التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

جواهر التفسير

الآية تضع أمامنا صورة من صور التعنت الإِسرائيلي، وضربا من ضروب الانحراف الفكري والسلوكي عند اليهود، فبعد أن أطلقهم الله من قيود الذل وأغلال الهوان الذي كابدوه ردحا من الزمن في ظل الحكم الفرعوني الرهيب، ونقلهم إلى فسيح الحرية ومشارف العز اشتقات نفوسهم المأفونة الى حيث كانوا، مؤثرين التمرغ في أوحال الهوان والانغماس في حمأة الذل مرة أخرى على ما هم فيه من بحبوحة الخير، ورفعة القدر، ونعمة الحرية، وفي هذا يقول الزمخشري: "كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم، فأجموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء".
وأصل هذا الكلام مروي عن قتادة؛ ورده الأستاذ الإِمام بأنه لو كان الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونو يألفون نزعوا الى ما كانوا قد عودوه من قبل, لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عد الله هذا القول في أخطائهم، لأن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة، ولا يعد ما هو من منازع الطباع حراما إذا لم يسقط ذلك في محظور.
ثم قال: وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ... } الخ كل ذلك يدل على أن ما عُدد من أفاعيلهم مع تظافر الآيات بين أيديهم، وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة، واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا".
قال: "والذي يقطع عليهم الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم، وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه، ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم في إخراجهم من مصر وجاء بهم إلى البرية ليهلكهم فلذلك دأبوا على إعناته والإِكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } ويرشد إلى ما فيه من الإِعنات قولهم: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } فقد عبَّر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأت لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده، فكأنهم قالوا: اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد، فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن مع أن نبقى معك إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا، وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر - كما بينا - وطلب للخلاص مما يخشونه على أنفسهم، ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخبارهم".
ويتبين لكم من هذا التحرير أنهم كانوا عصاة متمردين بهذا السؤال، وهو رأي الجمهور، ويدل على صحته استنكار موسى عليه السلام لسؤالهم، ووصفه لهم باختيار الأدنى على الذي هو خير، وذلك في قوله: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }، ويؤيده ما ذكر عقب ذلك أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وما هو إلا عقوبة هذا التعنت وضريبة هذه المكابرة، كما يؤيده ما اختتمت به الآية من تقرير كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير الحق، وما كانوا عليه من العصيان والإِعتداء.
وذهب الفخر الرازي إلى أنهم لم يعصوا قط بهذا السؤال، وعلل ذلك بأشياء:
أولها: أنهم ما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره.
ثانيها: أنهم ربما كانوا في أصل خلقتهم غير متعودين على ذلك النوع، وإنما تعودوا سائر الأنواع، ورغبة الإِنسان فيما اعتاده في أصل تربيته وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده إن كان شريفا.
ثالثها: أنهم ربما لم يقصدوا بسؤالهم هذا نفس الأطعمة التي سألوها ولكنهم ملُّوا البقاء في التيه فطلبوا ما لا يوجد فيه لقصد خروجهم منه إلى البلاد التي بها ما سألوه.
رابعها، أن إدمان الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الإِلتذاذ.
وأكد الفخر ما ذهب إليه بأن القوم أجيبوا بما حكاه الله في قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }، ولو سألوا معصية لما أجيبوا إليها، لأن الإِجابة إليها معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء.
وتكلف الرد على أدلة الجمهور بسفسطات لا أجد داعيا إلى ذكرها.
وذهب أبو حيان مذهب الفخر، وأورد معاني كلامه من غير أن يعزوه إليه. وهذا يتنافى مع ما قرره في خاتمة تفسير الآية الكريمة من أنهم تبرموا من الرزق الذي امتن به عليهم فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم، وأنهم وُبِّخوا على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس....الخ.
