التفاسير

< >
عرض

وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٦٠
-البقرة

جواهر التفسير

لا تزال الآيات متساوقة في مساق تعداد النعم التي لقيها بنو اسرائيل وهم في أمسّ الحاجة إليها، فتفجير الماء من حجر صلد، بضربة من موسى بعصاه، وجريانه متوزعا في جداول بعدد الأسباط يُعد أكثر من نعمة، فتيسير الماء بغير عناء نعمة لا يقدر قدرها لأنه من الأشياء التي تشتد إليها ضرورة النفس وتتوقف عليها سلامة الحياة، والنعمة يزداد قدرها بمسيس الحاجة إليها وما أحوجهم في الصحراء التي كانوا فيها إلى الماء، وكونه بطريقة خارقة للعادة تطمئن بها النفس ويقوي بها الإِيمان نعمة ثانية، وانقسامه إلى جداول بعدد الأسباط حتى لا يزدحموا عليه فيتنازعوا نعمة ثالثة.
وأكثر المفسرين على أن هذا الاستسقاء كان في التيه، وعليه فالمذكور في هذه الآية متأخر زمنا عما ذُكر في الآية التي قبلها، فترتبا ذكرا بحسب ترتبهما زمنا، وذهب بعضهم إلى خلافه، وهم الذين يطبقون ما سرده القرآن من أحداث أهل الكتاب على التواريخ المتداولة بين أهل الكتاب أنفسهم وذلك أنهم حملوا القصة المشار إليها في الآية على ما يتداوله اليهود من أنهم لما نزلوا في رفيد يم، بعدما خرجوا من برية سين، وقبل وصولهم الى برية سيناء في الشهر الثالث من خروجهم عطشوا ولم يكن بالموضع ماء، فتذمروا على موسى، وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا، فأمره الله أن يضرب بعضاه صخرة هناك في حوريب، فضرب فانفجر منها الماء.
وفي بعض نصوص التوراة ما يدل على أن هذه الحادثة كانت بعد خروجهم من برية سيناء، وحلولهم في رقادين.
وهذا الاضطراب يبعدنا عن الثقة بنقولهم والاستناد إلى تواريخهم.
وذكر الإِمام محمد عبده أن كثيرا من أعداء الاسلام وجهوا إلى القرآن العظيم سهام انتقادهم بسبب عدم ترتب ذكره للأحداث بحسب ترتبها في الوقوع، ورد عليهم بما حاصله: أن القرآن ليس كتابا تاريخيا معنيا بسرد الوقائع مترتبة بحسب أزمنة وقوعها، وإنما الغاية من ذكره لها بعث العبر وإثارة العظات ببيان النعم متصلة بأسبابها لتطلب بها، وبيان النقم بعللها لتتقى من جهتها، لذلك كان إيراده للقصص بالأسلوب الأبلغ في التذكير والأدعى إلى التأثير مع عدم الالتفات إلى أزمنتها.
ونسب إلى بعض الباحثين في تأريخ هذا العهد ترجيحهم لهذا الاسلوب في التقديم والتأخير، وأنهم يقولون بأنا أياما ستأتي يستحيل فيها ترتيب الحوادث والقصص بحسب تواريخها لطول الزمن وكثرة النقل مع حاجة الناس الى معرفة سير الماضين، وما لها من النتائج والآثار في حال الحاضرين، ولا طريق إلى ذلك إلا النظر في أسباب ونتائج الأحداث من غير تفصيل ولا تحديد لجزئيات الوقائع بالتأريخ، فإن مراعاة ترتيبها لا يتوقف عليه الاعتبار بها وإنما هو من الزينة في وضع التأليف ولربما شغل الذهن عما تجب ملاحظته منها.
وعدّ الأستاذ الإِمام هذا الأسلوب ضربا من ضروب الإِصلاح العلمي سبق إليه القرآن، وأيده سير الاجتماع في الإِنسان.
وجوز الأستاذ كون أرض التيه هي الأرض الممتدة على ساحل البحر الأحمر من بيداء فلسطين مما يلي حدود مصر، وفيها كان الاستسقاء بلا خلاف.
وذكر الله تعالى أن هذا الاستسقاء من موسى لأجلهم مع أنه كان بينهم يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من السقيا تنبيها على أنه لم يستسق إلا لطلبهم وإلحاحهم، وإلا مضى في السبيل الذي أمره الله بسلوكه غير لاوٍ على شيء من حاجات الدنيا توكلا على الله وثقة بأنه سبحانه سيهيء له ما يحتاج إليه من ضرورات الحياة ما دام مقبلا عليه ومتبعا لسبيله، وهذه هي ثقة النبيين، وهذا إيمان المرسلين، فإنهم لا يهمهم إلا امتثال أمر الله واتباع مراشده.
واختلفوا في الحجر الذي أمره الله أن يضربه بعصاه؛ قيل: هو ما شاء من الأحجار، وقيل: هو الحجر الذي مشى بثوبه - حسبما قيل - وقيل: هو حجر آخر خاص حجمه كرأس الشاة يحملونه معهم إذا ارتحلوا، ويضعونه بينهم إذا نزلوا، فإذا احتاجوا الى السقي ضربه موسى بعصاه فتفجرت منه العيون، وإذا رووا واكتفوا ضربه كذلك فانقطع منه الجري، وقد تقدم أنه جاء في التوراة بأنه صخرة في حوريب، وهي بقعة بطور سيناء -؛ وعلى الأول فالتعريف للجنس، ويرجحه أن الجنس أسبق من غيره في التعارض، وهو كذلك أدخل في الإِعجاز، فإن ضرب أي حجر كان أدل على القدرة وأدعى إلى الاستغراب من ضرب حجر بعينه وعلى الثاني فالتعريف للعهد وهو ذهني لعدم سبق ذكر للمعهود.
