التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ
٤٨
-البقرة

جواهر التفسير

تحذير إثر التذكير بنعم الله سبحانه التي أسبغها على بني اسرائيل، وهذا لأن تلك النعمة - ومن بينها تفضيلهم على العالمين بما جعل فيهم من النبوات وأكرمهم به من خوارق العادات - كانت مصدر غرورهم، وسبب استهتارهم، فبدلا من أن يكونوا لها شاكرين كانوا بها كافرين، فلقد تلونت ضلالالتهم، وتنوعت مفاسدهم، وأصروا على غيهم، واستكبروا استكبارا، وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه فلن يمسهم عذابه، لأن شفقة الأبوة على البنوة ستقيهم شر الوعيد، ولئن مسهم العذاب فلن يكون ذلك إلا أياما معدودات، لأن آباءهم من النبيين الطاهرين لن يقر لهم قرار حتى يشفعوا لهم عند الله فيجيرهم مما هم فيه من العذاب، ولن يسكتوا عن أفلاذ أكبادهم وهم يصطلون السعير الدائم، إلى غير ذلك مما نسجته أخيلتهم المريضة من الهراء الذي ليس له حظ من الصدق، وفد جاءت هذه الآية قاطعة حبال هذه الأمنيات الباطلة والمطامع الفازعة، وقد أعيدت مع الفارق اليسير في التعبير في (123) من آيات هذه السورة، والآيتان الكريمتان كاشفتان لحال ذلك اليوم، فكل ما يغني في هذه الدنيا من الشفاعات والفدى لا يغني في ذلك اليوم شيئا، وقد جاء وصفه في معرض التحذير منه في آيات متعددة من سور مختلفة، من ذلك قوله سبحانه: { { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [البقرة: 281]، وقوله: { { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [لقمان: 33]، وقوله: { { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34-37]، وقوله: { { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 17-19]، واذا كان التحذير منه في هذه الآية ومثيلتها خاصا ببني إسرائيل، وفي سائر الآيات التي أوردناها شاملا لعموم الناس، فإن المؤمنين أيضا قد خصوا بالتحذير منه في قوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254]، وهو دليل على أن ما ذكر من صفته ليس خاصا بأحد دون غيره أو طائفة دون أخرى من الناس، فجميع الناس تنحل يومئذ روابطهم النسبية والسببية وإنما تبقى رابطة واحدة فحسب تشد بعض أهلها الى بعض، وهي رابطة التقوى، يقول الله عز من قائل: { { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101]، ويقول: { { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]، وهو يعني أن لا جدوى إلا من التقوى، فلا أنساب ولا أسباب، ولا شفاعة ولا فدية.
ومعنى الاتقاء معلوم مما سبق في بيان التقوى اللغوي والشرعي، واتقاء ذلك اليوم بالمعنى الحقيقي متعذر فإنه يوم يغشى جميع الناس أبرارا وفجارا، سعداء وأشقياء، فلا ملجأ للإِنسان منه، وإنما اتقاؤه هو اتقاء ما يسبب العطب فيه، وذلك لا يكون إلا بالمداومة على الأعمال الصالحة الواقية من شره، والابتعاد عن سيئات الأعمال الموقعة في عذابه.
وهذا اليوم هو المعبر عنه بيوم الدين، ويوم القيامة، واليوم الآخر، وهو يبدأ بالبعث ولا نهاية له، وما ذكر هنا من وصفه ينطبق على جميع مواقفه حتى يستقر السعداء في دار قرارهم وهي الجنة، والأشقياء في مستقرهم الأبدي وهو النار.
والقراءة المشهورة بفتح التاء من (تجزى)، وقرئ بضمها في الشواذ، والمراد بالجزاء هنا القضاء، وذلك مما شهر على ألسنة العرب، ومنه ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نساءه أن يجزين بعد الحيض أي يقضين صومهن، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام لأبي بردة في جذعته: "تجزيك ولا تجزى أحدا بعدك"، وهو يتفق مع تفسيره بيغني فإن المؤدى واحد والمراد أن أي نفس لن تقضي يومئذ شيئا عن غيرها.
والشفاعة هي توسط أحد بين ذي حق ومن عليه الحق لعفو ذي الحق عن حقه، سواء كان الحق عينيا أم اعتباريا وهي تنبئ عن مكانه الشافع لدى المشفوع اليه، وتعود ثمرتها إلى المشفوع له، وهي مأخوذة من الشفع ضد الفرد لأن المستشفع بغيره إنما استكثر به لدى المشفوع لديه، فإذا ضم صوته إلى صوته كان شفعا بعد أن كان المشفوع له فردا.
والعدل الفدية وأصله ما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه، وأما العِدل "بالكسر" فهو ما يساويه من جنسه وفي جرمه.