وتوسط ابن عشاور بين المذهبين، إذ اعتبر المحكي عنهم دالا على سوء اختيارهم في شهواتهم - والاختيار دليل عقبل اللبيب وإن كان يختار مباحا - مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم، إذ قالوا: { لَن نَّصْبِرَ } فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم للكراهية، وأتوا بما دل عليه (لن) في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن، فإن لن تدخل على استغراق النفي لأزمنة فعل نصبر من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد، وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال، يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين، فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم، وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم، ولم يِرُ هم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال: { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا.
ثم قال: "والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم، وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية، فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف، ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات، على أسبابها، وذلك من نواميس نظام العالم، وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي".
ومن أمعن في ألفاظ الآية وما توحيه من ملابسات هذا القول الصادر منهم يدرك أنه ناشئ عن تعنتهم في الكفر، وإمعانهم في الصدود، وإغماضهم أبصارهم عن آيات الله الداعية إلى الإِيمان، فاستخفافهم بالنعمة جَليُّ في مقولتهم هذه، وكفى بذلك معصية؛ كيف وقد يسرها الله تعالى لهم بطريقة غير عادية هي أدعى إلى الإِيمان والشكر؟ ولا نسلِّم أن ما عوقبوا به من ضرب الذلة والمسكنة عليهم لا يتعدى أن يكون من الأمور العادية المترتبة على مخالفة نظام الحياة فحسب بدليل قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }، وما إنزال المن والسلوى عليهم وهم في التيه إلا من تلك الآيات التي كفروا بها إذ لم يقدروها حق قدرها، فلم يعتبروا بها، بل بقو في عمامهم يترددون وفي ضلالتهم يعمهون، وفي شكهم يغدون ويروحون، وليس أدل على شكهم من هذا الطلب ونحوه، وكفى به إثما مبينا.
ولم أجد دليلا على ما قاله الإِمام ابن عاشور بأن الله لم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد أن كان منهم هذا السؤال، وما ذكره من القصة المشار إليها بالآية في التوراة دال على استمرار إرسال السلوى عليهم.
والطعام بمعنى المطعوم كالعطاء بمعنى المعطي، وقد أرادوا بوحدته عدم تبدله بين يوم وآخر، وهو معهود في التعبير العربي، فإن العرب تقول فيمن لا تتبدل أجناس طعامه الذي يطعمه في كل يوم "فلان يأكل من طعام واحد"، ولو كانت أجناسا متعددة وألوانا مختلفة، فلا إشكال في قولهم هذا مع كونهم يتغذون بجنسين من الطعام هما المنُّ والسَّلوى، وقد أرادوا أن يستبدلوا بهما ما كان مألوفهم من قبل من نباتات الأرض، وبينوه بقولهم: { مِن بَقْلِهَا.... } الخ.
والبقل يصدق على ما يأكله الناس والأنعام من الزروع، ومرادهم به أطائبه كالكرسف والنعناع، والقثاء معروف، وفسَّره الخليل بالخيار؛ والفوم قيل هو الثوم - بالفوقية المثلثة - وهو مروي عن ابن عباس أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وأخرجه ابن جرير عن الربيع بن أنس، وعُضد بأن العرب تعاقب بين الفاء والثاء نحو قولهم: مغافير ومغاثير، وجدف وجدث، وعافور وعاثور، وأثافي وأثاثي، وبقول أمية:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

وقول حسان:

وأنتم اناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل

أي الثوم والبصل، كما عُضد بقراءة ابن مسعود "وثومها" - بالمثلثة - وبه قال الكسائي والفراء والنضر بن شُميل وهو موافق لما في التوراة وأنسب بذكر البصل والعدس.
