التفاسير

< >
عرض

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٧
-البقرة

جواهر التفسير

كان الحديث فيما تقدم موجها إلى بني إسرائيل بأسلوب الخطاب الجامع بين تذكيرهم بالنعم، والتشهير بهم بكفرانها، وإحضار ما كانوا يرونه من الآيات الداعية إلى الإِيمان، الرادعة عن العصيان، وتقريعهم على التعنت المستمر - مع ما كانوا يشاهدونه - وصدودهم عن أوامر الحق حتى يلجأوا إلى قبولها بما لا يدع لهم مناصا عن القبول؛ وهنا ثُني عنان الخطاب إلى مسامع المؤمنين ليتلى عليها جانب آخر من مساوئ بني اسرائيل، تحذيرا من دسائسهم، وتنفيرا من صنيعهم، وفي أثناء هذا السرد الطويل لسيئات اليهود وسوآتهم تأتي وقفات يواجهون فيها بالخطاب، كما وُوجهوا به من قبل.
وبما أن أهل الكتاب على بقية من علم النبوات لما بقى في أيديهم، على أصله من الكتاب الذي أوتوه، كان المؤمنون يرجون منهم المسارعة إلى الإِيمان بالنبي الخاتم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإِنجيل، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، إذ ليس شأنهم في ذلك كشأن العرب الأميين الذين طال بهم العهد في ظلمات الجاهلية، فلم يبق لهم شيء من نور الوحي يهتدون به، فعدواتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناشئة عن جهلهم الذي يشامله أحيانا الحسد الناشئ عن تنافس البيوتات في الشرف والرفعة.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خفيا عند أهل الكتاب، فإن الله قد أودع ما عندهم من الكتاب من نعوته الكاشفة عن حقيقة أمره وآياته الدالة على صدق نبوته ما لا يدع لهم مجالا للشك فيه، ولا عذرا في ترك تصديقه ومناصرته على ما جاء به من الحق، كيف وهم أقرب الناس عهدا بالنبوات والوحي؟ وقد أخذ الله عليهم الميثاق بألسنة أنبيائهم أن يؤمنوا به ويناصروه:
{ { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 81-82]، وهذا العهد وإن كان في ظاهره مأخوذا على النبيين فهو في حقيقته، مأخوذ على أممهم لأن الله علم أن أولئك النبيين لن يدركوا عهد نبوته عليه أفضل الصلاة والسلام، وإنما تدركه أعقاب أممهم، فكان هذا الواجب حتما عليهم، وهذا العهد لازما في رقابهم، وما كونه على ألسنة النبيين دونهم إلا إمعان في توكيده، فإن الهدى لم يأتهم إلا من طريقهم، والحق لم يدركوه إلا ببيانهم، فنكثهم لهذا العهد ما هو إلا رد لما جاءهم به أنبياؤهم من الحق والهدى.
وقد ظل صوت البشارة الإِلهية بمبعث خاتم النبيين يتردد في أسماع أهل الكتاب من تلاوة الكتاب الذي أوتوه لم يُخفته التحريف الذي شوه وجه ذلك الكتاب، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، متطلعين إلى مبعثه بكل لهفة وشوق، غير أن الحسد بأن كان من ولد إسماعيل ولم يكن من ولد إسرائيل هو الذي حال بينهم وبين اتباعه عندما منّ الله به على الإِنسانية.
ونظرا إلى ما كان بأيديهم من الحق الذي أنزله الله على النبيين وقرب عهدهم بالرسالات كان المسلمون يميلون إليهم بأفئدتهم، ويتعاطفون معهم في محنتهم، فلذلك حزن المسلمون عندما ارتد الجيش الرومي النصراني القهقري أمام الزحف الساساني المجوسي، لأن المجوس - وإن قال من قال بأن أصولهم الدينينة ترجع إلى وحي سماوي - هم أبعد عهدا بالنبوات وأشد كفرانا من أهل الكتاب - اليهود والنصارى - ولكن المسلمين أصيبوا بصدمة مؤلمة عندما وجدوا أهل الكتاب - وخصوصا اليهود - يقفون في وجه دعوة الحق وقفة عداء لا يقل عن عداء المجوس ومشركي العرب ولم يكتفوا بتجاهل ما عندهم من العلم بنبوته صلى الله عليه وسلم وإنكاره، بل أخذوا يؤلبون عليه المشركين، وعندما سألتهم قريش هل نحن أهدى أو محمد وأصحابه؟ قالوا: بل أنتم أهدى منهم.
{ { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [النساء: 51]، وبعد سرد مناكرهم المتنوعة في قصتهم الطويلة المذكورة من قبل جاءت تسلية المؤمنين في هذه الآية عما كانوا يطمعون فيه من إيمانهم بأسلوب الاستفهام التعجيبي المشوب بالإِنكار، أي إذا كانت هذه قصتهم مع النبي الذي أنجاهم الله تعالى به من أشرس عدو، وأراهم على يديه أعجب الآيات، وأسبغ عليهم في ظل دعوته صنوف الآلاء، فيكف تطمعون مع ذلك في إيمانهم؟ وهذا كما تُحدِّث أحدا بمساوئ أحد وبعد استطرادك في تعدادها تخاطب كليمك بقولك أفتطمع مع هذا كله في استقامته وإقلاعه عن غيه.
وذهب الإِمام ابن عاشور إلى أن هذه الآية وما بعدها إلى آية (82) اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } فجميع الجمل في هذه الآيات داخلة في هذا الاستطراد.
والصحيح ما قدمته لأن تخلل هذه الجمل الكثيرة ذات المعاني المختلفة بين قصتين متناسقتين لا يتلاءم مع انسجام الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض كما هو شأن بليغ البيان فضلا عن القرآن الذي يسمو فوق كل كلام بسلاسة أسلوبه، وترابط حروفه وكلماته، فضلا عن جمله وآياته.
ومن حيث إن عدم إيمان أهل الكتاب بما يدعوهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لم يكن ناشئا إلا عن هوى في نفوسهم، وعناد مردوا عليه حتى أصبح كالأمر الجبلي فيهم، وإلا فالدعوة واضحة، والحجة ساطعة، ذهب الإِمام محمد عبده إلى أن الحديث لم يزل في معرض بيان هداية الكتاب وانقسام الناس تجاهه إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من قبل في صدر السورة، فكلما بعد العهد عن ذلك جاء ما يذكر به تذكيرا.
والفاء لتفريع الاستفهام بما تضمنه من التعجيب المشوب بالإِنكار عن جملة: { ثُمَّ قَسَتْ... } الخ، أو عن جميع القصة المسرودة بكل ما تضمنته من أحداث لأنها جميعا داعية إلى اليأس من إيمانهم.
والطمع المبالغة في الرجاء الناشئ عن تعلق القلب بالمرجو فهو أخص من مطلق الرجاء، لأن الرجاء كثيرا ما يكون مقترنا بسبب، أما الطمع فهو مقطوع عن الأسباب ما عدا الشغف بالمطلوب.
وما ذُكر لا ينافي وجوب دعوتهم إلى الإِيمان لأن هذه هي مهمة المرسلين وأتباعهم، وذلك كما قال الحق تعالى:
{ { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ.. } [يس: 6] إلى قوله: { { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [يس: 10]، فما على المرسلين وأتباعهم إلا إبلاغ الدعوة وإقامة الحجة، والإِعذار بالبشارة والإِنذار، { { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا ٱلْحِسَابُ } [الرعد: 40]، وإنما يستفاد من الآية الكريمة نهي المؤمنين عن الاسترسال في رجاء إيمانهم إلى حد أن يتخذوا منهم بطانة لما يترتب على ذلك من المفاسد في الدنيا والدين.
وقد سبق الكلام في الإِيمان وهو هنا مضمن معنى الاستجابة، وفي هذا جواب على سؤالين:
أولهما: تعدية الإِيمان باللام مع أن الأصل فيه أن يعدى بالباء، وهذا نحو قوله تعالى:
{ { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت: 26].