وأصل النصر المعونة، ومنه الأرض المنصورة، أي الممدودة بالمطر، والمراد به هنا دفع الضرر، والضمير هنا - كسابقيه في قوله: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } - عائد إلى ما دلت عليه لفظة "نفس" الثانية وانما جمع لكون نفس نكرة في سياق النفي، والنكرات المنفية للعموم، وذُكِّر لأنه بمعنى العباد أو الأناسي وانما كانت هذه الضمائر عائدة إلى "نفس" الثانية دون الأولى لأنها هي المقصودة بالتحذير والإِنذار، ومعنى ذلك أن النفس العاصية لا تجد يومئذ نفسا أخرى تقضي عنها شيئا، ولو وجدتها لم يقبل منها قضاؤها، ولو جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها، وكذلك لو ما جاءت بعدل يفديها ثم لو التمست نصيرا يحميها من عذاب الله لم تجده، وقيل: إن الضميرين السابقين عائدان إلى نفس الأولى بخلاف هذا الضمير الأخير، ومعنى ذلك أن تلك النفس - كما أنها لا يقبل قضاؤها عن النفس العاصية - فكذا لا تقبل شفاعتها لها، ولا فديتها عنها، واعتمد هذا القول القطب -رحمه الله - في الهيميان، واستدل له بكون النفس الأولى هي العمدة والثانية فضلة، والأصل أن يعود الضمير الى العمدة دون الفضلات، وذهب في التيسير الى أن الضمير الأول للأولى والثاني للثانية، وسوغ ذلك في الهيميان كما سوغ عودهما معا إلى النفس الثانية للتناسب مع قوله: (لا ينصرون)؛ وجوز ابن عطية عود الضمير الى في قوله: (لا ينصرون) على النفسين المتقدم ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس وهو جمع، وأنكر الألوسي الوجه الأول ووصفه بأنه ليس بشيء، كما ضعفه قطب الأئمة لاختصاصه بكون النفسين مشركتين أو فاسقتين أو فاسقة ومشركة، ثم قال لكن له وجه هو أن يكون المعنى أن الأخلاء على المعصية مع حب بعضهم لبعض في الدنيا لا ينصر بعضهم بعضا ولا ينصرهم المؤمنون، وأضاف إلى ذلك قوله: "والأولى إبقاء النفس على عمومها في المطيع والعاصي وعود الضمير في: ولا هم ينصرون للعصاة".
وفي هذه التوجيه بعد وتكلف كأول توجيهي ابن عطية، وإنما يسوغ عوده على النفسين باعتبار ما في كل منهما من الدلالة العمومية، وحمل النصرعلى التوفيق لبلوغ المراد، فالنفس الأولى لا تبلغ مرادها في جدوى جزائها أو شفاعتها أو فديتها، كما أن النفس الثانية ليست ببالغة أمنيتها من إجداء ذلك لها ودرء العذاب عنها.
وفسر بعضهم النصر هنا بالانتقام كالذي في قوله:
{ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [الأنبياء: 77]، وتوجيه هذا التفسير أنهم لا ينتقم لهم من الله - تعالى الله - للإِثآر لهم مما أنزل بهم من العذاب.
وما ذكر هنا من عدم جزاء نفس عن نفس شيئا في ذلك اليوم.. الخ جاء منسقا حسبما عهد في هذه الدنيا من طرق الدفع عن الحميم عندما تنزل به كريهة من عدو قاهر فإن أول ما يبدأ به ذوو مودته أن يدفعوا عنه بما لهم من جاه ومكانه اجتماعية تجعل ذا القهر يتراجع عما كان ينويه بحميمهم، فإن لم يجدهم ذلك توسلوا إليه بلين القول ولطف الشفاعة ليسخُو بالعفو مع قدرته على العقاب، فإن سُدَّ في وجوههم هذا الباب جادوا بالمال وبذلوا الفدية، فإن تعذر ذلك كله لجأوا الى التحالف على النصرة والتوسل بالعنف إلى ما لم يجدِ فيه اللطف، وقد آيس الله المجرمين من جدوى آية وسيلة من هذه الوسائل في تخليصهم من عقابه بعد أن تحق عليهم كلمته.
وقُدم في هذه الآية نفي قبول الشفاعة على نفي أخذ الفيدة بخلاف آية (123) وذلك قوله:
{ { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } وهذا الاختلاف في التعبير، انما هو بحسب اختلاف طبائع الناس في هذه الدنيا، فإن منهم من يكون أحرص على سلامة المال، ومنهم من يكون أحرص على استبقاء علو النفس والمحافظة على شرفها: فالصنف الأول يؤثرون التوسل بالشفاعات - في التخلص من المكاره - على بذل المال، والصنف الثاني يعدون المال فدية للشرف فيحرصون على عدم الضاراعة وطلب العفو المحض ما دام بذل المال يسد مسد ذلك، أفاد ذلك الفخر الرازي.
وجملة { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } صفة ليوم، والضمير العائد إلى الموصوف محذوف تقديره فيه، وقدره آخرون بدون الجار نظرا إلى أن الضمائر الرابطة بين الصفة والموصوف أو الصلة والموصول أكثر ما عهد حذفها إذا كانت منصوبة، وعليه، فقد حذف أولا الحرف الجار فانتصب الضمير واتصل بالفعل فعومل معاملة الضمائر المنصوبة في الحذف.
عدم جدوى الشفاعة لغير الصَّالحين
وهذه الآية - كما ترون - قاضية بعدم قبول الشفاعة يومئذ وهو الذي تقتضيه أختها آية (123) وإن عبر فيها بـ "لا تنفعها شفاعة" لأن النفع ثمرة القبول ولازمه، فلو قبلت نفعت، كما أنها اذا لم تقبل لم تنفع، وهذه كلية من كليات العقيدة الإِسلامية الحقة جاء بها القرآن في آيات متعددة ليثبت أن الإِنسان يومئذ رهين عمله ولن يجني إلا ما زرع، وهو بذلك يقطع حبال الآمال على الكسالى الذين يمنون أنفسهم الجني من غير غرس، والراحة من غير نصب فيعطون أنفسهم هواها، فلا يصدونها عن حرمة، ولا يكلفونها واجبا آملين السعادة بشفاعة الشافعين، وبمجرد الانتماء الى الدين، وإن لم يكن له شيء مما يصدقه مما يعملون، وعقيدة الإِسلام التي جاء بها القرآن والسنة الصحيحة الثابتة إنما تقوم على اعتبار استقلال كل فرد في التكليف، فلا ينفع فاسدا صلاح غيره، كما لا يضر صالحا فساد سواه، ومن هنا كان كل أحد مطالبا بإصلاح نفسه، وتقويم انحرافها، وحملها على الخير والنأى بها عن الشر، وإلا فلا يلومن غيره فإنه هو الذي جنى عليها، وبمجرد نظرة يلقيها اللبيب على آي القرآن الكريم يجد هذه الكلية الاعتقادية السليمة جلية بارزة، ومن أمثلة الآيات التي جاءت بها قوله تعالى:
{ { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [النساء: 123]، وهذا خطاب لهذه الأمة، والسوء على اطلاقه فإنه نكرة في معرض الشرط، وقوله سبحانه: { { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل: 89-90]، وقوله: { { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [الأنعام: 160].