وقيل: هو الخبر، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي لفظ انه البر أو الحنطة، ومثل هذا الخلاف في الرواية لفظي فحسب، فإن الحنطة والبر مُتحد معناهما وهما أصل للخبر، وتفسير الفوم بالخبز أخرجه ابن جرير عن عطاء، ومجاهد وابن زيد، وأخرج عن أبي مالك والسُّدِّى أنه الحنطة، وعن قتادة والحسن أنه الحب الذي يختبزه الناس، ومن شواهد هذا الباب ما يحكى عن العرب من قولهم "فوِّموا لنا" أي اخبزوا، وقول الشاعر:

قد كنت أحسبني كأغنى واحد ورد المدينة عن زراعة فوم

وفسر ابن دريد الفومة بالسنبلة، وأنشد:

وقال ربيئهم لما أتانا بكفه فومة أو فومتان

وهو لا يختلف عما قبله لاحتواء السنبلة على الحنطة، وفسر بعضهم الفوم بالحمص، وهي لغة شامية، وزعم الزجاج أنه لا خلاف بين أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وهو مردود بما سبق نقله عن بعض أئمة اللغة من خلاف قوله.
ولا يشكل قول من فسره بالخبز مع قولهم: { مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } لأن أصل الخبز - وهو الحنطة أو غيرها من الحبوب - مما تنبت الأرض.
والعدس والبصل معروفان.
وفاعل "قال" ضمير عائد إلى موسى لأن التخاطب بينه وبينهم، وقيل: يعود إلى الله، والأول الظاهر لما سبق، وإن كان الجواب موحىً من الله إليه.
والأصل في الاستبدال أن تأخذ شيئا مكان شيء تعطيه، ومن المعتاد أن لا يكون ذلك إلا ونفس المستبدل فيما تأخذ أرغب وفيما تعطي أزهد، ثم أُطلق في مُطلق التلبس بشيء وترك غيره كاستبدال التائب التقوى بالفجور والطاعة بالعصيان، ومثله أن يأخذ المقاتل سلاحا ويدع غيره، ولا يصاغ فعل من مادته إلا مزيدا، كأبدل، وبدَّل، واستبدل، فكأنه أميت فعله المجرد، والتبدل والاستبدال مترادفان كالتكبر والاستكبار.
وبما أن مدلول البدل ومشتقاته يتعلق بأمرين كانت الأفعال الناشئة عن هذا الأصل تتعدى إلى مفعولين، تارة بنصبهما معا وتارة بنصب أحدهما وجر الآخر بحرف يتعلق بالفعل، وفصل الإِمام ابن عاشور هذا الاختلاف في الاستعمال باختلاف المعاني المقصودة حيث قال: "فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم: 48] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه، نحو قوله تعالى: { { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70]، { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ }، وقولهم: أبدلت الحلقة خاتما، وإذا تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخود والمجرور هو المبذول، نحو قوله هنا: { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ }، وقوله: { وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [البقرة: 108]، وقوله في سورة النساء: { { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } وقد يجر المعمول الثاني بمن التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص:

بُدِّلت من مرد الشباب ملاءة خلقاً وبئس مثوبة المعتاض

وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويُعَدَّى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين ويُنبّه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا وبعد كذا، كقوله تعالى: { { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } [النور: 55] التقدير ليبدلنّ خوفهم أمنا، هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال.
قال: "ووقع في الكشاف عند قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } [النساء: 2] ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عُدِّى إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ، وكان المنصوب هو المتروك والمعطى، فقرره القطب في شرحه بما ظاهره أن بدَّل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا لتبدل واستبدل، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المفعول الثاني بالباء، أحدهما يوافق استعمال تبدل، والآخر بعكسه، والأظهر عندي أنه لا فرق بين بدّل وتبدل واستبدل، وأن كلام الكشاف مشكل، وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة، ولا في كلامه نفسه في كتاب الأساس".
ولم أرَ في كلام الكشاف الذي أشار إليه ما ذكره من الإِشكال فإنه لم يومِ إلى التفرقة بين بدَّل وتبدل في الاستعمال الذي حرره الإِمام ابن عاشور، وإنما أومى إلى ما بينهما من الفرق في المعنى تعقيبا على ما نقله عن السدي في تفسير تبدل الخبيث بالطيب بأنه جعل شاة مهزولة مكان سمينة، فأتبعه صاحب الكشاف قوله: "وهذا ليس بتبدُّل وإنما هو تبديل". ومراده به أنه تبديل لمال اليتيم بوضع شيء مكان شيء، ولا يُستنتج منه ما قاله التفتزاني كما هو واضح لمن تأمل.