ثانيهما: أن المؤمنين لم يكونوا يدعونهم إلى أن يؤمنوا بهم، وإنما كانوا يدعونهم إلى ما يقتضيه الدين من الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والعمل بمقتضى ذلك.
وذهب العلامة ابن عاشور إلى أن اللام في { لكم } لتضمين { يؤمنوا } معنى يقروا قال: "وكأن فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويلحدون على نحو قوله تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ... } الآية [البقرة: 146]، فما أبدع نسج القرآن، ويجوز حمل اللام على التعليل، وجعل "يؤمنوا" منزل منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم، أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم".
والواو في قوله: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ... } الخ، للحال، وما وليها قيد لما في الإِستفهام من التعجيب والإِنكار.
والفريق البعض المفارق للكل كالفرقة والفرق، وإنما الفريق أكثر منهما، وهو في الثلاثة الأوزان بمعنى مفعول.
واختلف في المراد بكلام الله الذي سمعه هذا الفريق ثم حرفه من بعد ما عقله، قيل المراد به كلامه تعالى لموسى عليه السلام في الطور، والفريق هم السبعون الذين صحبوه إلى ميقات ربه، وسألوه رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة، وذلك أنهم قالوا لموسى عليه السلام قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا فأسمعنا كلامه حين يكلمك، فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى، فقال: نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا، ففعلوا لك ثم خرج بهم حتى أتوْا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا، وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا، ثم انصرف بهم إلى بني اسرائيل فلما جاؤوهم حرف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني اسرائيل إن الله أمركم بكذا وكذا، قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا، خلافا لما قال الله عز وجل لهم. روى ذلك محمد ابن اسحاق عن بعض أهل العلم، وهو يقتضي أن السبعين سمعوا كلام الله كما سمعه موسى عليه السلام، واختار هذا القول الإِمام أبو السعود وعضده بأن اسم الكلام أدل على المذكور منه على التوراة، لأنها باسم الكتاب أشهر، ووصف اليهود بتلاوتها أكثر، لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف، فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع، فكان الأنسب لو كانت هي المقصودة بالكلام أن يقال يتلون كتاب الله.
وضعّف كل من ابن عطية والقرطبي هذا القول وقالا بتخطئة من قال إن السبعين سمعوا ما سمعه موسى عليه السلام من كلام الله لأن في قوله إذهابا لفضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم، ونحوه ما قاله الإِمام ابن عاشور وصححه الألوسي وهو أن سماع الكلام كان خاصا بموسى عليه السلام، وذهب قطب الأئمة في الهيميان إلى جواز سماعهم كلام الله مع موسى عليه السلام، وأن ذلك لا يبطل خصوصية موسى بالتكليم لأن الخطاب إنما كان لموسى لا لهم معه، ولو كان بصيغة خطابهم، وإنما خاطبه بما يفعل ويفعلون، وما يترك وما يتركون، ووجه الكلام إليه وهم يسمعون بإذن الله تعالى.
وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة ببسط في سورة الأعراف.
وقيل المراد به التوراة لأنها من وحي الله وتنزيله، ويصدق عليها أنها كلامه تعالى، كما قال الله في القرآن
{ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة: 6]، وعليه فهذا الفريق من أحبارهم الذين كانوا يتلون التوراة، وكانت ألفاظها ترن على أسماعهم بتلاوة كل منهم لها، وبسماع بعضهم إياها من تلاوة بعض، ثم يحرفونها بعدما وعوا مقاصدها، وأدركوا مراشدها بتبديل كلمها وتوجيه تأويلها الى غير مراد الله، كما حرفوا نعوت النبي عليه أفضل الصلاة والسلام حسدا له ولقومه، وكان صدور ذلك منهم بعد عقلهم للمراد بها، ومع علمهم أنها عهد الله إليهم، وبما يترتب على قطع هذا العهد من سخط الله الموجب لعقوبته.