أما الشفاعة فقد ذكرت تارة بالنفي المطلق، كما في قوله تعالى:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254]، والخطاب للمؤمنين كما ترون، وتارة بنفي قبولها ونفعها كما في هذه الآية ونظيرتها المشار إليها من قبل، وتارة مقيدة بإذنه تعالى كما في قوله: { { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وتارة مخصوصة بالرضى وذلك قوله عز من قائل: { { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28]، وتارة منفية عن الظالمين والمجرمين كما في قوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]، وقوله حكاية عن أهل النار: { { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } [الشعراء: 100]، ولا تنافي بين هذه الآيات فإنها عندما تنفي الشفاعة أو تنفي منفعتها أو قبولها لا تكون إلا واردة مورد التحذير من فعل محظور أو التقصير في واجب، وهو لا ينافي أن ينفع الله بالشفاعة عباده المرتضين التائبين مما قارفوا من السيئات.
وقد يعترض بأن التوبة نفسها مكفرة للذنوب فلا أثر للشفاعة معها؛ والجواب أن التوبة وإن كانت مكفرة بفضل الله ورحمته فإن مما تقتضيه توبة التائب استحقاق شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيشفع له عليه أفضل الصلاة والسلام، فيتقبل الله توبته ويكفر سيئته، وقد تكون الشفاعة سببا في رفع منازل الصالحين عند الله يوم القيامة، وقد جاء في حديث جابر بن زيد عند الربيع رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا بعمل صالح وبرحمة الله وبشفاعتي" فكما أن العمل الصالح يتوقف في اسعاد صاحبه على رحمة الله تعالى، فهو أيضا يتوقف على حصول الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من أسباب قبوله.
وذكر صاحب المنار أن الناس اختلفوا في أمر الشفاعة نظرا إلى ما تفيده بعض النصوص القرآنية من نفيها، وما جاء في بعضها من الاستثناء كقوله: { إِلاَّ بِإِذْنِهِ }، وقوله: { إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ }، فمن الناس من يحكم الثاني بالأول، ومنهم من يرى أنه لا منافاة بينهما، فنحتاج الى حمل أحدهما على الآخر لأن مثل هذا الاستثناء (أي الاستثناء بالإِذن والمشيئة)، معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإِشعار بأن ذلك بإذنه ومشيئته عز وجل، كقوله تعالى:
{ { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [الأعلى: 6-7]، وقوله: { { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [هود: 107]، فليس في القرآن نص قطعي في وقوع الشفاعة ولكن ورد الحديث بإثباتها فما معناها؟
الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك كان أراد غيره حكم به أم لا، فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك الإِرادة وفسخها لأجل الشفيع، فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به، وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب منه على العدالة، وكل من النوعين محال على الله تعالى لأنه ارادته تعالى على حسب علمه، وعلمه أزلي لا يتغير.
وبعد هذا التحرير في أصل الشفاعة نقل عن شيخه الإِمام محمد عبده قوله: "فما ورد في اثبات الشفاعة يكون على هذا من المتشابهات وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم وأنها مزية يختص بها الله من يشاء يوم القيامة، عُبر عنها بهذه العبارة (الشفاعة) ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي".
وأما مذهب الخلف في التأويل فلنا أن نحمل الشفاعة فيه على أنها دعاء يستجيبه الله تعالى والأحاديث الواردة في الشفاعة تدل على هذا، ففي رواية الصحيحين وغيرهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم يسجد يوم القيامة ويثني على الله بثناء يلهمه يومئذ فيقال له ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع"، وليس في الشفاعة بهذا المعنى أن الله سبحانه يرجع عن ارادة كان أرادها لأجل الشافع وإنما هي إظهار كرامة الشافع بتنفيذ الإِرادة الأزلية عقب دعائه، وليس فيها أيضا ما يقوي غرور المغرورين الذين يتهاونون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على شفاعة الشافعين، بل فيه أن الأمر كله لله، وأنه لا ينفع أحد في الآخرة إلا طاعته ورضاه،
{ { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [المدثر: 48 - 49]، { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28].
ولا إشكال في ثبوت الشفاعة المشار إليها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تنافي كون الله تعالى لا تبديل لكلماته، ولا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وإنما هي كما قيل دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف العظيم الذي تتقطع فيه الألسن عن ذكر ما يعني الغير، ولا تشتغل فيه القلوب إلا بما يهم أصحابها، وفي استجابة الله تعالى لدعائه عليه أفضل الصلاة والسلام دلالة على مكانته عنده وعنوان على قدره بين الناس.
هذا وقد ذكر الأستاذ الإِمام أن اليهود الذين خوطبوا ببيان هذه الحقيقة كانوا - كغيرهم من أهل الجاهلية وأهل الملل الوثنية كقدماء المصريين واليونان - يقيسون أمور الآخرة على أمور الدنيا فيتوهمون أنه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلا وجزاء عنه - كما يستبدل بعض حكامهم منفعة مالية بعقوبة بدنية - أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته، ثم ذكر أن الإِسلام اكتسح هذه العقائد وآثارها العملية بالتوحيد الخالص وأتى بنيانها من القواعد، ولكن المسلمين لم يسلموا منها فقد دخل في الإِسلام أقوام يحملون أوزارا مما كانوا عليه من الوثنية، ولم يلقنوا الدين من القرآن، ولا كما أرشد القرآن، ولكنهم تقلدوه ممن لا يعرفه حق المعرفة، ولُقنوه كما ترشد اليه كتب التقليد من مصطلحات مبتدعة، فكانوا على بقية مما كان عندهم وعلى جهل بالإِسلام، وجاء قوم آخرون تعمدوا الإِفساد فجعلوا بالتأويل الباطل حقا والكذب صدقا.