و"أدنى" أَفْعَلُ تفضيل من الدنوِّ وهو القرب، ويراد به قِلة القيمة أو عدمها، لأن ما لا قيمة له مبتذل عادة، يمكن لأي يد أن تتناوله، بخلاف ما ارتفعت قيمته، فإنه يحفظ بعيدا عن تناول الأيدي ورؤية الأبصار، ومن ثم استُعمل الدنو والبعد في ضعة القدر وعلوه، وحقارة الهمة وعظمتها، وقيل: من الدناءة بمعنى الرداءة والحقارة؛ وعليه فأصله أدنأ بالهمز فخفف بإبدال الهمزة ألفا وعُضد بقراءة زهير الفرقبي (أدنأ) بالهمز، وهي من شواذ القراءات، وتوهم بعض أنها قراءة للكسائي، ومنشأ هذا الوهم أن زهير المذكور يقال له زهير الكسائي، فأثبت ذلك البعض واوا بين اسمه ونسبه ظانا انها قراءته وقراءة الكسائي القارئ المشهور. أفاد ذلك أبو حيان.
وقيل أصله أدون من الدون بمعنى القرب فقدمت النون وأخرت عنها الواو وأبدلت ألفا لتطرفها وانفتاح ما قبلها؛ وفي هذا القول والذي قبله تكلف واضح وخروج عن الجادة لغير داع.
ومهما قيل في أصل كلمة أدنى، فإن المراد (بالذي هو أدنى) ما طلبوه، والمراد (بالذي هو خير) ما كانوا أوتوه.
ولفظ (خير) للتفضيل، والخيرية المقصودة إما ان تكون باعتبار قيمة المن والسلوى، فإن البقول التي طلبوها لا تسوى شيئا بجانبهما، وإما لكونهما ساقهما إليهم نعمة خالصة، ففي أكلهما استدامة لشكر الله بجانب كونه امتثالا لأمره، بهذا يحصل لهم من الأجر والثواب بسببهما ما لا يحصل بغيرهما؛ وإما لخلوصهما من العناء والتعب، بخلاف ما طلبوه فإنه يستدعي الحرث والسقي والإِصلاح والحصاد، وما كان خاليا من العناء فهو خير مما توقف عليه؛ وإما لأن الطبع أميل إلى ما كان ألذ وأطيب من المطاعم وغيرها، والبون شاسع في ذلك بين ما أوتوه وما سألوه، وإما لخلوص المن والسلوى من شوائب الحُرَمِ والشُّبَه، بخلاف تلك البقول لضرورة زرعها، والزرع يتوقف على البذر والأرض، وهما مما تدخله الحُرَمُ والشُّبه، لإِمكان غصبهما أو سرق البذر أو مرورهما بعقود غير جائزة شرعا، ولا يخفى فضل ما تيقنت حليته على ما احتمل الشبهة والحرام، وإما لأن المن والسلوى أعظم نفعا وأجدى غذاء للأبدان؛ وقد عد أبو حيان في بحره هذه الاعتبارات أقوالا، وأرى كونها وجوها أقرب لعدم تعارضها، وإن أوردها المفسرون متفرقة، وأراها جميعا مقصودة بالخيرية.
والاستفهام للإِنكار، والأمر بهبوط مصر تابع له، فمصدرهما واحد وهو موسى عليه السلام، خلافا لأبي حيان القائل بتقدير محذوف بينهما، أي فدعا موسى ربه قال: { ٱهْبِطُواْ }.
والتعبير بالهبوط لأن القادم إلى بلد كمن ينصب عليه.
