التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

جواهر التفسير

هذه من القصص التي تصور لنا التعنت الإِسرائيلي البغيض وما وصلوا إليه من الاستخفاف بأحكام الله، ذكرت هنا وفي سورة الأعراف، وهي هناك أبين عبارة وأوضح دلالة، وذلك قوله تعالى: { { وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف: 163]، وقد خرجت عن اسلوب التذكير بالقصص السابقة التي قرنت بإذ المشيرة إلى زمن القصة مع اشعارهم بتحقق وقوعها ولم أجد من المفسرين من أشار إلى سبب هذه المخالفة في الأسلوب ما عدا الإِمام ابن عاشور الذي عد ذلك من وجوه إعجاز القرآن، وخلاصة ما قاله: أن هذه القصة تختلف عن سابقاتها لأن تلك ضمنتها كتب التوراة كسائر القصص المحكية بإذ، أما هذه فهي غير مسطورة في الأسفار القديمة، وإنما كانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم، ذلك لأنها وقعت في زمن داود عليه السلام فأطلع الله تعالى عليها نبيه صلى الله عليه وسلم بعبارة تؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى، إذ قال: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } فاسند الأمر فيها لعلمهم.
وخلاصتها أن اليهود امروا بتعظيم يوم السبت والتفرغ فيه للعبادة بترك الأعمال الدنيوية كلها، وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أمروا بتعظيم الجمعة فعدلوا عنها إلى السبت، وعليه فإن الله تركهم وما اختاروه فكان ترك العمل في السبت مشروعا لهم، ومن بيت الأعمال التي فرض عليهم ترك صيد الحيتان، وكانوا في قرية على ضفَّة البحر وذكر ابن عاشور أنها أيلة بفتح الهمزة وبتاء التأنيث في آخره - وهي بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام، وتعرف اليوم بالعقبة، وهي غير إيلياء التي هي بيت المقدس - فابتلاهم الله لسابق فسوقهم بأن كانت الحيتان تدنو من الساحل في السبت حتى تشرع خراطيمها إليه وتخفى في سائر الأيام لغوصها في عمق البحار، فصبروا على ذلك برهة، ثم أخذت طائفة منهم تتحايل على اصطيادها، فحفرت حفرا بالساحل وشقت إليها جداول من البحر فإذا مد البحر رمى بمائة وحيتانه في تلك الحفر فتبقى لها الحيتان مع الجزر غير قادرة على العود إلى البحر فإذا كان يوم الأحد أخذوها من تلك الحفر فأكلوها وباعوها في الأسواق.
ومنهم من كان يغرز خشبة بالساحل يشد إليها حيتانا يربطها بخيوط يوم السبت ثم يرسلها في البحر ويعود إليها يوم الأحد فيأخذها، وعندما رأوا إمهال الله إياهم اجترأوا فأخذوا يصيدون يوم السبت جهرة ويبيعون في الأسواق، فانقسم غير هذه الطائفة من بني إسرائيل إلى طائفتين، طائفة جاهرت بالإِنكار، وأخرى ساكتة عاذلة للمنكرين بدعوى أن الطائفة المنتهكة حقت عليها كلمة العذاب، فلا تجدي فيها الموعظة، وذلك ما حكاه الله في قوله:
{ { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 164].
وهذا التحايل نظير تحايلهم على شحوم الإِبل والبقر التي حرمها الله عليهم فأخذوها وجمدوها وباعوها وأكلو أثمانها، وقد لعنهم الله على ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا شاهدا على عظم جرم المتحايلين على الله باستحلال ما حرّم أو إسقاط ما أوجب كالذين يتحايلون على الربا بمختلف الذرائع، أو يتحايلون على إسقاط الزكاة بتمليك الغير ونحوه، أولا يدري أولئك أنهم يخادعون الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء:
{ { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة: 9]، وما أحمق وأضل من سولت له نفسه مثل هذا الخداع غير مكترث بما يترتب عليه من شر المآل في الدنيا والآخرة، ولعمري إن من يجترئ على حرمات الله باتباع هذه المسالك الملتوية لا تقف به قدمه حتى يأتي الحرام الصريح جهرا، كما انتهى الأمر ببني إسرائيل الذي تحايلوا على الصيد في السبت ثم لم يلبثوا حتى صادوا علنا وباعوا في الأسواق.