وهذا القول أظهر مما قبله فإن الخطاب موجه الى المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يطمعون في إيمان معاصريهم من أهل الكتاب، والمراد به بيان أن هذا الطمع ليس في محله لأن إعراض أهل الكتاب عن الإِيمان ليس ناتجا عن جهلهم بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام وصدقه فيما يقوله عن ربه، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما يجدونه من صفاته فيما أنزل إلى أنبيائهم واتمنوه من كتاب ربهم، وإنما هو ناشئ عن الحسد الذي أدى بهم إلى تحريف ما بأيديهم من الكتاب، وطمس ما فيه من البشائر ببعثته صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف ينطبق على من كان في عهد الرسالة من أهل الكتاب، ولا ينطبق عليهم أنهم سمعوا كلام الله لموسى في الطور ثم حرفوه.
وبعد هذا الكلام في اليهود عامة عُطف عليه ما يخص طائفة منهم، وهم الذين تقمصوا الإِسلام ليتمكنوا من حربه من الداخل باطلاعهم على أسرار أبنائه بما يكون بينهم من الإِختلاط، وهم المنافقون الذين تحدثت عنهم هذه السورة حديثا مسهبا في فاتحتها، وقد تقدم هناك أن معظم المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا من العنصر اليهودي، ولا إشكال في عطف حديث يخص البعض على ما يشملهم مع غيرهم من مجموعتهم لأن القرائن هي التي تبين ما يقصد بكل جانب من الحديث، وهذا كمخاطبة مجموعة من الناس بخطاب واحد له وجوه من المقاصد لكل طائفة من تلك المجموعة وجه منها، لأن القرائن هي التي تعين المعنيين بكل وجه، ومثل ذلك قوله تعالى:
{ { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [البقرة: 232]، فإن صدر الخطاب موجه إلى الأزواج لأنهم هم الذين يصدر منهم الطلاق، وآخره موجه إلى الأولياء لأنهم هم الذين يمكنهم العضل.
ويستفاد من الآية أن منافقي اليهود كانوا يسترسلون في حديثهم مع المسلمين إذا اختلطوا بهم وادعوا أنهم مثلهم في إيمانهم بالحق الذي أنزل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وأن الإِسترسال يؤدي بهم إلى كشف بعض الحقائق التي يبطنونها من علم الكتاب الذي بأيديهم، كالعهود التي أخذها الله عليهم، والأحكام التي حكم بها تعالى عليهم فإذا خلوا بأنفسهم أو مع أوليائهم - وهم الذين سماهم الله شياطين في صدر السورة - تلاوموا على ذلك وأنكر بعضهم على بعض كشف هذه الأسرار.
والفتح هو الحكم في لغة أهل اليمن، ومنه تسميتهم القاضي فتاحا، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما كنت أعرف معنى قوله تعالى:
{ { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [الأعراف: 89]، حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك أي أحاكمك، ومن إعجاز القرآن نزوله جامعا لخلاصة لغات العرب ومحاسنها.
وعليه فالمراد بما فتح عليهم ما ابتلاهم به من صنوف العذاب وضروب المحن نكالا من عند الله لكفرهم بآياته وتعنتهم على رسله، أو ما أوجبه عليهم من الإِيمان بنبوة خاتم النبيين عند بعثته.
وقيل الفتح هنا على أصله المعروف عند سائر العرب، وهو ضد الإِغلاق، وعليه، فالمقصود في الآية ما أفاضه الله عليهم من المعارف الإِلهية التي من بينها علم نبوة النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإِنجيل، وشمول رسالته، وعموم دعوته.
وقد قيل: إن مرادهم بقولهم عند لقاء المؤمنين { آمَنَّا } أنهم آمنوا بصدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه غير أنهم يدعون أن نبوته لا تتعدى العرب وحدهم، فلا تشمل بني اسرائيل وغيرهم من شعوب الأرض، وفي أثناء هذا الإِعتراف بنبوته صلى الله عليه وسلم المحصورة في العرب - حسب زعمهم - كانت تتساقط من أفواههم كلمات عما يجدونه من وصفه فيما عندهم من الكتاب، وهي قاضية بضد ما يدعون من انحصار نبوته بين قومه لدلالتها على شمول رسالته التي يأتي بها للعالمين على أن الاعتراف بصدقه يقتضي تصديقه في كل شيء، ومن ذلك أن رسالته موجهة إلى جميع الناس كافة لدلالة الكتاب الحق الذي جاء به على ذلك في نصوص شتى، منها قوله تعالى:
{ { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]، وقوله: { { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 90 - يوسف: 104 - ص: 87 - التكوير: 27]، فلذلك يتلاومون في خلواتهم على هذا الاعتراف الصادر منهم لئلا يكون حجة للمؤمنين عليهم عند ربهم.