والمصر البلد، وأصله الحدُّ بين الأرضين، ويحكى عن أهل هجر أنهم كانوا يكتبون "اشتري الدار بمصورها" أي بحدودها، ومنه قول الشاعر:

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

وقيل هو مأخوذ من مصرت الشاة إذا حلبت كل ما في ضرعها، وسمى به القطر المعروف، وأكثر أهل التفسير على أن المراد به هنا أي مصر من الأمصار، واستدلوا له بصرفه، ولو أريد به القطر المعروف لمنع الصرف كما مُنع في قوله تعالى: { { تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [يوسن: 87]، وقوله: { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ } [يوسف: 99]، وعليه فالمراد من أمرهم بهبوط مصر أن ما طلبوه لا يحتاج إلى دعاء فإن الله يسره لعباده في الأمصار، وما عليهم إن ابتغوه إلا أن ينزلو مصرا من هذه الأمصار فيجدوا فيه طلبتهم.
وقيل: هو القطر المعروف، وهو الذي حكاه أشهب عن مالك، وعُضد أن في قراءة ابن مسعود مصر بدون تنوين وأنه في مصحف أبيٍّ بدون ألف، وأصحاب هذا القول يحملون قراءة الجمهور على تنكير اللفظ وتعريف المعنى، كما يقول القائل: إإتني برجل، ومراده رجل بعينه، واضطربت هنا الأفهام فأرباب القول الأول رأوا أنه لا يمكن أن يكون المراد القطر المصري لعدم ثبوت عودة بني إسرائيل إلى مصر من التيه، والآخرون عارضوهم بما في القرآن من توريث بني إسرائيل أموال فرعون وآله، وأدى هذا الاضطراب بالبعض إلى القول بأن المراد بمصر القرية المقدسة التي أمروا بدخولها، ومؤداه أنكم إن كنتم لا تصبرون على ما ترزقونه في هذا التيه فإنكم أنتم الذين أوقعتم أنفسكم فيه بالتلكؤ عن الجهاد، والتعنت على أمر الله، فما عليكم وأنتم تريدون الخلاص منه إلى أن تأتوا الأمر من طريقه، فتهبطوا إلى المصر الذي أمرتم فيه بمقاومة الجبارين فتكونوا أهلا لما وعدكم الله به من الاستخلاف، وتجدوا هناك كل ما سألتم.
ومنشأ هذا كله جعل الأمر بالهبوط أمرا شرعيا، أي أمر إباحة وهو يتعارض مع ما سبقه من الإِنكار عليهم أن يستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، ومن العجب العجيب أن يستدل مستدل بما في القرآن من توريث بني اسرائيل أموال فرعون وآله على خروجهم من التيه إلى مصر غافلا عما يكتنف هذا الأمر بالهبوط قبله وبعده من الإِنكار والوعيد.
والصحيح أن الأمر بالهبوط هنا ليس أمرا تشريعيا وإنما هو أمر تعجيزي على حد قوله عز وجل:
{ { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } [الإسراء: 50]، وقد أريد به تبكيتهم على نزوعهم إلى مضارب هوانهم ومواطن ذلهم، حيث كانوا يتململون تحت نير القهر، ووطأة العذاب من فرعون وآله، وعليه فمصر هي البلد المعروف ولا إشكال في صرفه لجواز صرف الأعلام الثلاثية المسكنة الوسط لخفتها في النطق وإن استحقت منع الصرف لوجود سببيه، كنوح ولوط، ودعد وهند، ومجيؤه في القرآن غير مصروف تارة لا يمنع صرفه تارة أخرى لأنه من باب التفنن.
أما ما قاله أبو حيان من أن لمصر حكما آخر غير حكم نوح ولوط، ودعد وهند، لأن فيها سببين من أسباب منع الصرف، وفيه ثلاثة أسباب وهي التأنيث والعلمية والعجمة؛ فهو مردود من وجهين:
أولهما: أن جواز صرف تلك الأسماء مع وجود السببين المانعين منه إنما هو لمجرد الخفة في النطق التي يشاركها فيها مصر لأنها ناشئة عن تسكين الوسط.
