذه المطالب في جملتها شاقة على أمثال بني اسرائيل الذين توارثوا عادات مألوفة، وعقائد معينة تميز الشخصية الإِسرائيلية من بين سائر الناس، ولا ترضى لها التبعية والانقياد مع ما جبلت عليه نفوسهم من الحرص على جمع المال والرغبة في الترقي إلى المناصب العالية، ومما يضاعف المشقة أن النبي الذي طولبوا أن يؤمنوا به ينتمي الى غير أصولهم النسبية، وقد بيّن سبحانه في هذه الآية لهم المخرج من مأزق هذه المشقة وهو استعانتهم بالصبر والصلاة.
وقد سبق تبيان الإِستعانة والصلاة، وأما الصبر فأصله وضعا بمعنى الحبس، يقال صبرته إذا حبسته ومنه القتل صبرا أي في حالة حبس المقتول، ويسمى المحبوس مصبورا، ومنه قول عنترة:

فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

واشتهر في نقيض الجزع والتململ لما فيه من حبس النفس عما جبلت عليه من الاضطراب، وعرف بأنه حبس النفس على ما تكره، واشترط الإِمام محمد عبده أن يكون معه رضى واختيار وتسليم، لأنه لو لم يكن كذلك لكان كما قال الشاعر:

صبرت ولا والله مالي طاقة على الصبر لكني صبرت على الرغم

وما قاله الإِمام إنما هو في الصبر المطلوب شرعا، وهو الذي عرفه الإِمام الغزالي في إحياء علوم الدين بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة، ولا ريب أن الصبر اللغوي أعم منه فإنه قد يكون بباعث الأنفة والكبر، أو بباعث الإِستحياء، أو بسبب ما في طبع النفس من قوة الاحتمال، وأرى أن الصبر الشرعي نفسه هو أعم من تعريف الإِمام الغزالي لأنه قد يكون حيث لا شهوة تقاوم بالباعث الديني، وذلك كالصبر على أذى الناس بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
والصبر محمود بالفطرة، ولذلك اتفق العقلاء على أنه من حميد الخصال، وهو من الأمور الضرورية لكل حي إذ لا بد من مواجهة قساوة الحياة ولأوائها، وحسبنا أن الله ذكره في أكثر من سبعين موضعا في كتابه - كما أفاده الإِمام الغزالي - وجعله من أسباب السلامة من الخسران الذي حكم به على الإِنسان في سورة العصر، وبيّن أجور العاملين في قوله:
{ { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160]، وقوله: { { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة: 261]، بينما قال في الصبر: { { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10]، وأخبر أنه سبب لاصطفاء من يصطفيه للخير من عباده، وذلك في قوله: { { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } [السجدة: 24]، وقوله: { { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } [الأعراف: 137]، بل أخبر أن معيته للصابرين في قوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [البقرة: 153، الأنفال: 46].
وذكر العلماء للصبر أنواعا وهي الصبر على الطاعة، وعن المعصية وعند المصيبة واختلفوا في مراتب فضلها، منهم من قال بأن الأفضل الصبر على الطاعة، ومنهم من قال: إن الأفضل الصبر عن المعصية، ومنهم من قال بفضل الصبر عند المصيبة، وهو بكل أنواعه مطلوب من المؤمن في جميع أحواله، وقد وعد الله عليه المثوبة، فلا داعي إلى طلب الترجيح فيما قالوه من التفضيل، وبالجملة فإن جميع الفضائل مردها إلى الصبر، وقد أجاد العلامة ابن عاشور في إيضاح ذلك حيث قال: "ومعظم الفضائل ملاكها الصبر، إذ الفضائل تنبعث عن مكارم الخلال، والمكارم راجعة إلى قوة الإِرادة، وكبح زمام النفس عن الإِسامة في شهواتها بإرجاع القوتين الشهوية والغضبية عما لا يفيد كمالا أو عما يورث نقصانا، فكان الصبر ملاك الفضائل، فما التحلم والتكرم، والتعلم والتقوى، والشجاعة والعدل، والعمل في الأرض، ونحوها إلا من ضروب الصبر".
وإنما طولبوا بأن يستعينوا على ما أمروا به بالصبر لأن الصبر أعظم وسيلة لهم إلى القدرة على تخطي الحواجر الحائلة بينهم وبين الدخول في الإِسلام وإيمانهم بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام، ومن أهم هذه الحواجز تلك الأنانية المستحكمة في نفوسهم التي جعلتهم ينظرون الى شعوب العالم نظرة المتقزز المستهين، ولا يرون في غير أنفسهم أهلية لقيادة البشر الى مقامات الزلفى من الله سبحانه، وألفتهم التلاعب بآيات الله كما يملي عليهم الهوى وتقتضيه - في نظرهم - مصالحهم، وحرصهم البالغ على جمع الثراء بمختلف وسائل الاستغلال من غير تمييز بين حلالها وحرامها، وغير ذلك مما اعتادوه قرونا حتى صار جزءا من طبيعتهم المألوفة وسمة من سماتهم البارزة، وما أصعب التغلب على العادات عند من لم يتسلح باليقين ويتدرع بالصبر.
وذهب مجاهد إلى أن الصبر هنا بمعنى الصوم، وتابعه عليه من تابعه من المفسرين، وقصارى حجتهم عطف الصلاة عليه، والصلاة أنسب قرنها بالصيام، وهو قول ضعيف وحجة واهية، فإن حصر الصبر في الصوم تقييد لمطلق لفظه في بعض ما يدل عليه، وقد علمتم ضروة التَّقَوّي بالصبر لاحتمال هذه التكاليف، فلا داعي لهذا التقييد الذي لم يصدر إلا عن الوهم، وما أحوج الصلاة نفسها إلى سياح سميك من الصبر يحميها من هجمات العوارض المختلفة نفسية كانت أو فعلية، وأنَّى للمصلي إن لم يكن صبورا على حبس عقله وقلبه، وفكره ووجدانه، وسمعه وبصره، على ما هو مقبل عليه من ذكر الله، ومنع جوارحه عما اعتادته من التلف والحركات.
واذا كانت الصلاة نفسها لا تخلو من الصبر لعدم الوفاء بحقها دونه، فإن عطفها عليه انما هو من باب عطف الخاص على العام، وقد خصصت بالذكر من بين سائر الأعمال المتوقفة على الصبر كالصوم والحج والجهاد لأجل أهميتها، لأنها عمود الدين، ولعمق أثرها في نفوس المصلين، وقد سبق شرح تأثير الصلاة النفسي والإِجتماعي في تفسير بداية هذه السورة، وقدم عليها الصبر لأن مفهومه الأساسي ترك الجزع بينما مدلول الصلاة فعلي، ومن الأمثلة السائرة "التخلي قبل التحلي" أي التخلي عن النقائص والمذام قبل التحلي بالكمالات والمحامد، والإِنسان لا يكون للخير أهلا، وللفضيلة خدنا حتى يتجرد من الشر والرذيلة، والذين فسروا الصبر بالصوم ذهبوا الى أن تقديمه على الصلاة لأن تأثيره في إزالة ما لا ينبغي وتأثيرها في حصول ما ينبغي - وهي عين المناسبة المذكورة من قبل - ولأن في هذا الترتيب ترقيا من الكامل إلى الأكمل وتدرجا من الشاق إلى الأشق، فإن الصوم إن توقف على الصبر لأجل منع النفس فيه عن شهوة الأكل، وشهوة الشرب وشهوة الوقاع، فإن الصلاة أدعى إليه لضرورة الإِمتناع فيها من جميع الشهوات كإرسال النظر وإصغاء السمع وإطلاق الفكر وتحريك الجوارح، ولذلك كانت أقوى العوامل في إمداد النفس بالطاقات على احتمال التكاليف، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى الصلاة إذا ما ضاقت عليه حلقات الأحداث. أخرج أحمد وأبوداود وابن جرير عن حذيفة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم اذا حز به أمر فزع الى الصلاة، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كانوا - يعني الأنبياء - يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة" وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم اذا كدرت المصائب والأحداث صفاء نفوسهم أسرعوا الى هذا النبع الفياض فغسلوا به أكدارهم، ونقوا به فطرتهم، روى سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان في سفر فنعى اليه أخوه قثم فتنحى جانبا عن الطريق واسترجع وصلى ركعتي ثم أقبل على راحلته وهو يتلو: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ }، وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإِيمان أنه - رضي الله عنه - نعى اليه ابن له وهو في مسير فنزل فصلى ركعتين ثم قال: فعلنا كما أمرنا الله، فقال: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ }، وذكر بعضهم أن المنعى إليه ابنته، وقد روى مثل ذلك عن غيره من الصحابة كما روي عن جماعة من التابعين؛ ويفهم من ذلك أن السلف فهموا أن الخطاب غير قاصر على بني اسرائيل من حيث المعنى والطلب وإن يكن من حيث اللفظ مسوقا إليهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الصبر هنا هو الصبر على أعمال الصلاة ومطالبها، واستدل لقوله بقوله تعالى:
{ { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132] وهو رأي واهٍ لأن ما استدل به لا ينافي طلب الصبر في مطلق الحالات وعلى كل التكاليف، وفسر آخرون الصلاة هنا بالدعاء مع حمل الصبر على مفهومه العام، وعلى هذا فالآية من باب قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } [الأنفال: 45]، لأن الثبات من الصبر والدعاء من جملة الذكر، وأنتم تعلمون أن حمل الألفاظ الشرعية في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على معانيها اللغوية التي نقلها الشرع عنها لا يصار إليه إلا بدليل، فحمل الصلاة هنا على الدعاء لا داعي إليه لا سيما وأن الأدلة ظاهرة - من الشرع والواقع - على أن الصلاة من أهم العوامل في الثبات على الخير والتجرد عن ضده.
واختلف في الضمير من قوله: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } فقيل هو عائد إلى الصلاة لأنه أقرب مذكور، وبه قال جماعة منهم القطب في الهيميان والتيسير، وقيل: عائد إلى الصبر والصلاة معا، وإنما أفرد وأنث رعاية للأغلب وهو الصلاة، ونحوه قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34] حيث أعيد الضمير إلى الفضة لأنها الأغلب في التداول عند العرب آنذاك، وقوله: { { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] إذ أعيد الضمير إلى التجارة لأنها الأفضل والأهم، وقيل لما كانت الصلاة نفسها مشتملة على الصبر أعيد إليها الضمير لفظا مع قصدهما معا، ونحوه قوله عز وجل: { { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62] حيث أفرد الضمير - مع أن معاده إليهما - لدخول رضى الرسول في رضى الله، ومنه قول الشاعر:

إن شرخ الشباب والشعر الأسو ما لم يعاص كان جنونا

والأصل يعاصيا ولكنه أعاد الضمير إلى شرخ الشباب لدخول سواد الشعر فيه، وقيل: هو من باب الإِكتفاء نحو قوله تعالى: { { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [المؤمنون: 50]، وهما آيتان، وكذا قول الشاعر:

فإني وقيار بها لغريب

وقول آخر:

والصبح والمسمى لا فلاح معه

والأصل لغريبان، ومعهما؛ وقيل: عائد إلى العبادة المفهومة من ذكر الصبر والصلاة، وجوز الزمخشري عوده إلى جميع المأمورات المتقدمة من قوله: { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } إلى قوله: { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ }، قال ابن عاشور: "ولعله من مبتكراته وهذا أوضح الأقوال وأجمعها، والمحامل مرادة"، وقيل بعوده الى الإِستعانة التي يقتضيها قوله: { وَٱسْتَعِينُواْ } على حد قوله تعالى: { { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [المائدة: 8]، وثم أقوال أخرى هي من الضعف بمكان لا أجد داعيا الى ذكرها، والمتبادر هو الرأي الأول وكفى بالتبادر شاهدا.
ويطلق الكبير على الشاق لأن احتمال الكبير أشق على النفس من احتمال الصغير سواء كان الكبر حسيا أو معنويا، ومن هذا الباب قوله تعالى:
{ { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [الشورى: 13]، وقوله: { { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } [الأنعام: 35]، وهذا هو المعنى المراد هنا، وإنما شقت الصلاة على غير الخاشعين لما تستلزمه من حبس المصلي ظاهره وباطنه عن الالتفات إلى غير ما هو مقبل عليه وتقييد الجوارح عن حركاتها المألوفة، فهي عبادة يشترك فيها الجسم والروح، والعقل والقلب، ولا تدع مجالا للإِشتغال بغيرها حال أدائها.
والخشوع لغة التطامن والانخفاض، يقال خشعت الرملة إذا تطامنت، وخشع الجدار إذا نزل، ومنه قول الشاعر:

ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع....