والعندية هنا بمعنى الحكم، كما يقول الفقيه هذه المسألة عندي كذا، أو هذا القول عندي صحيح أو راجح أو مرجوح، ومنه قوله تعالى:
{ { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [النور: 13]، أي في حكمه تعالى، وقيل: هي بمعنى في.
وقيل: بأن العندية هنا على بابها من الظرفية، ومرادهم بها عندية، التحاكم إلى الله، وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإِيمان به، وأيد هذا الإمام ابن عاشور، وعده المناسب لقوله: { لِيُحَآجُّوكُم }، ثم قال: وذلك جار على حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه، وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية، فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم، وتجد كتبهم ملأى على أن الله ظهر له كذا، وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون، وكقولهم في سفر التكوين، وقال الرب هو ذا الإِنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر؛ وقال فيه: ورأى الرب أن شر الإِنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإِنسان في الأرض، وتأسف في قلبه فقال: أمحو عن وجه الأرض الذي خلقته - وبعد ذكره أمثلة من هذه الكفريات اليهودية قال: فما ظنك بقوم هذه عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة.
وبهذا الذي ذكره من معتقدات اليهود في ربهم تظهر صحة هذا التأويل، ويسقط اعتراض الذين اعترضوه - من علماء التفسير كالبيضاوي - بدعوى أنهم كانوا يعرفون ربهم فما كان لهم أن يظنو خفاء شيء عن علمه.
وفي اختتام الآية بقوله: { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } تأييد ظاهر لهذا القول.
هذا، وفي التفاسير المأثورة أقوال في سبب نزول الآية، وفيما يراد بها، فعن ابن زيد عند ابن جرير أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن، فكان اليهود يظهرون الإِيمان فيدخلون ويرجعون إلى قومهم بالأخبار، وكان المؤمنون يقولون لهم: أليس الله قد قال في التوراة كذا وكذا؟ فيقولون: نعم، فإذا رجعوا إلى قومهم { قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ... }" الآية.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وبعد بن حميد عن مجاهد أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام لقوم قريظة تحت حصونهم، فقال: يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت، فقالوا من أخبر هذا الأمر محمدا؟ ما خرج هذا الأمر إلا منكم { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي بما حكم الله ليكون لهم حجة عليكم.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية في ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم، وأخرج ابن اسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا } أي بصاحبكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه إليكم خاصة، وإذا خلا بعضكم الى بعض قالوا لا تحدثوا العرب بهذا، فقد كنتم تستفتحون به عليهم وكان منهم ليحاجوكم به عند ربكم، أي تقرون به أنه نبي، وقد علمتم أنه أخذ عليكم الميثاق باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كان ينتظر، ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به، وأخرج ابن جرير عنه أن هذه الآية نزلت في المنافقين من اليهود، والمراد: { بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } ما أكرمكم به، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا }، قال هم اليهود.
وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فصانعوهم بذلك ليرضوا عنهم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض نهى بعضهم بعضا أن يحدثوا بما فتح الله عليهم، وبين لهم في كتابه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوته، وقالوا إنكم إذا فعلتم ذلك احتجوا بذلك عليكم عند ربكم.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة أن سبب نزول الآية امرأة من اليهود أصابت فاحشة فجاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم يبتغون منه الحكم رجاء الرخصة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عالمهم وهو ابن صوريا فقال له: احكم، قال فجبوه - والتجبية يحملونه على حمار ويجعلون وجهه إلى ذنب الحمار - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أبحكم الله حكمت؟ قال: لا ولكن نساءنا كن حساناً فأسرع فيهن رجالنا فغيرنا الحكم، وفيه نزل: { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ... }" الآية.