ثانيهما: أن عجمة مصر التي ادعاها غير مسلَّمة وقد سبق بيان اشتقاقه من الألفاظ العربية وهذا الاشتقاق أورده أبو حيان نفسه.
وليس قوله: { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } تعليلا للأمر ولا جوابا له لاستلزام ذلك الترغيب فيه مع اقتضاء المقام خلافه كما هو واضح من كون الأمر تعجيزيا.
ولا التفات في قوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } على الصحيح وإن خرج الكلام من الخطاب إلى الغيبة لأن المقصودين في الحديث الخطابي الذين تمردوا على أوامر الله ورسوله موسى فحبسوا في التيه لامتناعهم عن مقاتلة الجبارين ودُؤوبهم على العنت، وقد مُثِّلوا في ذريتهم الذين كانوا بالمدينة عند نزول الوحي فخوطبوا من خلالهم والمقصودين بالحديث المسوق مساق الغيبة جميع فئاتهم العاتين عن أمر الله والمناوئين لأنبيائهم في جميع العصور، ويندرج فيهم الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم.
ويتجه لي أن العطف في قوله: { وَضُرِبَتْ... } الخ هو من باب عطف القصة على القصة، ذلك لأن الله حكى قصتهم مع موسى مبتدئا بتنجيتهم من فرعون وآله مقررا ما حصل منهم من كفر وجدل واستخفاف وعصيان، ثم أتبع ذلك تبيان عاقبة أمرهم ونتيجة فعلهم، وهو ما لزمهم من الذلة والمسكنة وما انقلبوا إليه من غضب الله سبحانه وتعالى، وهو لا ينافي ما ذكرته من قبل من الاستدلال بهذا المعطوف على عدم إقرارهم على ما سألوه من إبدال عيشهم بما كانوا آلفيه من قبل لأن ذلك السؤال هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأسباب المذكورة التي أدت بهم إلى هذه العاقبة الوخيمة والنتيجة السيئة، ولأن قرن الأخبار بهذه العاقبة مع جواب موسى لهم موح بأن لسؤالهم أثرا في حصول هذه العاقبة لهم.
والضرب الإِلزام والقضاء، ويرجع أصله إلى وقع جسم على جسم، كضرب اليد بالأرض، ومثله الضرب بالسيف أو العصى، واستُعمل في معان تقتضي شدة اللصوق كالضرب في الأرض بمعنى السير فيها، وضرب القبة والبيت بمعنى شدهما ووثقهما من الأرض، وضرب الطين بالجدار إذا ألصق به، ومنه ضرب لازب، ومادته تدل على الشدة، ويراد بضرب الذلة والمسكنة عليهم إلصاقهما بهم كما يلتصق الطين بالجدار أو إحاطتهم بهما كما تحيط الخيمة بالموضع الذي ضربت فيه، ومن حيث إن حروف الضرب تشي بالشدة، كان اختيار هذا اللفظ على غيره في الإِخبار عما لحقهم من الذل والهوان أعمق في الدلالة على المعنى وأكثر تناسبا مع المقام.
والذلة هوان النفس وصغارها، وهو خلق نفساني دنيء يدفع بصاحبه إلى الاستخذاء والاستكانة للمتسلط الذي يستذله بقهره ويستعبده بجبروته.
والمسكنة ما يظهر من أثر هذا الخلق على البدن من السكون والانزواء اللذين يشيان بالرضى بما يلحق النفس من إذلال المستعبد الجبار وسمى الفقر مسكنة، لأن من شأنه أن يقلل حركة صاحبه؛ وهاتان الصفتان من أسباب خور العزيمة ودنو وتلاشي القوة فلذلك كانتا مكروهتين للمسلم لأنهما لا تليقان بمكانته التي اختاره الله لها، والأمانة التي حمله إياها،
{ { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8].