والأصل في الاعتداء تجاوز حد السير مأخوذ من العدو وتعورف على إطلاقه في مجازه الحدود التي سنها الشرع أو العرف، ولذا أطلق على العسف والظلم وعدم المبالاة بحقوق الغير لما في ذلك من الانطلاق من القيود الدينية والاجتماعية، وهو شرعا مخالفة أوامر الله ونواهيه بترك ما أوجب أو ارتكاب ما حرم لأنها بمثابة الحدود لما يؤتى وما يترك.
والسبت هو اليوم المعروف، وأصله القطع، سُمي بذلك لأن الله سبت فيه خلق كل شيء إذ فرغ من خلق السماوات والأرض يوم الجمعة - على ما قيل - واشتق مه سبت اليهودي إذا عظم يوم السبت، وقيل تسمية اليوم به مأخوذة من سبت بمعنى عظم، وعُضد هذا القول بأن العرب كانت تسمى أيام الأسبوع بغير هذه الأسماء المعهودة وإنما نشأت هذه الأسماء بعدما شاعت المصطلحات الدينية عندهم، ويحتمل أن يكون في الآية اسما لليوم أو مصدرا، وعلى الأول فاعتداؤهم في حكم السبت، وعلى الثاني في نفس السبت - وهو التعظيم - لعدم وفائهم به.
وأُجمل الاعتداء هنا، وفُصِّل في الأعراف كما سبق، وأجملت عقوبته هناك بقوله:
{ { وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [الأعراف: 165]، وفصلت هنا بقوله: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }.
وليس أمره بأن يكونوا قردة أمر تشريع بل أمر تكوين لعدم قدرتهم عليه وإنما هو على حد قوله:
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].
واختُلف في تحولهم إلى قردة، هل كان صوريا بأن تحولت أجسادهم إلى أجساد القردة، أو كان معنويا بأن اتصفوا بصفاتها، والأول هو قول الجمهور، والثاني قول مجاهد، فقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر انه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقردة، كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى:
{ { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5]، واعتمد على هذا القول الإِمام محمد عبده والسيد رشيد رضا، وذهب ابن عاشور إلى احتمال الأمرين قائلا: "والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتأريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تأريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين".
ولم يستبعد الفخر قول مجاهد ولكنه مال إلى قول الجمهور.
ويقوي مذهب الجمهور قوله سبحانه: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 66]، فإن ذلك أنسب بالمسخ الصوري، فهو أردع عن المعصية لما فيه من وضوح سوء العاقبة وأوعظ للنفوس.
أما ما قاله الإِمام محمد عبده، من أنه لا يتم كون تلك العقوبة نكالا للمتقدمين والمتأخرين، وموعظة للمتقين إلا إذا كانت جارية على السنة المطردة في تربية الأمم وتهذيب الطباع وذلك ما هو معروف لأهل البصائر، ومشهور عند عرفاء الأوائل والأواخر، فيتعقب بأن العقوبة كلما كانت أغرب وأبعد عن المألوف كانت ألبغ أثرا في النفوس وأزجر للناس عن الاسترسال في العصيان.
وعدم ذكر القصة في كتب تاريخ العبرانيين لا يوحي بعدم وقوعها، فإن السكوت عن الشيء لا يدل على عدمه.
ومسخ الأجساد لا ينافي مسخ القلوب، فالظاهر أن الله جمع لهم بين العقوبتين، تحول أجسامهم إلى ما يشبه أجسام القردة وتحجر قلوبهم بخروجها عما فُطرت عليه قلوب الناس، وهو معنى قول ابن كثير، "بل الصحيح أنه معنوي صوري".