وبعد أن ذكر بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين عطف العنان إلى ما كان اليهود يعتقدونه مكفرات كقربان الإِثم، وقربان الخطئية وقربان السلامة، والمحرقة، والإِكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه. وقال: وكانوا يفهمون أن هذه الأشياء تكفر الذنوب بذاتها، والحق أنها عقوبات لا مكفرات ومن فهم التوراة حق فهمها يعلم أن المكفر الحقيقي هو التوبة والإِقلاع عن الذنب، وإنما تقديم القربان يكون تربية وعقوبة.
ومن الظاهر لمن تدبر كلامه أنه يرى أن اعتقاد الشفاعة لمن مات مصرا على الكبيرة غير تائب منها من المعتقدات التي سرت الى هذه الأمة من معتقدات الأمم الأخرى الذين كانوا يسوغون لأنفسهم ارتكاب الموبقات، والإِنغماس في أنواع الخطايا، ويمنون أنفسهم الفوز والسعادة بشفاعة الشفعاء، غير ملتفتين إلى وعيد الله تعالى.
القائلون بانتفاع أهل الكبائر بالشفاعة
وقد قال بثبوت الشفاعة لأهل الكبائر من هذه الأمة المرجئة والأشعرية والحشوية ومن حذا حذوهم، غير أنهم اختلفوا، فالمرجئة يرون أن المعصية لا تضر مع سلامة الاعتقاد أيا كانت بناء على أصلهم المشهور أن الإِيمان قول بلا عمل، وأما الأشعرية والحشوية ومن حذا حذوهم فعندهم أن صاحب الكبيرة إما أن يعفو الله عنه أو يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم من العقاب رأسا، وإما أن يُدخل النار بقدر ما يصفى من أكدار الخطايا ثم ينقل عنها إلى الجنة بعفو الله أو مع شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يخلد عندهم موحد في النار.
وذهب أهل الحل والاستقامة إلى أن من أصر على الكبيرة حتى مات عليها لا تجديه شفاعة أحد وأنه يصلى النار خالدا فيها، ووافقهم على ذلك المعتزلة والزيدية والخوارج، غير أن الخوارج لا يفرقون بين كبيرة الشرك وكبيرة الفسق، فكل صاحب كبيرة عندهم مشرك.
واستدل أصحابنا ومن وافقهم بهذه الآية وأمثالها، ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه تعالى نفى فيها قبول الشفاعة من أحد لأحد ولو قُبلت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لذي كبيرة انتقض هذا المدلول المستفاد من هذا النص ويؤيد ذلك ما تقدمه من نفي جزاء نفس عن نفس شيئا، وما تبعه من قوله: { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }، إذ لو شفع صلى الله عليه وسلم لأحد من أولي الكبائر المستحقين لعقاب الله لكانت نفس جازية عن نفس وناصرة لها.
وأجاب من خالفهم بأن الخطاب في الآية لليهود فلا يدخل في وعيده المسلمون، وبأن الآية كما خصصت - باتفاق الكل - بجواز شفاعته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في رفع درجاتهم عند الله لا يمنع تخصيصها بتجويز شفاعته عليه أفضل الصلاة والسلام لأهل الكبائر من أمته وإن ماتوا مصرين عليها.
والجواب عن الأول بأن كون الخطاب في الآية لليهود لا يقضي بأن ما ذكر فيها من صفة ذلك اليوم لا يشمل غيرهم فإنهم حُذروا يوما ذلك شأنه عندهم وعند غيرهم، ولو خصص ما جاء في وصفه بهم لم يدخل في وعيده المشركون والملاحدة، وهو مما أُجمع على خلافه، واذا كان التحذير من شر ذلك اليوم في هذه الآية موجها إلى اليهود، فقد وُجه نظيره إلى المؤمنين في قوله عز من قائل:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254]، فلو كان تحذير أحد من أمر يعني خصوصيته بذلك المحذر منه لكانت هذه الآية دليلا على خصوصية عدم البيع والخلة والشفاعة في ذلك اليوم بالمؤمنين.
ومما يدعو إلى الاستغراب التناقض الغريب بين كلامي الفخر الرازي فهذا الموضوع، فبينما نجده يقول: "إن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الانسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة، فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة، ومن فوت التوبة من حيث أنه لا يقين له في البقاء صار حذرا خائفا في كل حال، والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم".
إذا به يجادل بغير هدى من الله مدعيا أن نفي الشفاعة خاص بغير المؤمنين وأعجب من ذلك دعواه أن قوله تعالى:
{ { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [البقرة: 254]، محمول كذلك على هذه الخصوصية، متعاميا عن افتتحاه بـ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ... }، وقد كان الجدير بأمثاله من أولي الأقدام الراسخة في العلم والفهم أن لا ينثنوا عن الحقيقة إلى الوهم وأن يترفعوا عن التعصب إلا للدليل نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
والجواب عن الثاني أن ما ذكروه من ثبوت شفاعته صلى الله عليه وسلم الرافعة لدرجات المؤمنين لا يتعارض مع ما دلت عليه هذه الآية حتى يُعد مخصصا لها فإن ذلك إنما هو في قوم وفّوا بما عليهم من الواجب واحترزوا من المهلكات وتداركوا أمرهم بالتوبة والإِفلاع عن مساخط الله تعالى، فليست الشفاعة دارئة عنهم عقابا استحقوه، وإنما غاية ما في الشفاعة لهم طلب أن يزيدهم الله فضلا على فضله الذي آتاهم من قبل أما هذه الآية وأمثالها فهي ناصة على أن كل أحد مجزى بحسب ما عمل، فلا تدرأ الشفاعة عن أحد عقابا استحقه، ولذلك صدرت بالأمر باتقاء ذلك اليوم.