والانفجار هو الانصداع ويُعبر عنه بالانبجاس كما في سورة الأعراف، وفرق بعضهم بينهما بأن الانبجاس أول خروج الماء والانفجار اتساعه وكثرته، وعلى التفريق فلا تضاد بين العبارتين لوقوع الأمرين في القصة.
والعين هي منبع الماء وتُجمع على عيون قياساً وعلى أعين سماعاً.
وأنكر بعض الطبعيين صحة هذه القصة لمخالفتها ما استقرت عليه عادة الأشياء بحسب طبائعها المألوفة، وهو جهل عظيم بقدرة الخالق الذي طبع الكون بحسب نواميسه المألوفة وهو القادر على خرق تلك النواميس وإحالة تلك الطبائع إذا ما أراد ذلك، على أنَّ أفراد الجنس الواحد تكون لها طبائع شتى مختلفة باختلاف ما جعل الله فيها من الخاصية فطبائع الأحجار ليست واحدة فمن الأحجار ما هو حالق للشعر لا يكاد يدنو منه حتى يحلقه، ومنها ما هو مغناطيسي إذا قُرب من الحديد جذبه إليه فما المانع عقلا من أن يودع الله هذا الحجر خاصية اجتذاب الماء من جوف الأرض حتى يتفجر منه عيونا أو ارتشاف الهواء الندي من الكرة الأثيرية وتكييفه حتى يخرج منه سلسبيلا عذبا.
وتعدد العيون إلى اثني عشر عينا للحكمة التي أشرت إليها في أول تفسير الآية، وهي أن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطا، فلو جرت لهم عين واحدة فحسب أدى ذلك إلى التسابق إليها والتقاتل عليها حرصا من كل طائفة أن تكون هي السابقة في الورد، أما وقد تعددت العيون بعدد الأسباط وعرف كل سبط - وعُبِّر عنه بأناس - مشربه فلا داعي إلى الشقاق لعدم الإِحتكاك بين الأسباط واتساع الموارد واختصاص كل سبط بمورده، والتلاحم الأخوي بين أفراد السبط الواحد يرفع عنهم الخلاف والنزاع في الورد.
والأمر بالأكل والشرب للإِباحة المصحوبة بالامتنان، ورزق الله مما أنزله عليهم من المن والسلوى، وفجِّره لهم من الماء؛ وأضيف الرزق إلى اسم الجلالة، ولم يضف إلى الضمير ليوافق "قلنا" للتنبيه بأن هذا الخطاب وجه إليهم بلسان موسى عليه السلام.
و"تعثوا" كترضوا، ماضية عثى كرضى، ومضارعه يعثى كيرضى، وقياس مصدره عثاً على وزن فعل - بالتحريك - غير أن هذا المقيس لم ينقل عن العرب، وإنما المنقول عنهم عُثىُّ - بكسر العين وضمها وتشديد الياء - وعثيان - بالتحريك - هذه هي لغة أهل الحجاز، وعليها أجمع القراء، أما عند غيرهم فهو عثا يعثو عُثوا، نحو سما يسمو سُموا، وأصله مطلق الإِفراط، وغُلِّب على الإِفراط في الفساد، وقيل وهو أشد الفساد، وقيل مطلقه، وعلى الأول فالحال مبينة، وعلى الأخيرين مؤكدة، وحمله الزمخشري على التمادي، وعليه فإن المنهي عنه استمرارهم في الفساد الذي هم واقعون فيه، ويستنتج - على هذا الوجه، وعلى بعض الوجوه السابقة - من هذا النهي أنهم كانوا موغلين في الغي، منهمكين في الفساد - كما هو واضح مما وُصفوا به في الآيات السابقة وغيرها - فنهو عن الاستمرار في هذا الغي، والتمادي في هذا الفساد في معرض الامتنان عليهم بما هم في أشد الحاجة إليه من الطعام والشراب اللذين ساقهما الله إليهم من غير عناء ولا تكلف ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة والامتثال، فإن من شأن المأمور أن يبادر إلى طاعة الآمر، ويتحرى مرضاته عندما يشعر بسوابغ نعمه تحيط به من كل جانب في حال هو فيها أشد ما يكون حاجة إليها، ولكن بني اسرائيل - بما ران عليهم من الضلالة وتراكم على نفوسهم من الهوى - تعفنت فطرهم وخبت عقولهم فلم تزدهم المواعظ إلا بعدا عن الحق ولم يزدهم التذكير إلا ظلما وعتوا.
وبهذا الذي قررته يندفع ما قد يخطر ببالكم من التساؤل؛ لماذا نهو عن أشد الفساد والإِفراط فيه، أو عن التمادي عليه مع وجوب اجتناب الفساد قليله وكثيره وعدم الوقوع فيه رأسا؟ ولعل من فسر العثى بمطلق الفساد نظر إلى الاشتقاق الكبير الذي يجمع بين عثى وعاث مع أن عاث بمعنى أفسد.
والأرض المقصودة هنا هي أرض التيه، لأن شكر النعمة ينعكس أثره الإِيجابي على الأرض التي يحلها الشاكر لما يصدر عنه من خير وصلاح، وكذلك كفرها ينعكس أثره السلبي على موضع حلول الكافر لما يقع منه من شر وفساد، ويجوز أن يراد بالأرض الكرة الأرضية بجميع أجزائها لأن تمادي الناس على الضلالة، وتواطؤهم على الفساد يسكبان الشر الوبيل عليها جميعا:
{ { ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي ٱلنَّاسِ } [الروم: 41]، وهو معهود عندما تنتشر المعصية ولا تجد مقاومة من أحد.