واليهود من أشد الناس مسكنة وذلة، وقد سلط الله عليهم الأمم، وكتب عليهم الهوان، بعدما أنعم عليهم بالملك والنبوة، فبدلوا نعمة الله كفرا، وجاهروا بمعصيته، ولم يتناهوا عن منكر فعلوه، فقد أغارت عليهم المجوس مرتين ذاقوا فيهما مُرَّ العذاب، فقد قُتِّل رجالهم، وسبيت نساؤهم، واسترقت ذريتهم، ثم وقعوا بعد ذلك تحت نير الحكم الروماني الذي لا يرحم فصُب عليهم العذاب صبا، واستمروا يرزحون تحت وطأة الذل في كل العهود الغابرة حتى جاء العهد النازي القاسي فملأ بهم الأفران، وجعل جثثهم مختبرا لكل تجربة في العذاب، وإنما ابتلى الله بهم عباده المسلمين لتفريطهم في دينهم، واستوائهم معهم في معصية الله، والإِعراض عما أنزل من الهدى، وهكذا يسلط الله من يشاء على من يشاء تأديبا لتكون في ذلك ذكرى لأولي الألباب.
وحمل كثير من المفسرين - أو أكثرهم - الذلة على الجزية التي فرضها الله عليهم في الإِسلام، وهو تفسير بعيد لتنوع بلائهم وتلون ذلهم في جميع العصور المتعاقبة منذ أن بدأ عقاب الله يحيق بهم، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم في جميع الأزمان.
والبوء بمعنى الرجوع كالأوب، والمراد ببوئهم بغضب من الله انقلابهم إليه، وقد سبق معنى الغضب.
وكفرهم بآيات الله هو كفرهم بما أنزل، وبما أجري على أيدي أنبيائه من المعجزات، كمعجزات موسى عليه السلام الشاهدة على صدق نبوته، وهم قد كفروا بالتوراة إذ حرفوها، ودروا كثيرا مما احتوت عليه من الأحكام، وطمسوا ما فيها من بشائر نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، إلا ما فاتهم، بقى متلوا إلى اليوم.
وقتلهم النبيين كان بسبب أمرهم إياهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهو مما ثبت في كتبهم، فقد قتلوا أشعيا بن أموص بنشره على جذع شجرة في عهد الملك منسي سنة (700) قبل الميلاد، وأرمياء الذي رموه بالحجارة حتى مات لأنه وبخهم على منكراتهم، وكان ذلك في أواسط القرن السابع قبل الميلاد، وفي عهد المسيح عليه السلام قتلوا زكريا ويحيى سلام الله عليهما إرضاء لشهواتهم، وهموا بقتل المسيح نفسه لولا أن الله سبحانه حفظه، كما هموا بقتل نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأشكل على بعض المفسرين تمكنهم من قتل النبين مع قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [الصافات: 171-172]، وأجاب بعضهم عن هذا الإِشكال بأن الآية نصت على نصر المرسلين، ولم تنص على نصر النبيين، فكانوا لا يُمكَّنون من قتل من كان نبيا رسولا لوعد الله للرسل بالنصر، وإنما يتمكنون أحيانا من قتل من كان نبيا ولم يكن رسولا.
وهذا الجواب مردود لأمرين:
أولهما: ثوبت النص على قتلهم الرسل في قوله تعالى:
{ { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87].
ثانيهما: أنهم قتلوا من قتلوا من النبيين بسبب دعوتهم إلى الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي هذا ما يدل على أنهم كانوا متحملين برسالة ومؤدين لها على أن الله عز وجل ذكر زكريا ويحيى في ضمن جماعة من الأنبياء، ثم قال:
{ { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } [الأنعام: 89]، وقال في يحيى: { { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 39]، وقال فيه: { { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم: 12]، وفي هذا ما يدل على أنهما كانا نبيين مرسلين.
وإنما يدفع ما ذكروه من الإِشكال حمل النصر الذي وعد الله به المرسلين على نصر دعوتهم بالحجة والبرهان، وكون العاقبة لها، أو أن هذا وعد خاص بالمرسلين الذين فرض عليهم القتال فإنهم ينصرون لا محالة.
