التفاسير

< >
عرض

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٱكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٥٧
-البقرة

جواهر التفسير

هذا تذكير بنعمة أخرى أُسبغت عليهم في وقت كانوا فيه أشد فقرا إلى مثلها، إذ كان المحكى هنا عندما كانوا في التيه يترددون في حدوده لا يتجاوزونها، كأنما يدورون في حلقة مفرغة، وذلك عندما طالبهم موسى عليه السلام بمقاتلة الجبارين في أرض الشام فعتوا عتوا كبيرا، وقالوا له: { { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة: 24]، فظلوا يتخبطون في سيرهم، يتيهون في الأرض مدة أربعين عاما، لا يدرون المخرج من محبسهم، عقوبة من الله على عتوهم، وبجانب هذا التأديب الإِلهي لهم كانت عين العناية ترعاهم، وسيوب الإِحسان تغمرهم، ومن ذلك ما حكاه الله هنا من تظليل الغمام عليهم وإنزال المن والسلوى إليهم، وما حكاه من بعد من تفجير الأنهار لهم من الحجر الصلد؛ وأضاف المفسرون الى ذلك أنه تعالى سخر لهم عمودا من نور يستضيئون به، وأن ثيابهم كانت لا تبلى، وكانت تنمو بنمو أجسادهم، وهذا مما لم تثبت به حجة، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه ذلك، كما لم يعجزه تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى عليهم.
"وظللنا" معطوف على "بعثناكم"، وقيل على "قلتم"، والصحيح الأول لتناسبهما في كون كل منهما نعمة، واشتراكهما في إسنادهما الى الله بخلاف "قلتم"، فإنه يفيد النداء عليهم بالحماقة والجهل ولا يبعد أن يكوت ترتب هذه الأحداث في الوقوع بحسب ترتيبها في الذكر، وهذا هو الظاهر، وخالف في ذلك العلامة ابن عاشور حيث قال: "والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة، لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيلين وسيناء في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم، ومما تنبته الأرض، وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سيناء، فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة، ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني اسرائيل بالرحيل، فإذا حلت السحابة حلّوا... الخ. كذا تقول كتبهم".
وهذا الكلام لا يخلو من تناقض، فقد ذكر أولا أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كانا قبل سؤالهم رؤية الله جهرة، ثم أتبعه أن تظليلهم بالغمام وقع بعد أن سألوا رؤية الله، ثم هو مخالف لما عليه المفسرون من أن ذلك حدث في التيه عندما امتنعوا عن مقاتلة الجبارين.
والغمام اسم جنس، واحده غمامة، كسحاب وسحابة، وزنا ومعنى، وقيل: هو السحاب الأبيض، وقيل: ما رق منه وبرد، وهو المروي عن مجاهد، ورده الإِمام محمد عبده بأن السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل إلا بسحاب كثيف يمنع حر الشمس ووهجها، وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة الا بالكثيف، وهو المنقول المعروف عند الإِسرائيليين أنفسهم.
وتسميته غماما لأنه يغم السماء أي يسترها عن الأبصار، وزعم بعضهم أنه لم يكن غماما حقيقة، وإنما كان ظلا مشبها للغمام فسمي به، والصحيح خلاف ذلك، إذ لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا من قرينه تصرف اللفظ عنها إليه.
وعُد هذا التظليل نعمة لأنه يقيهم لفح الشمس ووهجها، واستظهر بعض المفسرين من ذلك أنه كان بالنهار دون الليل، أما الليل فقد كان الغمام ينجلي فيه ليأنسوا بنور القمر، ولألاء النجوم في الصحو.
والمن - في قول أكثر المفسرين - مادة صمغية ذات حلاوة مع شيء من الحموضة لم تكن معهودة في بلاد الشام وما حاذاها، وإنما يكثر نزولها في تركستان، وقد أنعم الله به على بني اسرائيل في التيه فكان ينزل عليهم كالطل بين انشقاق الفجر وطلوع الشمس فيما عدا يوم السبت، وكان كل منهم يأخذ قدر صاع ليومه وليلته، ولا يدخرون منه إلا ليوم السبت.
ونقل الإِمام ابن عاشور عن التوراة أنها وصفته بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض، وهو مثل بزر الكزبرة أبيض، وطعمه كرقاق بعسل، وأنهم كانوا يلتقطونه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه، فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحى، أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور، وعملوه ملات، وكان طعمه كطعم قطائف بِزيت.
وأخرج ابن جرير عن عبد الصمد قال: سمعت وهبا، وسئل ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة ومثل النقى، والظاهر أن وهبا استمد تفسيره هذا للمن مما جاء في التوراة من وصف طعمه أنه كرقاق بعسل فمراده تشبيهه بالرقاق وحذف آلة التشبيه.
وفسره الربيع بن أنس - فيما رواه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم - أنه شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه، وقيل: هو العسل نفسه، روى ذلك ابن جرير عن عام وابن زيد، وهو يتفق مع ما قاله أمية بن أبي الصلت في وصفه، وهو:

فرأى الـله أنهم بمضيع لا بـذي مـزرع ولا مثمورا
فعناها عليهم غاديات ومرى مزنهم خلايا وخورا
عسلا ناطفا وماء فراتا وحليبا ذا بهجة ممرورا

وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن المن مصدر يعم كل ما من الله به على عباده من غير تعب ولا زرع، واستدلوا بما أخرجه الجماعة إلا أبا داود عن سعيد بن عمرو بن نفيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء العين" واختلف في توجيه هذا الحديث، فقال بعضهم بأن الكمأة ذاتها مما أنزله الله على بني إسرائيل أي مما خلقه لهم في التيه، وقال آخرون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم تشبيهها بالمن لأنها لا تحتاج إلى مؤونة ببذر ولا سقي ولا علاج.
والسلوى طائر يدعى السماني، وقيل: طائر يشبه السماني وليس به، والقولان أخرجهما ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج ثانيهما عن ابن مسعود رضي الله عنه، وطائفة من مفسري السلف؛ وقيل: السلوى العسل، رُوى ذلك عن مؤرج بن عمر السدوسي - أحد علماء اللغة والتفسير - واستدل له بقول الهذلي:

وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وانتقد هذا القول ابن عطية وادعى أن إجماع المفسرين على خلافه، وغلط الهذلي قائل البيت، وابن عطية هو الواقع في الغلط، فإن الهذلي هذا هو خالد بن زهير ممن يعتد بكلامه في اللسان العربي، واستدل ببيته هذا أئمة اللغة. كالمؤرج المذكور وابن سيدة والجوهري، وذكر المؤرِّج أن مجيء السلوى بمعنى العسل لغة كنانية؛ وإنما الأقرب أن تكون السلوى في الآية من أنواع الطير كما رُوي عن السلف، وذكروا أن ريح الجنوب كانت تسوقها إليهم في كل يوم فيأخذون حاجتهم منها ليومهم، ولا يدخرون إلا ليوم السبت، وإن ادخروا لغيره فسد المدخر كما هو الشأن في المن كذلك، وإنما يأخذون منهما في يوم الجمعة ما يكفيهم له وللسبت بعده لأنهم كانوا يتفرغون يوم السبت للعبادة ولا يبرحون أمكنتهم.
ومع ظهور هذه الآيات بجانب المعجزات السابقة لم يبرحوا حالتهم التي ألفوها، لأنهم ألفوا الشقاق، ومردوا عليه، فظلوا في تيههم يتخبطون إلى أن مات هارون ثم موسى - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - وهلك ذلك الجيل العاتي، ونشأ جيل جديد أسلم منه فطرة، وأسلس قيادا، وأوفى مروءة، وأرهف حسا، فقاتل به يوشع بن نون خليفة موسى - عليهما السلام - الجبارين، وفتح به الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فكان لهم التمكين في الأرض كما وعدهم الله حتى بدل أعقابهم وعادوا إلى ما كان عليه سلفهم الأولون من اللؤم والفساد، وقتلوا من قتلوا من النبيين، فأعقبهم الله ذلا وهوانا، وفتنة ودمارا، وهذه هي سنة الله في عباده
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [آل عمران: 117].
وبهذا يتبين بعد البون بين حال أمتي محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، فنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه بعث في أمة بدائية ليس لها عهد بالنبوات منذ أمد بعيد، وقُرن بمعجزة معنوية - وهي القرآن الذي بُعث به - لا كمعجزات موسى عليه السلام التي كانت تدرك بالحواس، وتتجلى لجميع الناس، كاليد والعصى، وفرق البحر، ونزول المن والسلوى، ومع ذلك لم تلبث هذه الأمة التي بعث فيها - عليه الصلاة والسلام أن انقادت لأمره واضطلعت بأمانته، فكان كل فرد منها كأنه رسول بُعث إلى أمة، يجسد بفعله وقوله قيم الدين ومبادئ الحق مع ما كان منها - بادي الأمر - من مجاهرة أكثرها بعدائه صلى الله عليه وسلم، ومناصبته الحرب، ومعاكسته في الأمر، ولعمري إن هذا التحول السريع في مدة عقدين من السنين قضاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني هذه الأمة مبلغا دعوة ربه، ومجاهدا في سبيله، لدليل كاف أن الله سبحانه أعدها بتزكية فطرتها، وتنوير بصائرها، لحمل أمانة الرسالة الخاتمة الجامعة، ولأن تكون أمة وسطا شهيدة على سائر الأمم.
والأمر في قوله سبحانه: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } للامتنان ذلك لأن الموهوب يشعر بجسامة ما أنعم به الواهب إذا صرح له للانتفاع به، واستظهر منه بعض العلماء أنه لا يجوز لمن أحضر له الطعام أن يأكل منه حتى يؤمر الأكل، والصحيح أن العرف كاف في إباحة الأكل في مثل هذه الحالة، والمسألة ونظائرها مبسوطة في كتب الفقه، والمراد بقوله: { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أن عاقبة ظلمهم لم تعد إلا على أنفسهم، فالعبد وإن تطاول على ربه بأنواع المعاصي وصنوف الكفران فإنه لا يضر بذلك إلا نفسه، والله أجل من أن يلحقه ضرر أو يناله مكروه، ويجوز أن تكون هذه الجملة فذلكة لما وصفوا به من صفات الظلم من قبل، كاتخاذهم العجل، وسؤالهم الرؤية.