هذا وأجاب صاحب الانتصاف - منتصرا للقول بثبوت الشفاعة لأهل الكبائر - بأن ليس في الآية دليل لمنكريها لأن قوله "يوما" أخرجه منكرا ولا شك أن في القيامة مواطن ويومها معدودة بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زمانا للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى:
{ { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون: 101]، مع قوله: { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27، الطور: 25]، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين متغايرين أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلا له، وكذلك الشفاعة.
وقد أُعجب بهذا الجواب كثيرة من المفسرين وعدوه حجة ساطعة تتلاشى أمامها شبهات المعاندين، وما هو - لعمري - إلا
{ { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور: 39]، فيوم القيامة يوم واحد إذ لا يعقب نهاره ليل ولم يأت أبدا في الكتاب والسنة ما يدل على أنه أيام متعددة.
ولو كان - كما قال - أياما منها ما تقبل فيه الشفاعة، ومنها ما لا تقبل لما كان لهذا التحذير في هذه الآية وأمثالها معنى لطمأنينة كل أحد أنه إذا لم يدرك الشفاعة في يوم أدركها في آخر، فلم القلق الحذر؟ ونحن نسلم أن ذلك اليوم تتعدد فيه المواقف ولكن لا نسلم أن موقفا من تلك المواقف يكون فيه ما نفاه الله عنه من جدوى الشفاعة لمن لم يعمل صالحا، ولو كان الأمر كما قال لزم أيضا جزاء نفس عن نفس وقبول العدل عنها ونصرتها على باطلها في بعض تلك المواقف كما جاز حصول الشفاعة المنفية مع هذه الأمور وجدواها للفساق في بعض مواقف ذلك اليوم.
أما ما استدل به من نفي التساؤل وإثباته فهو لا يدل بحال على مدعاه إذ التساؤل المنفي في آية (المؤمنون) هو تساؤل التواد والتعاطف والتراحم، والتساؤل المثبت في آية الصافات هو تساؤل التلاوم والتشاقق والتلاعن، وأين هذا من ذاك؟
واستدل كذلك النافون بقوله تعالى:
{ { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]، ووصف الظالم يصدق على المشرك والفاسق، فإن الله سمى القتال في الأشهر الحرم ظلما حيث قال: { { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: 36]، وحكى عن آدم وحواء قولهما: { { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23]، وعن يونس قوله: { { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87]، وعن موسى قوله: { { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [القصص: 16]، وهم - قطعا - لم يقعوا في الشرك ولم يريدوه في هذا الإِعتراف.
أما ما جاء به الفخر الرازي من أن الآية محمولة على سلب العموم لا على عموم السلب فينقضه أن الآية نزلت تهديدا للظالمين لا نفيا لأن يكونوا جميعا ناجين بشفاعة شفيع أو نصرة حميم، ولو كانت لسلب العموم لما كان للتهديد موضع إذ لكل ظالم أن يمني نفسه بأنه غير داخل في هذا السلب، وأن الشفيع والحميم المطاعين غير منفيين بالنسبة إليه شخصيا ولو جاز حمل هذه الآية على هذا التأويل لم يبق تعلق بالأحكام العمومية المستفادة من النفي الداخل على الجموع ولكان نحو قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَافِرِينَ } [هود: 42]، لا يدل إلا على النهي عن الكون مع جميع الكافرين، وعدم المنع من الكون مع بعضهم؛ ولاستُفيد من قوله تعالى: { { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } [النساء: 105]، النهي عن مخاصمته صلى الله عليه وسلم عن جميع الخائنين دون بعضهم، وهكذا في سائر الآيات المماثلة لهذه.
ومثل هذه الآية في الدلالة على نفي الشفاعة للظالمين، وفي الإِيراد المذكور والرد عليه قوله تعالى:
{ { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [آل عمران: 192].
ومن أدلة ذلك قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28] ووجه الاستدلال بها أن الله تعالى نفى شفاعة الملائكة إلا لمن ارتضى من عباده وكذا الأنبياء لعدم الفارق يبنهم، والله لا يرتضي إلا الأبرار دون الفجار، وأجاب الفخر الرازي بأن صاحب الكبيرة مرتضى عند اله بما في قلبه من الإِيمان وبهذا عد الفخر هذه الآية من أدلة القول بالشفاعة لأهل الكبائر.
وما أبعد هذا الجواب عن جادة الصواب، كيف يكون مرتكب الكبيرة مرتضى عند الله وهو ممقوت عند الله وملعون - إن لم يتب - بنصوص الكتاب والسنة، فالله تعالى يقول:
{ { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [هود: 18]، وقد علمتم أن مرتكب الكبيرة ظالم لنفسه، ويقول تعالى في قاتل النفس المؤمنة: { { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } [النساء: 93]، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الربا وآكله ومؤكله وكاتبه وشاهده" وفي الحديث أيضا: "لعن الله المحلل والمحلل له" وفي رواية "لعن الله التيس المستعار" وفي حديث آخر: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان" ونحو هذا في الكتاب والسنة كثير يدركه من تأمله، فكيف يسوغ مع ذلك القول بأن هذا الذي باء بلعنة الله وغضبه مرضي عند الله؟ وهل هذا إلا من باب التشجيع على انتهاك الحرمات وارتكاب الموبقات ما دام مرتكبها واثقا أنه سيؤول الى رضوان الله تعالى وسيحظى بشفاعة ملائكته، وسيتبوأ مقعد صدق في بحبوحة جنته؟
هذا وقد استفاضت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على براءته عليه أفضل الصلاة والسلام من مرتكب الكبائر منها حديث الحوض وفيه
"وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال فأناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقاً فسحقاً" ومنها قوله فيمن أعان امراء الظلم: "ليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض" ومنها قوله: "لا أُلفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك" وقوله: "ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجرته" وقد اشتد تحذيره صلى الله عليه وسلم لذوي قرباه من الاغترار بهذه القرابة والاتكال عليها وأن يأتيه الناس بأعمالهم ويأتوه هم بأنسابهم حتى قال لعمته صفية وفلذة كبده فاطمة رضي الله عنهما: "يا صفية عمة محمد ويا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا" وهل يبقى بعد هذه النصوص القاطعة مجال للمماحكة في هذا الأمر وقد وضح الصبح لذي عينين، ولم تعد الحقيقة في خفاء عن الأبصار.
