التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
-البقرة

جواهر التفسير

كانت الآية السابقة فيضا من أنس اللطف الإِلهي يغشى بالطمأنينة نفوسا زعزعها ما تقدم من قوارع الإِنكار والوعيد، وتبيانا لسببي النجاة من الهلكة، والعصمة من العذاب وهما الإِيمان الراسخ في النفس، وما يترجمه من العمل الصالح وليس في ذلك انقطاع عن الحديث الخاص ببني إسرائيل وتأنيبهم على ما اختاروه من الضلال وكفران النعم التي عُدِّدت في هذا السياق؛ وإن ذكر معهم من ذُكر من أصحاب الديانات الأخرى؛ ومن هنا أخذت الآيات تواصل عرض مساوئهم جامعة بين تهديدهم والامتنان عليهم بالأنعم التي كفروها فانقلبت عليهم نقمة ووبالا.
رفع الطور فوق رؤوس بني إسرائيل
وفي هاتين الآيتين إيماء إلى قصة ذكرت في سورة الأعراف بعبارة أوضح وبيان أوسع وذلك قوله تعالى:
{ { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأعراف: 171]، كما أُشير إليها مرة أخرى في هذه السورة في الآية 93، وفيها ما يدل على أنهم وصلوا في التعنت وقسوة القلوب وانطماس البصائر إلى حد لا يكاد يُرجى معه انثناؤهم إلى الهدى.
وقد عُني المفسرون بشرح هذه القصة وبيان أسبابها، وهم متفقون - إلا من شذ من المتأخرين - أن الله اقتلع الطور من الأرض ورفعه فوق رؤوس بني إسرائيل تهديدا لهم حتى يذعنوا لما طُلب منهم، واختلفوا في سبب هذه الحادثة، فعن ابن زيد أن موسى عليه السلام عندما جاء بني إسرائيل بالألواح فيها كتاب الله عصت بنو إسرائيل أمره بقبول ما جاءهم به وقالوا من يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا فيقول هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، قال: فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون، قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى خذوا كتاب الله، فقالوا: لا، قال: أي شيء أصابكم، قالوا: متنا ثم حيينا، قال: خذوا كتاب الله، قالوا: لا، فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب، وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق.
وعن مجاهد أن ذلك كان عندما أُمروا أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة.
ولم أجد أحدا من القدامى ينكر اقتلاع الجبل ورفعه أعلى الرؤوس كالسحاب، وهو بهذا آية كونية خارقة للمألوف عند الناس من أحوال الكون، ووافقهم على ذلك الإِمام محمد عبده مع ما عهد منه من تفسير الآيات الكونية بما يقرب من المألوف.
وذكر العلامة السيد رشيد رضا أن هذا هو المتبادر من الآية بمعونة السياق إلا أنه جوز أن يكون المراد بالرفع علو الجبل مع رسوخه في الأرض، لأن كل عال يوصف بأنه مرفوع ومرتفع ولو كان متصلا بالأرض، نحو
{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } [الواقعة: 34]، { { سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } [الغاشية: 13]، وذكر أن النتق المذكور في سورة الأعراف ليس نصا في كونه رُفع في الهواء، لأنه لغة الزعزعة والزلزلة، ثم قال: "وإذا صح هذا التأويل لا يكون منكر ارتفاع الجبل في الهواء مكذبا للقرآن".
وهذا الذي جوزه صاحب المنار هو الذي عول عليه الإِمام ابن عاشور مضعفا ما عداه، وهذا نص قوله: "أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب وردعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج، وفي الفصل الخامس من سفر التثنية، فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحاب، ولذلك وُصف في آية الأعراف بقوله: { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } (نتقة: زعزعه ونقضه)، حتي يُخيل إليهم أنه يهتز، وهذا نظير قولهم: "استطاره إذا أزعجه فاضطرب، فأعطوا العهد وامتثلوا بجميع ما أمرهم الله تعالى. وقالوا: "كل ما تكلم به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك الى الأبد"، وليس في كتاب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير".
وكلامه واضح في أنه التبست عنده قصة بقصة، فجعل القصتين قصة واحدة، وهما اندكاك الطور عندما تجلى له الله بآياته الكبرى، ورفعه فوق بني اسرائيل عندما أُخذ عليهم الميثاق، مع أن اختلاف القصتين بيِّن لمن تدبرهما فآية التجلي ذكرت اندكاك الجبل وآيات الميثاق ذكرت رفعه وشتان بين الأمرين، والاستدلال بما عند أهل الكتاب على مقاصد التنزيل غير سديد بعد ثبوت تحريفهم لما أنزل، ولبسهم الحق بالباطل.