والخشوع الشرعي هو تذليل النفس لله تعالى وحبسها عن التمرد على طاعته والعصيان لأوامره ونواهيه مع استشعارها عظمته التي لا تكتنه، وكبرياءه التي لا تحد، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما الخاشعين بالمصدقين، ومجاهد بالمؤمنين، وأبو العالية بالخائفين، ومقاتل بالمتواضعين، والضحاك بالخاضعين لطاعته، الخائفين سطوته، المصدقين بوعده ووعيده، وأغلب هذه التفاسير من باب تفسير الشيء بلوازمه، وروى عن سفيان الثوري أنه قال: سألت الأعمش عن الخشوع، فقال: يا ثوري أتريد أن تكون إماما وأنت لا تعرف الخشوع؟ سألت ابراهيم النخعي عنه، فقال: يا أعيمش أتريد أن تكون إماما وأنت لا تعرف الخشوع؟
ليس الخشوع بأكل الخشن، ولبس الخشن، وتطأطؤ الرأس لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك.
وإنما لم تشق الصلاة على الخاشعين لأنهم يباشرونها وضمائرهم مرتاحة ونفوسهم مشتاقة إلى مناجاة المحبوب والتقرب إليه في مقامات الزلفى، فيجدون فيها من اللذة ما لا يجده أهل الدنيا في أبهج أوقاتهم وأعظم ملاذهم، وإذا كان من شأن عامة الناس أن يحسوا بارتياح نفسي عندما يتقربون إلى ملوك الدنيا ويجالسونهم ويسمعون أحاديثهم، فما بالكم بأهل الله وخاصته عندما يتمتعون بلذيذ مناجاته ويرجون مع ذلك كريم وعده ويتقون أليم وعيده.
وقد وصف الله الخاشعين بقوله: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 46].
أصل الظن الوقوف بين طرفي الأمر سلبا وإيجابا مع ترجيح أحدهما، ومن حيث إن اليوم الآخر لا مساغ للشك فيه والإِيمان به أحد ركائز العقيدة في الإِسلام، فسر أكثر السلف والخلف الظن هنا باليقين، واستدلوا له بقوله تعالى:
{ { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]، فإن المقام مقام يقين وليس مقام تردد، وقوله عز من قائل حكاية لما يقوله الفائز يوم الحساب: { { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] فإنه كان على يقين من ذلك، كما استدلوا له بقول دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم بالفارسي المسرد

وقول آخر:

فأرستله مستيقن الظن أنه مخالط ما بين الشراسيف جائف

وذكر ابن عطية أن الظن يكون بمعنى اليقين فيما لم يكن محسوسا، فلا يقال في رجل مَرئيٍ حاضر أظن هذا إنسانا وإنما يستعمل كذلك فيما لم يخرج إلى الحس بعد. وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن كل ظن في القرآن فهو يقين، وأقر ذلك جماعة من المفسرين منهم ابن جرير وابن كثير، ورده الشوكاني بأن ذلك متعذر في نحو قوله: { { وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [النجم: 28]، وقوله: { { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات: 12]، إلا أن يحمل ذلك على الظن المتعلق بأمور الآخرة وهو مقتضى ما رواه ابن جرير عن قتادة.
وأبقى جماعة من أهل التفسير ظن هنا على بابها، وحمل ذلك على كونهم يلحظون دائما من أنفسهم التقصير في ذات الحق تعالى، فيظنون أنهم سوف يلاقونه بأوزارهم وهو ما يزيد قلوبهم وجلا ونفوسهم خشوعا، وخلاصة ذلك أنهم لا يأمنون سوء الخاتمة مع مراعاتهم عظم المقام وكثرة التقصير، واختار الإِمام محمد عبده أن التعبير بالظن دون اليقين هنا لإِفادة التقريع والتوبيخ لأولئك الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، ونص كلامه - حسبما في المنار - "الإِيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يوقف المعتقد عند حدوده ولو لم يكن الاعتقاد يقينيا فإن الذي يغلب على ظنه أن هذا الشيء ضار يجتنبه أو أنه نافع يطلبه، ولذلك اكتفي هنا بذكر الظن، وقد فسر الظن مفسرنا (الجلال) باليقين لأنه الإِعتقاد المنجي في الآخرة، وفاته أن الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يقرأون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط".
ولقاء ربهم يراد به الحشر إليه للحساب، والرجوع إليه، والإِنقلاب إلى ما أعده للناس من ثواب أو عقاب، وفسر بعضهم الرجوع بالموت واللقاء بالحشر أو الجزاء، ويضعف تفسير الرجوع بالموت ذكره بعد ذكر الإِماتة في قوله:
{ { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم: 40] { { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11]، وأولى ما يفسر به القرآن القرآن نفسه.
وحمل بعضهم المفاعلة المفهومة من قوله { مُّلاَقُوهُ } على أنها فعل واحد وهو معروف وضعا، ومنه عافاك الله، وقاتله الله، ورده ابن عطية بأن لقى يتضمن معنى لاقى وليست كذلك الأفعال كلها بل فعل خلاف فاعل في المعنى.
وقد فصل ما أجملته عبارته أبو حيان بقوله: "إن مادة لقى تتضمن معنى الملاقاة بمعنى أن وضع هذا الفعل سواء كان مجردا أو على فاعل معناه واحد من حيث إن مَن لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادته يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد... الخ".
واستدل بعض القائلين بجواز الرؤية على الله - تعالى الله عن ذلك - بهذه الآية على معتقده، وحمل اللقاء على الرؤية المدعاة، وأجيب بأن تفسير اللقاء بالرؤية ليس له أساس من الوضع اللغوي ولا الإِصطلاح الشرعي، فالأعمى مثلا يقول لقيت فلانا إذا حضر عنده مع كونه غير راء له، وفي القرآن ما ينقض هذا الزعم لكثرة ورود اللقاء فيه لغير معنى الرؤية من ذلك قوله تعالى:
{ { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة: 77]، ومدعو الرؤية يزعمون أنها شرف يخص الله به المؤمنين وليس للمنافقين منه نصيب، وقوله عز من قال: { { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } [البقرة: 223] مع أن الخطاب ليس للمؤمنين وحدهم، وقوله: { { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان: 68]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان" والرؤية المزعومة تتناسب مع الرضى والرحمة، لا مع الغضب والعذاب، وشاع على ألسنة المسلمين - بل وسائر المتدينين - قولهم في من مات لقى الله ولا يعنون بذلك رؤيته وكثيرا ما يقول القائل لقيت من هذا الأمر جهدا، إذا تكلفه مع أن الرؤية هنا متعذرة، ومثل ذلك في قولهم لاقى الحمام، ومع دحض هذا الجواب لكل شبهة في الموضوع تكلف الفخر الرازي رده متشبثا بما هو أوهى من نسخ العنكبوت.
وحاصل كلامه أن الملاقاة لغة عبارة عن اتصال الجسمين بالتماس، ولما كان الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإِدراك فحيث امتنعت المماسة وجب حمله على الادارك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمل لفظ اللقاء على الإِدراك، وخروج بعض الصور لدليل خاص عما تقتضيه هذه القاعدة غير قادح، فبما أن المنافق لا يرى ربه حمل قوله تعالى:
{ { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة: 77] على لقاء حسابه وحكمة للضرورة الداعية الى ذلك، وبما أن هذا الإِضمار على خلاف الدليل لا يصار إليه إلا مع الضرورة، ولا ضرورة في قوله: (أنهم ملاقوا ربهم) حتى يصرف اللفظ عن ظاهره أو تضمر هذه الزيادة.
وما أعجب صدور هذه السفسطة من مثل الفخر الرازي على علو كعبه ورسوخ قدمه في العلم، ولكن الهوى يعمى ويصم، وأعجب ما في الأمر الاجتراء البين على تفسيره لقاء الله بإدراكه مع توفر الأدلة العقلية والنقلية على استحالة إدارك ذات الله سبحانه، وكفى بقوله عز وجل:
{ { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَارَ } [الأنعام: 103] نصا صريحا في الموضوع، وإذا لم تكن في ذلك حجة فليس يصح في الأذهان شيء، وتتابع التعبير بلقاء الله في مواضع مختلفة من الكتاب، حيث لا يجوز تفسيره بالرؤية عند الجميع دليل قاطع على أن له معنى سوى الرؤية، وهو لقاء الحكم أو الجزاء وحمله على هذا المعنى هو المتعين لاتفاقه مع دلائل العقل والنقل.