ولعمري لئن كانت شفاعته صلى الله عليه وسلم للمصرين على الكبائر كان كل أحد من أمته يتمنى ويدعو بأن يموت على الإِصرار إذ ما من أحد إلا ومن أمنيته ودعائه أن يكون من أهل شفاعته عليه أفضل الصلاة والسلام.
واستدل القائلون بصحة الشفاعة لأهل الكبائر بما لا يفيدهم شيئا، من ذلك قوله عز وجل حكاية عن عيسى عليه السلام:
{ { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام: { { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ابراهيم: 36]، وذلك أنهم قالوا ان هذه شفاعة من النبيين الكريمين عليهما السلام، وهي لا تكون للكفار لعدم أهليتهم لها ولا للمسلم المطيع أو التائب من معصيته لحصول المغفرة لهما دونها فلا محل لها الا صاحب الكبيرة غير التائب، واذا كانت هذه الشفاعة من النبيين الصالحين الكريمين لأهل الكبائر من أمتهما، فأحرى أن يكون مثلها لصاحب الرسالة العظمى واللواء المعقود صلى الله عليه وسلم في أمته.
والجواب أن ما قاله النبيان الكريمان - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - لا يعدو أن يكون تسليما منهما لأمر الله، ووقوفا عند حدهما، فالمخلوق وإن ارتقى الى أوج الاصطفاء الإِلهيّ ليس له من الأمر شيء، ولو سلمنا أن هذه شفاعة منهما فمن أين لهم أنها تقبلت عند الله وأنه عفى بسببها عن صاحب كبيرة لم يتب منها، ثم من أين لهم خصوصية هذه الشفاعة المزعومة بمن قارف ما دون الشرك من الكبائر مع أن سياق حكاية ما قاله النبيان عليهما السلام في القرآن تدل على خلاف هذا الزعم فالآيتان السابقتان على ما حكى عن عيسى في سورة المائدة صريحتان في كون الذين يعنيهم المسيح عليه السلام في هذا القول هم الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، والآيتان هما قوله عز وجل:
{ { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة: 116- 117]، وأما المحكى عن الخليل عليه السلام فإنما هو في عبدة الأصنام بدليل ما سبقه وهو قوله عز من قائل: { { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ابراهيم: 35-36]، فلو كان في الآيتين موضع للاستدلال لما قالوه كانتا أدل على الشفاعة لمن اتخذ مع الله إلها آخر على أنهما لو كانتا نصا في الدعاء بالمغفرة لما كان في ذلك دليل على قبول الشفاعة، كيف وقد حكى الله عن الخليل عليه السلام أنه استغفر لأبيه ومع ذلك لم يُغفر له، وقد بيّن سبحانه داعية هذا الاستغفار في قوله: { { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة: 114].
ومنه قوله تعالى:
{ { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [مريم: 87]، ووجه استدلالهم به أن مرتكب الكبيرة قد اتخذ عند الله عهدا بتوحيده وإسلامه.
وجوابه أن هذا العهد قد نقضه صاحبه بمعصيته لله، فإن من مقتضيات التوحيد والإِسلام الاستسلام التام لأمره، والانقياد المطلق لحكمه، وذلك لا يجتمع مع الإِصرار على معصيته.
ومنه قوله تعالى في الكفار:
{ { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [المدثر: 48]، ووجه الاستدلال به أن منطوق الآية دال على حرمان الكفار من نفع الشفاعة لهم، ومفهومها يقتضي ثبوتها لغيرهم وهم أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وجوابه أن مفهوم المخالفة مختلف في الإِستدلال به في الأمور العملية فكيف يكون حجة في القضايا الاعتقادية، وهي لا تنبني إلا على اليقين، فلا تستفاد إلا من قواطع الأدلة دون ظنياتها، ومع ثبوت الاستدلال به فلا بد من استيفائه شروطا مُعينة، منها: أن لا يكون المنطوق جاريا مجرى الأغلب المعتاد، وأن لا يكون جوابا لسائل أو تعليما لجاهل، ولو كان مثل هذا المفهوم حجة في مثل هذا الباب لكان الوعيد على أي كبيرة حجة في انتفاء الوعيد عما عداها، فيكون نحو قوله تعالى:
{ { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } الآية [النساء: 93] حجة على أن غير القاتل لا يصلى جهنم ولو أشرك بالله، وهكذا.
وإن تعجب فاعجب من الفخر الرازي الذي تشبث بأمثال هذه التلفيقات ظانا أنها حجة مثبتة للمطلوب مبكتة للخصم مع أن أصله أن جميع الحجج السمعية ليست حججا قطعية لأن النقل اللغوي ليس تواتريا، ونحن وإن كنا لا نسلم لهذا الأصل فإنا نعجب لهذا التناقض بينه وبين أسلوبه في الاحتجاج.
ومنه قوله تعالى:
{ { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [محمد: 19]، ووجه استدلالهم به أن الله تعالى أمر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، وصفة المؤمن تصدق على مرتكب الكبيرة.