والنبي فَعيل من النبأ، واختلف في أصله، فقيل فاعل، وقيل: مفعول، وعلى الأول فهو بمعنى منبئ أي مبلِّغ عن الله تعالى، وعلى الثاني فهو منبأ لأن الملك هو الذي ينبئه عن الله، ويدل على هذا الاشتقاق تصرف مادته نحو قولهم تنبأ مسيلمة، فالهمز أصله وإنما خُففت بإبدالها ياء فأدغمت الياء في الياء، ويعضده قراءة نافع بهمز النبيين، والنبيِّ، والأنبياء، والنبوة، إلا أن قالون - وهو أحد رواييه - أبدل وأدغم في موضعين من سورة الأحزاب:
{ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [الأحزاب: 50]، { { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [الأحزاب: 53]، وقد راعى في الموضعين ثقل اجتماع همزة النبئ والتي تليها فخفف بالإِبدال والإِدغام.
وقيل: إنه مشتق من النَّبوة وهي الرفعة، وعليه فلا همز في أصله ويحتمل كذلك كونه بمعنى فاعل ومعنى مفعول لأنه رافع لمن استجاب له من دركات الضلال إلى ذروة الهدى، ومرفوع القدر عند الله وعند الذين آمنوا.
واختلف في الفرق بينه وبين الرسول، ولدقة الفروق قال من قال بعدم التفرقة، وعليه فهما وصفان لموصوف، فكل نبي رسول، وكل رسول نبي، وهذا القول يتفق مع اعتباره بمعنى فاعل على كلا القولين في أصل اشتقاقه لاستلزام إنبائه عن الله أن يكون مرسلا إلى من أنبأه، وكذا استلزام إرساله إلى من رفعه من دركات الضلال والشك إلى ذروة الهدى واليقين.
والمشهور أن بينهما عموما وخصوصا، فكل رسول نبي ولا عكس لأن النبي من أُنبئ عن الله، سواء أُمر بالتبليغ أم لم يؤمر، والرسول من أُنبئ وأُمر بالتبليغ.
ولا يكون قتل النبيين حقا، فالنص على أنهم قتلوهم بغير الحق ليس للتقييد ولكن لتأكيد المذمة.
وترجع الإِشارة الثانية عند أكثر المفسرين إلى ما رجعت إليه الأولى، وإنما أعيدت للتأكيد، ومعنى ذلك أن ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، وبسبب معصيتهم واعتدائهم، والصحيح أن لها مرجعا غير مرجع سابقتها، فالأولى تشير إلى ضرب الذلة والمسكنة عليهم، والثانية تشير إلى الكفر بآيات الله وتقتيل النبيين بغير الحق، فإن ذلك ناشئ عن معصيتهم لله واعتدائهم حدوده، وهذا كما يقال: "المعاصي بريد الكفر"، فإن من شأن المعصية إذا استخف بها صاحبها وأصر عليها أن تجر إليه نظائرها، فإن النفس إذا انفلتت من حبال التقوى، وخرجت من حظيرة خوف الله لم تكد تقف عند حد من حدود العصيان فتستخف بما كانت تستعظمه، وتستصغر ما كانت تستكبره، وذلك ما يعنيه قول الله تعالى:
{ { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]، فإن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ذكر المعصية وأثرها في القلب، وأن من تاب منها صقل قلبه، ومن استمر عليها ازداد أثرها حتى يغطي على القلب، ثم قال: (فذلكم الران) وتلا الآية، وكفى بهذا داعيا إلى مراقبة القلب ومحاسبة النفس في جميع الأوقات، وفي كل الأحوال، فرب معصية لا يرفع لها العبد شأنا ولا يحسب لها حسابا تهوي به الى الضلال البعيد، وتردي به في العذاب الأليم والعياذ بالله، ولذلك كان ذوو البصائر لا يفتأون يراقبون النفس ويحاسبونها حتى على المباح فضلا عن السيئات.
وتعميم صفة القتل عليهم لأنهم بين قاتل ومقر وموال للقتلة.