ويؤيد قول الجمهور تشبيه الجبل بالظلة - وهي السحابة سميت بذلك لإِظلالها من تحتها - فإن هذا التشبيه لا يتفق مع بقاء الجبل مكانه مستقرا في الأرض كما يؤيده أن الرفع لو أُريد به ما ذكر من علو الجبل لم تكن فائدة من ذكره في هذا السياق، فإن الجبل بحالته الطبيعية ليس مرفوعا في هذه الحالة فحسب ولا على بني إسرائيل فقط، بل ارتفاعه منذ خلق وفوق كل من يأتي تحته، وما ذكر من ظنهم وقوعه بهم ينفي كل لبس في المعنى ويجتث كل شبهة في التأويل لأن الوقوع لغة هو السقوط، والسقوط المخشي إنما هو سقوط ما كان بالجهة العلوية لا بالجهة المحاذية، ومن ناحية أخرى فإن الجبل مع بقائه على حاله متمكن في الأرض بقراره فيها فلا معنى لظنهم - مع ذلك - أنه واقع بهم.
والنتق يطلق على الرفع بالجذب الشديد الذي تكون معه زعزعة كنتق الغرب.
وأخذ الميثاق هو تكليفهم بمضمون التوراة، وقيل: هو ما دل عليه قوله تعالى:
{ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } والآية التي بعدها [البقرة: 83-84] والصحيح الأول بدلالة { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم } عليه.
وكثير من أهل العلم تصوروا إشكالا في القصة حاصلة أن فيما ذكر إكراها على قبول التكليف، والأصل في التكليف أن يكون المكلَّف على حالة يتمكن فيها من القبول والرفض، فإن قبل سعد، وإن رفض شقى، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:
{ { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } [البقرة: 256]، وقوله: { { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [يونس: 99].
واختلفوا في الإِجابة على هذا الإِشكال الذي تصوروه، منهم من قال إن الله خلق في نفوس بني إسرائيل - والجبل مظل فوقهم - الاختيار فاختاروا القبول، ومنهم من قال: إن هذه الحالة لا تعد إكراها إذ لو ظل الجبل كذلك لألفوه كما ألفنا نحن وغيرنا من الناس الأجرام السماوية فوقنا من غير أن نخشى تساقطها علينا، ومنهم من قال بأن عدم الإِكراه في التكليف خاص بهذه الأمة؛ وهي إجابات عارية عن الدليل.
وعد ابن عطية الجواب الأول قاطعا حيث قال: اعتباره لا يصح سواه وتعقبه الشوكاني بقوله: "وهذا تكلف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قدر ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره - قال - وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإِكراه أقوى من هذا أو أشد منه، ونحن نقول أكرههم الله على الإِيمان فآمنوا مكرهين، ورفع منهم العذاب بهذا الإِيمان، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلم بكلمة الإِسلام والسيف مصلت قد هزه حامله على رأسه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإِسلام معتذرا عن قتله لأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح: "أأنت فتشت عن قلبه"، وقال: "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس".
وبهذا الذي قاله الشوكاني ينجلي غيم الإِشكال.
والمراد بالطور الجبل كما في آية الأعراف، وهو عند ابن جرير الطبري اسم عربي لمطلق الجبل، وأنشد قول العجاج:

دانى جناحيه من الطور فمر تقضى البازي إذا البازي كسر

وقيل سرياني وعليه مجاهد، وقيل: هو خاص بالجبل الذي أنزلت عليه التوراة، وهو الذي ناجى الله عليه موسى، وقيل: بما أنبت من الجبال دون مالا ينبت، والقولان مرويان عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحكى الإِمام ابن عاشور أنه قيل بأن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية، ثم قال: فإذا صح ذلك فإطلاقه هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل، كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور.
والأخذ مجاز في التلقي والقبول؛ وما أوتوه هو التوراة أو الشريعة التي تضمنتها، والمؤدى واحد؛ والقوة عبارة عن الإدراك والفهم، والجد والعزم، والتطبيق والعمل، وإلى ذلك يرجع ما قاله المفسرون، كقول ابن أبي نجيح ومجاهد بأنها العمل، وقول أبي العالية إنها الطاعة، وقول قتادة بأنها الجد، والسدى بأنها الجد والاجتهاد، وابن زيد بأنها الصدق والحق، ولا يُعد مثل هذا خلافا كما سبق في المقدمة.
