التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَٰقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٥٤
-البقرة

جواهر التفسير

هذه الآية وما بعدها غير خارجة عن سياق الآيات السابقة واللاحقة، ففيها تذكير بني إسرائيل بنعمة الله التي أسبغها عليهم، وقد توهم بعض المفسرين أنهما مقطوعتان عن هذا السياق، وأن ما فيهما لا يعدو أن يكون تذكيرا بشر ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر بعد الإِيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإِيمان إذ اتخذوا العجل إلها من دون الله سبحانه، وجاهروا برفض الإِيمان حتى يروا الله جهرة، وقد سرى إليهم هذا الوهم من اعتبارهم أن المعصية والعقوبة عليها لا يعدان من النعم، فالمعصية ناتجة عن الخذلان، وهو مغاير للتوفيق الذي يعد من أكبر نعمة الله على الإِنسان، والعقوبة - سواءً كانت إلهية محضة كالصعق أو كانت تكليفا إلهيا كالقتل - لا تعد إلا بلاء وشدة، فكيف تندرج مع الآلاء وتنتظم في سلك النعم، وقد غفل هؤلاء عن كون المعصية وعقوبتها لم تذكرا في هذه الآية والتي بعدها إلا ليبنى على ذكرهما ذكر ما وليهما من اللطف الإِلهي الذي لولاه لما بقيت لبني إسرائيل باقية، ولما كان للمخاطبين - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المقصودين بهذا التذكير - وجود.
ومما هو غني عن الذكر أن الله سبحانه قدير على أن يجمع لهم - على هذا الإِغراق في الضلالة واللجاجة في الكفر - عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، غير أنه تعالى لسعة عفوه وواسع حلمه جعل هذه العقوبة الدنيوية - وهي قتل أنفسهم - تكفيرا لما ارتكبوه، لأنها كانت علامة صدق توبتهم ومنتهى إذعانهم على أن من فضل الله عليهم أن رفع هذه العقوبة عنهم قبل أن تستأصل شأفتهم، فكان هذا الرفع نعمة دنيوية جديرة بأن تقابل بالشكر من السلف والخلف، ولا يستغرب أن يشار إلى النعمتين بكلمة العفو الدالة على قبول التوبة ورفع عقاب الدنيا مع الوقاية من عقاب الآخرة، فإن ذلك من الإِيجاز المعهود في أساليب القرآن.
وما هذا العقاب الدنيوي إلا ضرب من ضروب التربية النفسية لهم، فإنهم قوم قست قلوبهم، وعتت نفوسهم، لما مردوا عليه من الكفر وألفوه من الضلالة، فكم عاندوا موسى عليه السلام وآذوه وأصروا على هوى أنفسهم واستكبروا استكبارا، وواجهو المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بالصدود والتكذيب، فكانوا أحرياء بأن يؤدوا ضريبة دموية تكون تطهيرا لخطاياهم وإصلاحا وتقويما لنفوسهم.
والقوم هم الجماعة المترابطة المتآزرة، وسُمُّوا كذلك لأنهم جميعا يقومون بمصالح بعضهم بعضا، ولما كانت هذه هي مهمة الرجال غالبا كان إطلاقه عليهم وحدهم هو الأغلب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
{ { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } [الحجرات: 11] فإن العطف من شأنه التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وقول زهير:

وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء

ويطلق على الجماعة الجامعة للذكور والإِناث، ومنه قوله تعالى: { { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } [نوح: 1]، فإن رسالته ليست خاصة بالذكور، وإنما هي شاملة لهم وللإِناث، واختلف فيه هل هو من باب المشترك، أو أن حقيقته في الذكور، وإطلاقه على الذكور والإِناث معا تغليب، وهذا هو الأظهر لأن الأصل عدم الاشتراك، وفائدة النص على أن قوله كان لقومه مع ابتداء خطابه بـ "يا قوم" التنبيه على أن هذا الخطاب ما كان بواسطة بينه وبينهم، بل كان منه لهم مباشرة.
وابتداء خطابهم بـ "يا قوم" مشعر بتلطفه بهم، وحنوه عليهم ليكون ذلك أدعى الى تعاطفهم معه واستجابتهم لأمره، وقبولهم لنصحه، فإن من شأن الناس أن يكونوا أوثق بأبناء جلدتهم لا سيما في القضايا المشتركة والمصالح العامة.
وقد ابتدأ عليه السلام نصحه لهم بإيقافهم على فحش خطئهم، وإيقاظهم أنهم لم يظلموا به إلا أنفسهم، فإن مغبة ما ارتكبوا عائدة إليهم، وسوء ما عملوا حائق بهم.
واتخاذهم العجل إما تأليههم له وإما صنعه لأجل عبادته.
والفاء في قوله: { فَتُوبُوۤاْ } سببية لأن وجوب التوبة عليهم مسبب عن هذا الظلم الذي ظلموه أنفسهم باتخاذهم العجل.
والبارئ الخالق مع شيء من الفارق الدقيق في مفهوم اللفظين، وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال؛ وقيل: الخلق دال على مطلق الإِيجاد، والبرء هو إيجاد الشيء بريئا - أي خالصا - من وصمة التفاوت بين أجزائه، كطول إحدى اليدين مع قصر الأخرى، وكبر إحدى العينين مع صغر الثانية، وإليه الإِشارة بقوله تعالى:
{ { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [الملك: 3]، وأصله الانفصال، كما يقال: برئ من كذا، إذ تخلص منه، ومنه برء المريض، وذلك أن الخلق فُصلوا بهذه الإِيجاد من العدم إلى الوجود.
وهمزة بارئكم مكسورة عند الجمهور، وسكنها أبو عمرو - وهو أحد السبعة - ولَّحنه أبو العباس المبرد زاعما أن التسكين غير جائز في حرف الإِعراب في نثر ولا شعر، ورُد بأن قدماء النحويين أجازوا ذلك وأنشدوا:

إذا اعوججن قلت صاحب قوِّمِ بالدَّوِّ أمثال السفين العُوَّمِ

وقول امرئ القيس:

فاليوم أشرب غير مستحقبٍ إثماً من الله ولا واغل

ولعل الذي سوِّغ التسكين في قراءة أبي عمر اجتماع ثقل الكسرة والهمزة مع توالي ثلاث حركات.
وفاء "فاقتلوا" للسببية كالتي قبلها، والسبب هو اتخاذ العجل إن قيل بأن القتل نفسه هو التوبة، وعليه فجملة "فاقتلوا" بدل من جملة "فتوبوا" أو التوبة إن قيل بأنه شرط من شروط صحتها، ككفارة الحنث، فإنها من شروط توبة الحانث وليست عينها، وهذا هو الأظهر لأن للتوبة أركانا معلومة تقدم ذكرها في تفسير قصة آدم، واختلفوا في حكم هذا القتل، قيل: بأنه خاص بهذه المعصية في هذه الواقعة بعينها، وقيل: بأنه تتوقف عليه توبة كل مُرتد من بني اسرائيل حسبما شرع لهم، والأول هو الظاهر إذ لم يثبت أنهم أمروا بقتل أنفسهم في غير هذه الواقعة مع كثرة ما صدر عنهم من موجبات الكفر، كقولهم:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181].
وهذا الحكم يستحيل صدوره عن موسى عليه السلام من غير أن يستند فيه إلى وحي من الله لأن مما استقرت عليه العقول واتفقت عليه الشرائع وجوب المحافظة على سلامة النفس وبقاء حياتها إلا مع أسباب يستثنيها الشرع، وذلك بأن يكون القتل إما طهارة للنفس أو وقاية للمجتمع.
وقد تلقى بنو إسرائيل هذا الأمر بالامتثال لأنهم شعروا بفداحة ما ارتكبوه، وضلالة ما فعلوا كما قال سبحانه وتعالى فيهم:
{ { وَلَمَّا سُقِطَ فِيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } [الأعراف: 149].
واختلف المفسرون في كيفية هذا القتل كما اختلفوا في العدد الذي وقع عليه القتل اختلافا كثيرا، قيل أُمر عبدة العجل بأن يباشر كل منهم قتل نفسه بيده، وجمهور السلف على خلاف هذا القول حتى أن صاحب المنتخب حكى الإِجماع على أنهم لم يؤمروا بقتل أنفسهم بأيديهم، وأنكر عليه أبو حيان في البحر المحيط دعوى الإِجماع لوجود من قال بأنهم أمروا بمباشرة قتل أنفسهم من بين المفسرين، ولم ينفرد صاحب المنتخب بحكاية الإِجماع في هذه المسألة، بل حكاه القرطبي أيضا، وقيل: بأن المراد بقتلهم أنفسهم هو قتل بعضهم بعضا، وهو المروي عن السلف، وعليه اقتصر المفسرون بالمأثور، وهو المتبادر، لأن الأمة الواحدة في تماسكها وترابطها كالنفس الواحدة والجسد الواحد في الشعور بالبؤس والنعيم، والعز والهوان، فإذا قتل أحد منها أخاه عُدَّ قاتلا لنفسه لأنه يصاب بفداحة الخسران منه كغيره من أبناء تلك الأمة، وكثيرا ما تُراعي هذه الوحدة الشعورية الواجبة بين الأمة في الخطابات التشريعية لإِثارة الإِحساس بها، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [البقرة: 188]، وقوله: { { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [الحجرات: 11]، فإنه مما لا يُختلف فيه أن النهي في الآيتين إنما هو عن أكل مال الغير وعن لمز الغير، وهؤلاء اختلفوا، منهم من ذهب إلى أنهم جميعا أمروا بأن يأخذوا الحراب ويقتل بعضهم بعضا، ومنهم من ذهب إلى أن الذين أمروا بالقتل هم السبعون الذين كانوا مع موسى عليه السلام في الميقات ولم يشتركوا معهم في عبادة العجل، وذهب آخرون إلى أن المأمورين بالقتل هم الذين اعتزلوا مع هارون.
وقيل: بأن استسلامهم للقتل هو الذي عُبر عنه بقتل أنفسهم، وذلك بأن عباد العجل أمروا بأن يحتبوا في أفنية دورهم، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون، فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه الى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل.
وقيل: أمروا بأن يبخعوا أنفسهم، أي يحملوها من هموم الندم والحزن على اقتراف الشرك ما لا تتحمله؛ وقيل: بل أمروا بتذليل النفوس وهو المراد بقتلها، كما قال حسان:

إن التي عاطيتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

وهو ضعيف.
وأما عدد القتلى فأكثر المفسرين قالوا بأنهم كانوا سبعين ألفا تعويلا منهم على الروايات المعزوة إلى السلف من الصحابة والتابعين، ورجَّح بعض مفسري العصر أنهم كانوا ثلاثة آلاف تعويلا على نصوص التوراة، وكلا القولين ليس له سند واضح.
أما الروايات المعزوة إلى السلف فليست وحدها حجة لعدم وثوق أسانيدها، وأما نصوص التوراة - بعدما دخلها التحريف والتبديل - فهي أضعف من أن تكون دليلا على شيء مع أنها لم تتفق على تحديد العدد بثلاثة آلاف، فقد جاء في بعض رواياتها أنهم كانوا ثلاثة وعشرين ألفا، ولا داعي إلى التفتيش عما طوى عنا القرآن علمه من هذه الأخبار، ولم يثبت بسند مقبول عن المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، فإنه يفضي إلى الدخول في متاهات الأوهام، وحسبنا ذكرا وعظة ما قصة الله لنا من أن توبتهم كانت معقودة على دفع هذا الثمن الباهض لشططهم في الكفر، وغلوهم في التعنت؛ ثم تداركتهم عناية الله ولطفه فقبل توبتهم، وأذن برفع القتل عن بقاياهم، فكان القتل شهادة للمقتولين وتوبة للباقين: { إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } تذييل لقوله: { تُوبُوۤاْ } أو لقوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } وهو الأظهر.