وجوابه أن الإِيمان المعتد به عند الله هو الإِيمان الخالص الذي لا يشوبه إصرار على العصيان، وقد سبق بيان ذلك مع ذكر جانب من الأدلة التي تقتضيه في تفسيره قوله تعالى:{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. ولو كان الإِيمان المفهوم هنا هو مجرد التصديق ولو لم يقترن به عمل لما عذب الله أحدا بكبيرة غير الشرك، وذلك ينافي ما جاء من الوعيد على أنواع مختلفة من المعاصي.
ومنه قوله تعالى:
{ { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [النساء: 86]، وقد أمر الله المؤمنين أن يحيوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصلاة والتسليم في قوله: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [الأحزاب: 56]، فلم يكن بد من الرد وما هذا الرد إلا دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهم بالرحمة، ودعاؤه مستجاب، فثبتت بذلك شفاعته لهم.
وجوابه أن دعاءه عليه أفضل الصلاة والسلام أعم من أن يكون بالرحمة فحسب، فقد يكون بها أو بالهداية، والرحمة لا يلزم أن تكون أخروية على أن القضايا الاعتقادية لا تثبت بالاستنباط وإنما تثبت بالأدلة القطعية كما تقدم، وأين النص القطعي هنا؟
ومنه قوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [النساء: 64]، ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى لم يذكر فيها التوبة، وهي دالة على أنه صلى الله عليه وسلم متى استغفر للعصاة والظالمين غفر الله لهم وهذا يدل على قبول شفاعته لأهل الكبائر في الدنيا وكذا في الآخرة لعدم الفرق.
وجوابه أن استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم مشروط في الآية باستغفارهم لأنفسهم واستغفارهم هو عين التوبة، فمن أين أنهم يغفر لهم مع معصيتهم وظلمهم من غير أن يتوبوا؟
ومنه قوله سبحانه:
{ { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [غافر: 7]، ووجه استدلالهم به أن مرتكب الكبيرة من جملة المؤمنين فهو داخل في الذين تستغفر لهم الملائكة، وإذا جازت له شفاعة الملائكة جازت له شفاعة النبيين.
وجوابه أن الإِيمان الصحيح لا يجامع الإِصرار على المعصية، فالمؤمنون الذين تستغفر لهم الملائكة هم:
{ { ٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران: 135]، على أن في تتمة نفس الآية التي استدلوا بها بيان وصف المؤمنين الذين تستغفر لهم الملائكة وذلك قوله عز وجل: { { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [غافر: 7]، وهل من اتباع سبيل الله الإِصرار على الكبائر وعدم المبالاة بحرمات الله تعالى؟
أما قول الفخر "ان هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص"، فهو مردود بأنه ليس في هذا تخصيص لعموم وإنما هو حكاية لنص استغفار الملائكة، ويستفاد منه - كما يستفاد من سائر الأدلة - أن المؤمنين حقا هم الذين لا يحالفون المعاصي، فإذا وقعت من أحدهم هفوة بادر إلى التوبة والاستغفار.
ومنه الأحاديث المروية في الشفاعة كحديث:
"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وحديث: "ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي" .
وجواب ذلك أن هذه الأحاديث رواياتها آحادية فلا تفيد الا الظن في مدلولها، والاعتقاد ينبني على اليقين دون الظن، فلذلك لا يكون إلا ثمرة النصوص المتواترة دون الظواهر القابلة للتأويل ولو تواترت، ودون ما كان طريق روايته آحاديا وإن يكن نصا على أن ظاهر هذه الروايات الذي استندوا إليه متعارض مع النصوص القاطعة من الكتاب، وهي لا تقوى - لا من حيث المتن ولا من حيث الدلالة - على معارضة هذه النصوص، فيجب إما إسقاطها وإما تأويلها بما يتفق معها وذلك أن يحمل المراد من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" على التائبين ممن قارف الكبائر دون المصرين، فهو عليه أفضل الصلاة والسلام يشفع لهم عند الله لأجل قبول توبتهم وحط أوزارهم، وعليه فيتضمن قوله صلى الله عليه وسلم ذلك حضهم على التوبة وإطماعهم في المغفرة، وإبعاد القنوط عنهم، ومثل هذا قوله تعالى: { { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53]، فإن المراد به الترجية في المغفرة مع التوبة لا مع الإِصرار على الذنوب بدليل ما وليه من حض على الإِنابة، وتحذير من الإِصرار في قوله: { { وَأَنِـيبُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ ٱلْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 54-58]، وإطلاق اللفظ مع قصد تقييد معناه معهود عند العرب مع القرائن الدالة على المراد وفي القرآن والحديث نصيب وافر منه، ولو كان المراد من حديث "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" ما فهموه منه لكان في ذلك إغراء منه صلى الله عليه وسلم وأي إغراء على المعصية - حاشا وكلا - كيف وهو الذي أمر فلذة كبده فاطمة رضي الله تعالى عنها أن تشتتري نفسها من الله وأخبرها أنها لا يغني عنها من الله شيئا.
وما أبدع ما قاله العلامة صاحب المنار في الذين يجترئون على الله بالمعصية متكلين على العفو والشفاعة، وإليكم نص قوله:
"إن مثل من يقترف السيئات معتمدا على العفو والشفاعة كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس، وعلى رؤوس الأشهاد متعرضا لقبض الشرطة عليه وسوقه الى المحكة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتمادا على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة، ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه والله تعالى قد بيّن لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب، وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين:
{ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } الآيات [غافر: 7]، وقوله: { { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتاباً } [الفرقان: 71] وقوله: { { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [طه: 82]، وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } مع الجزم بأنه تعالى لا يرضى بالكذب ولا بغيره من الجرائم ومن يأذن تعالى له بالشفاعة لا يعلمهم غيره عز وجل".