وأكثر المفسرين قالوا بأن جملة { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } معمولة لمحذوف تقديره قائلين، ولم يرد ذلك بعضهم لأن الميثاق نفسه قول.
وطولبوا بأن يذكروا ما فيه ليرسخ في نفوسهم حتى يتحول الى عقيدة في قلوبهم، وشعور في وجدانهم، ونور في بصائرهم، ومنهج لحياتهم، ذلك لأن الذكر منشأ الطاعة والامتثال، والغفلة سبب المعصية والاستخفاف.
والحق أن الذكر أعم من أن يكون باللسان وحدها أو بالقلب وحده، فإن الذكر باللسان سبب لاستقرار المذكور في القلب، والذكر بالقلب هو الذي يترتب عليه ما ذكرته من العزيمة والفهم والتطبيق.
وهذا التلقي لما أنزل الله واجب على كل أمة في كل ما أنزل إليها، وأجدر به من كل الأمم أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام التي خصها الله بأكرم رسول، وأعظم كتاب، وأجمع شريعة، فهي جديرة بأن تترجم ما أنزل الله عليها من الهدى والفرقان ترجمة صادقة شاملة بدقة التطبيق وأبلغ المحافظة، وهذا هو الإِيمان الحق بما أنزل الله والقيام التام بحق الكتاب المنزل.
أمّا ما عنى به الناس من تلاوة الكتاب بأشجى الأنغام مع المحافظة على تجويد الحروف وإحكام مخارجها، واتقان صفاتها فلا يعد ذلك توقيرا للكتاب مع إهمال أحكامه ونسيان أوامره ونواهيه، ولو كان توقير الكتاب ووفاء حقه بهذا الذي عنوا به فحسب لما كانت قيمته تتجاوز الأغاني والأناشيد التي يحرص أصحابها أن تصل إلى مسامع السامعين وأذواقهم بأشجى الألحان وأحسن الإِيقاع، وكتابا لله أجل من ذلك وعن كل ما يتصورون، وقد أُنزل للتطبيق والعمل لا للتسلي واللهو.
و"لعل" تعليلية - كما سبق - مفادها أن اتقاء سخط الله وعذابه مرهون بذكر ما أنزل من كتابه.
والأصل في التوالي أن يكون بالأجسام، وذلك بأن يعرض أحد عمن كان مقبلا عليه فيوليه ظهره، واستعمل مجازا في عصيان الأوامر والنواهي بعد بروز حجتها، كما استُعمل في ترك العمل بعد ممارسته، والآية كاشفة لخبث النفوس اليهودية وانطماس بصائرها، فقد كان منهم هذا التولي بعد أن رأوا الآيات الواضحات، والمعجزات الباهرات، وما اختُصوا به من النعم السابغة والآلاء المتلاحقة، فقد بدلو نعمة الله كفرا، ولم يطيعوا له أمرا، فقتلوا النبيين بغير حق، وشوهوا وجه الكتاب الذي أوتوه بالتحريفات الباطلة، والتأويلات الفاسدة، فكثيرا ما أضافوا إليه ما لم يكن منه، وانتزعوا منه ما علموا حقه وصدقه، لا لداع إلا ابتاع الهوى، والحرص على حطام الدنيا، وإيثار الحماقة والجهل، وهذا من ضروب التولي المقصود بالآية.
وفضل الله فتحه لهم باب التوبة ورحمته توفيقه للتائبين وقبول توبتهم، وقيل: الفضل هو الإِسلام، والرحمة هي القرآن وهو المروي عن أبي العالية، وعليه فالخطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا وروحا، وقيل: الفضل هو الهدى الذي انطوى عليه القرآن، والرحمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أرسله الله رحمة للعالمين، وبنو إسرائيل من العالمين الذين أُرسل إليهم، وقد فُتح لهم باب الإِيمان به وعرفوا صدقه مما بقى عندهم من كتابهم غير مبدل، وعدم إيمانهم به إنما كان من تلقاء أنفسهم وإلا فقد وضحت لهم حجته وأشرقت عليهم معجزته، وقد آمن به من أنعم الله عليه بالتوفيق منهم، كعبد الله بن سلام رضي الله عنه.
والخسران هو خسران الدنيا باستئصال شأفتهم، وخسران الآخرة بسوء العذاب وفوات ما أعده الله للمتقين في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.