ومما تجدر الإِشارة إليه أن هؤلاء الممسوخين هلكوا من غير عقب لئلا يظن ظان أن ما يوجد من القردة من أعقابهم، فإن القائلين بمسخ الأجساد اتفقوا - إلا من شذ - أنه لا يكون نسل للممسوخ، ولا تمتد به حياة أكثر من ثلاثة أيام، وهو مقتضى ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن القردة والخنازير أهي مما مسخ فقال:
"إن الله تعالى لم يهلك قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك" .
ولا عبرة بقول من قال بجواز أن تكون هذه القردة منهم وإن انتصر له ابن العربي بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإِبل لم تشرب وإذا وضع لها ألبان الشاء شربت" وبما رواه مسلم أيضا عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بضَبّّ فأبى أن يأكل منه وقال: لا أدري لعله من القرون التي مُسخت" فإن غاية ما في الحديثين أن ذلك مجرد ظن كان منه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله في الحديث الأول "ولا أُراها" وقوله: في الحديث الثاني: "لا أدري" ثم تبين له صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي أوحاه الله إليه أن المسيخ لا يكون له نسل فجزم به في حديث ابن مسعود وظنه صلى الله عليه وسلم لا يعارض قطعهُ.
والخاسئ الذليل المبعد، وفائدة وصفهم بالخسوء دفع توهم أن مسخهم كان لدرء عقوبة الآخرة عنهم.
و"ها" من قوله: { فَجَعَلْنَاهَا } ضمير عائد إلى القردة، وقيل: إلى المسخة أو العقوبة المفهومة من المقام، وقيل: إلى القرية وقيل: إلى الحيتان. وما عدا القول الأول ضعيف لعدم سبق ذكر لشيء من ذلك.
وأصل النكال المنع - ومنه النِّكل للقيد لمنعه المقيد من الانطلاق - سمي به العقاب لمنعه العاصي من العودة إلى المعصية وغير العاصي من الوقوع فيها.
واختلف كذلك في ضمير يديها وخلفها، وفي المعنى المراد بهما، قيل هو عائد إلى القردة، والمراد (بما بين يديها) من حضرهم و(بما خلفها) من يأتي بعدهم، ولا إشكال في استعمال ما للعاقل، وهو أصح ما قيل، وقيل: { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من سبقهم من الأمم و { وَمَا خَلْفَهَا } من يأتي بعدهم، واستشكله أبن كثير لتعذر أن تكون هذه الحادثة التي حلت بهم عبرة لمن سبقهم، إذ كيف يعلمونها؟ ولا إشكال في ذلك من هذه الناحية لاحتمال أن تكون مذكورة في زبر الأولين، وقد أورد ذلك ابن كثير نفسه وإنما يستبعد هذا التأويل لمعارضته ما تدل عليه الفاء من قوله: { فَجَعَلْنَاهَا } من الترتيب، فلا يكون الجعل سابقا على الحادثة، وقيل: الضمير فيهما عائد إلى القرية، والمراد ببين يديها ما قرب منها من القرى، وبما خلفها ما بعد وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجحه ابن كثير، وضعفه واضح إذ لم يسبق للقرية ذكر، ولم تدل عليها قرينة، وقيل: هو للعقوبة أو المسخة، والمراد ببين يديها تلك الذنوب التي قارفوها، وبما خلفها ما أشبهها من الذنوب بعدها، وضعف هذا من وجهين:
أولهما: عدم تقدم ذكر العقوبة أو المسخة باسمها الصريح حتى يرد اليها الضمير.
ثانيهما: أن هذه العقوبة لم تكن نكالا لتلك الذنوب عينها لأنها قد قورفت فهي واقعة فعلا.
والموعظة ما دعا إلى الاعتبار وبعث على الاستعبار من كلمات نافعة أو أحداث رادعة وأصلها بالقول المرقق للقلوب الباعث على الخير، الزاجر عن ضده، ثم أطلقت على كل ما أثر في النفس هذا الأثر كالمنايا وسائر الأحداث:

ليس العظات بما يقول مذكر مثل العظات بمصرع الأعمار

وتخصيص الموعظة بالمتقين لأنهم هم المستفيدون منها بتأثرهم بها.