وأكثر هذه الأقوال المروية موافق للأقوال التي أوردتها سابقا، وإنما فيها بيان سبب نزول الآية، والأسباب المذكورة في هذه الروايات متعارضة، وأنتم تدرون أن معظم هذه الروايات منقطعة الأسانيد، فلا تقوم بها حجة تقوم بها حجة في تعيين ذات السبب على أن كثيرا من الصحابة أنفسهم يقولون بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا، وهم لا يعنون بذلك إلا صدقها على حكم تلك الحادثة، وقد يكون الصحابي لا علم له بنزول آية ما حتى تعرض قضية فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوها إبان ذلك، فيظن أنها نزلت من أجل تلك القضية، وقد سبق بيان ذلك في مقدمة التفسير والحمد لله.
والحجة الدليل الواضح مأخوذة من محجة الطريق، لأن كلا منهما موصل الى القصد، وإنما يفرق بينهما أن الوضوح والإِيصال في الحجة معنويان، وفي المحجة حسيان، والمفاعلة المصوغة منها ليست هنا على بابها من المشاركة، وإنما هي للمبالغة، كما في خادع بمعنى خدع، وقد سبق بيان ذلك.
وقوله: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } استفهام إنكاري مراد به التحديث بما فتح الله عليهم، فهو في مقولتهم المحكية، وإن قال بعض أهل التفسير بأنه من مقول الله تعالى الموجه إلى المؤمنين إنكارا لطمعهم في إيمان أولئك، وهو غير سائغ لأنه لم يؤلف في خطاب الله سبحانه لعباده المؤمنين إلا لطف العبارة، ورقة الأسلوب، ولو في مقام العتاب، فلا يتفق ذلك مع تقريعهم بمثل هذا الخطاب العنيف الموحى بأنهم نزلوا منزلة غير العقلاء. كيف ومن بين المخاطبين - لو صح أن الخطاب لهم - سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلغ ذروة الكمال العقلي والسمو النفسي؟ على أن المؤمنين لم يدفعهم إلى هذا الطمع في إيمان أهل الكتاب، غير ما هم مجبولون عليه من حب هداية البشر مع ما يعرفونه عن أهل الكتاب من مزايا اختصوا بها كعلم النبوات وتوفر البشائر عندهم بمبعث خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وقوله: { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } إنكارا لما ذكر عنهم من التلون في حال ملاقاة المؤمنين وخلوهم إلى اخوانهم من الكافرين بحيث يلقون هؤلاء بوجه وأولئك بآخر فإن هذا التصرف من شأنه أن لا يصدر إلا ممن يظن أن حيلته ومكره يحولان بين ما هم آتُوه وعلم الله سبحانه، وإذا كانوا من ضلال الفكر وزيغ العقيدة بحيث يحسبون أن الله سبحانه تخفى عليه الخوافي من أعمالهم بسبب تحريفهم للكتاب، ووصفهم الحق تعالى بما لا يليق بعضهم جلاله وعلو شأنه، فإن آيات الله في أنفسهم وفيما حولهم من مخلوقاته تنادي عليهم بالإِفك، وتشهد عليهم بالضلال، فلو ألقوا نظرة الى شيء منها لأدركوا أن الله سبحانه يعلم السريرة كالعلانية، ويحيط بالجزئيات كالكليات، فلا مفر لهم منه، ولا مناص لهم عن عقابه، فهو سبحانه يعلم ما يسرونه من الكفر كما يعلم ما يظهرونه من دعاوى الإِيمان.
وقدم هنا ذكر ما يسر على ما يعلن، بخلافه في قوله تعالى:
{ { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } [البقرة: 284]، لأجل التأكيد هنا بأن الله يعلم السريرة كالعلانية عكس ما يتوهمون، ولأن قوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } في معرض ذكر الحساب، والحساب يبدأ بالأعمال الظاهرة ثم بالخفايا.