وقبل كلامه هذا سرد ملخص ما قاله الأستاذ الإِمام في الذين يستخفون بوعيد الله ويجترئون على محارمه - كالكذب - اتكالا على سعة عفو الله وما يعتقدونه من المكفرات كالاستغفار قبل النوم مائة مرة وقول كذا من الذكر بعد صلاة الصبح كذا وكذا مرة مع نسيان سبب المغفرة الحقيقي وهو التوبة النصوح والرجوع إلى الله تعالى، وجاء في آخر كلامه ما نصه: "وكيف نترك ما جاء عن الله في كتابه وعلى لسان نبيه من النصوص الدالة على أن لعنة الله مسجلة على الكاذبين، وهي بعمومها لا تدع لوهم مجالا في نزول سخط الله بالكاذب، ثم نخترع لأنفسنا تعلة نتوكأ عليها في ارتكاب هذه الجريرة ونسندها إلى سعة عفو الله أو إلى مجمل من القول لا يبينه إلا تلك النصوص القاطعة؟ إن هذا الإ خبال أو تصوير خيال أو فقد للإِيمان بصحة تلك النصوص القاطعة، نعوذ بالله".
ومسألة الشفاعة لأهل الكبائر لها علاقة قوية بمسألة أخرى شغلت ألباب الناس وعنى بها الكاتبون من المتكلمين والمفسرين، وهي مسألة خلف الوعيد، فالقائلون بسقوط عقوبات الكبائر بسبب الشفاعات سوغوا إخلاف الله لوعيده، بل قالوا بوقوع ذلك وعدوه من آثار الكمال الإِلهي لأنه دال - عندهم - على سعة الحلم وواسع الإِحسان، والقائلون بخلاف ذلك لا يسوغون إخلاف الوعيد كما لا يسوغون إخلاف الوعد، ويعدون وصف الله به جهلا بكماله الذاتي ومقامه الإِلهي، ذلك لأن إِخلاف الوعيد لا ينفك عن الدلالة إما على البداء والجهل، وإما على الكذب تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وبيان ذلك أنه تعالى لا يخلوا حال الوعيد إما أن يكون عالما بأنه لن ينجزه وإنما توعد بما توعد به لمجرد الردع والكف عن المخالفة، وهذا هو الكذب بعينه، وهو غير لائق بأصحاب الشيم والإِباء من البشر فكيف يليق برب العالمين؟ وإما أن يكون غير عالم بما سيحدث من موجبات الإِخلاف وإنما انكشف له من بعد ما كان منطويا عنه من قبل فرأى الإِخلاف أولى من الإِنفاذ، وهو - كما ترى - يستلزم - لا محالة - الجهل وبدو البدوات - تعالى الله وجل عن ذلك - ولئن ساغ هذا من المخلوق العاجز الجاهل فإنه لا يسوغ بحال من الخلاق العليم الذي وسع كل شيء قدرة، وأحاط بكل شيء علما.
وبجانب هذه الدلالة العقلية على استحالة اخلاف الله لوعيده فإن الأدلة النقلية تعضدها، منها قوله تعالى:
{ { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } [يونس: 64]، وقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 9]، وقوله: { { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق: 29]، وهو نص في الموضوع لأنه مترتب على قوله من قبله: { { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } [ق: 28]، وقد استقر عند الأصوليين أن العمومات إذا ترتبت على أسباب خاصة تعد قواطع بالنسبة إلى تلك الأسباب.
وقد أبعد المخالفون النجعة حيث قاسوا في هذه القضية شأن الحق على أحوال الخلق إذ حسنوا إخلاف الله لوعيده نظرا إلى ما تعورف به بني الناس من أن تراجع المتوعد عما توعد به يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال حتى أنهم استدلوا على إخلاف وعيد الله بقول الشاعر:

ولا يخشى ابن العم ما عشت صولتي ولا أنا أخشى صولة المتمردي
وإني وإن أوعدته أو وعدتهلمخلف إيعادي ومنجز موعدي

واعترضوا بعدم جواز قياس الكمال الإِلهي المطلق على الكمال البشري المحدود، فإن استحسان خلف الوعيد من الناس إنما لأجل ما يطغى عليهم حالة الغضب والانفعال من العواطف الرعناء التي تؤدي بهم الى التهديد والوعيد بالعقوبات المفرطة، ولا غرو أن يُعد التراجع عنها - بعد تحكيم منطق العقل وهدوء سورة الانفعال - من الخصال المحمودة والفضائل المستحسنة، والله تعالى مبرأ عن كل ذلك، فلا يصح حمل شأنه على شأن خلقه، على أن إخلاف الوعيد قد يكون مذموما حتى لو كان من قبل البشر، ألا ترون أن الحاكم الذي يتوعد المجرمين بالعقوبات الرادعة ثم ينثني عنها لا يُعد انثناؤه من المحامد لما يترتب عليه من التشجيع على الإِجرام، ولذلك مدحت العرب من ينجز الوعيد كما مدحت من يخلفه، ومن ذلك قول الشاعر:

إن أبا خالد لمعتدل الرأى كريم الأفعال والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا يبيت من قراه على فوت

وقد اعترض أبو عثمان النهدي بهذين البيتين على أبي عمرو ابن العلاء عندما احتج عليه بالبيتين السابقين على جواز اخلاف الله لوعيده.
والقول بخلف الوعيد يفضي إلى الاستخفاف بالأوامر والنواهي وعدم المبالاة بانتهاك الحرمات وتضييع الواجبات ما دامت النفس طامعة في تبديل الوعيد بخلاف ما إذا كانت قاطعة بإنجازه، ولذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر بالقرآن من يخشى وعيد الله لجدوى التذكير فيهم:
{ { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45].