التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
٨٨
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٨٩
-البقرة

جواهر التفسير

انتقل الكلام من خطاب بني إسرائيل بتقريعهم على ما ارتكبوا، وتوبيخهم على ما ضيعوا، إلى التحدث عنهم حديث الغائب عن الغائب مع سرد مجموعة أخرى من أعمالهم المنكرة، وأحوالهم العجيبة، والانتقال من الخطاب إلى الغيبة ضرب من ضروب الالتفات الذي سبق الكلام فيه كضده، ونكتته هنا أن الخطاب لا يخلو عادة من تكريم المخاطب، والعناية به، ومن حيث إنهم وقعوا فيما وقعوا فيه من ذل المعصية وهوان الخذلان، كانوا بمنأى عن استحقاق العناية بهم واستئهال الالتفات إليهم، فكان الحديث عنهم حريا بأن يوجه إلى غيرهم للاعتبار بأحوالهم، والاتعاظ بما حاق بهم، فهو مشعر بطردهم من ساحات التكريم، والالقاء بهم في زوايا الإِهمال.
وضم العلامة ابن عاشور إلى هذه النكتة نكتة أخرى، وهي أن مواجهتهم بالخطاب كانت حال تذكيرهم بما سلف منهم مع الأنبياء الذين بعثوا إليهم خاصة من بين جلدتهم، وعندما جاء دور تقريعهم على سوء مواجهتهم لدعوة النبي الأمي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام الذي يجدونه مكتوبا عندهم فيما جاء به أنبياؤهم عن الله أجرى الخطاب بأسلوب الغيبة للإِيذان بالانتقال من أمر إلى آخر.
وجوز الألوسي وابن عاشور عطف جملة: { قَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } على كل من { ٱسْتَكْبَرْتُمْ } أو { كَذَّبْتُمْ }؛ قال ابن عاشور: "فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار، أي يكون على تقدير عطفه على كذبتم من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع، تكذيب، وتقتيل، وإعراض". وأشار الألوسي إلى مثل ما قاله، والصحيح عندي خلاف ما قالاه؛ فإن ما ذكر قبل هذه الآية إنما هو من أحوالهم الغابرة في سلسلة جرائرهم وتحدياتهم للنبيين الذين أرسلوا إليهم من قبل، أما هذه الآية والآيات الثلاث بعدها فهي تتحدث عن أحوالهم الحاضرة عندما كانوا يواجهون دعوة النبي الأمي صلوات الله وسلامه عليه بأنواع المؤامرات، ويرمونها بقذائف التشكيك، وكما أنه لا يجوز جعل قوله تعالى: { لَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ... } الآية وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } المعطوفين على قوله: { قَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } بيانا للاستكبار المذكور في الآية السابقة، للتفاوت في الأزمان فإنه من غير الجائز أيضا أن يكون قوله: { قَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } بيانا له، فإن العطف يقتضي تشريك المعطوف مع المعطوف عليه في الحكم الذي ذكر له، سواء كان عطف مفرد على مفرد أو جملة على جملة، وإنما الوجه في ذلك أن هذه الآية وما بعدها من الآيات الثلاث معطوفة على: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ } عطف القصة على القصة.
والمراد بالقلوب هنا العقول كما سبق، والغلف جمع أغلف، وهو الذي غُلِّف بالغلاف الشديد بحيث يقيه نفاذ أي شيء إليه، ومرادهم بهذا القول أن ييأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من تأثير دعوته في نفوسهم، ولا يبعد أن يكونوا مشيرين بذلك إلى أن هذه الدعوة خطر يتوقونه، فإن من شأن الغلاف أن يصان فيه الشيء الثمين مما يكره أن يصل إليه من الأذى فيتلفه أو يفسده، ومثل ذلك قول المشركين:
{ { قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [فصلت: 5].
وقرأ ابن عباس والأعمش وابن محيصن "غُلُفُ" - بضم اللام - ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو من القراء السبعة، وعليها فهو جمع غلاف ككتاب وكتب، وحمل بعضهم قراءة الجمهور على هذا المعنى، وعدَّ التسكين للتخفيف، وبناء على ذلك يكون مرادهم أن قلوبهم أوعية يختزن فيها العلم، فلا حاجة لهم - مع ما حوته - إلى ما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبينه لهم، أو أنهم ما كان ليفوت مداركهم ما يدعوهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لو كان حقا، وفي هذا إيماء إلى تكذيبه عليه أفضل الصلاة والسلام بالأسلوب الكنائي.
وعلى جميع هذه الوجوه فقوله: { بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } رد على دعواهم، أما على القول الأول - وهو الصحيح - فمقتضى الرد عليهم أن قلوبهم كسائر القلوب من حيث تكوينها الخِلْقي فهي متمكنة - لو أرادوا - من فهم الحق، إذ لا حائل بينها وبينه، وإنما صدها عنه إخلادها إلى الكفر الذي استوجبت من أجله لعنة الله أي طردها من رحمته وحرمانها من توفيقه، ونحوه قوله في سورة النساء:
{ { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [النساء: 155].
وأما على الوجهين الأخيرين فحاصل الرد أن استنكافهم من الإِيمان بما جاء به النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وأنفتهم من اتباعه فيما يدعوهم إليه من الحق ليس لاستغنائهم بما عندهم من العلم أو لعدم كون ما يُدْعَون إليه حقا صريحا ولكن لأجل ما حاق بهم من اللعن.
واللعن هو الطرد - كما سبق - وهو دال على البعد، كما يقال شأو لعين أي بعيد، ومنه قول الشماخ:

ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين

وذلك أن الطريد عن الشيء مبعد عنه.
وقوله: { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } مرتبط بما قبله برباط السببية الذي تؤذن به الفاء وذلك أن لعنهم بكفرهم كان سبباً في استمرارهم على الكفر وعدم تقبل نفوسهم للإِيمان إلا إيمانا جزئيا لا وزن له في كفة الاعتقاد وهو الموصوف بالقلة هنا والمراد به إيمانهم بوجود الله سبحانه، وإنما كان هذا الإِيمان قليلا غير معتد به؛ لأنه شِيب صفاؤه بأكدار التشبيه والتجسيم، ووصفه تعالى بصفات النقص، وهُدِم بكفرهم بسائر أركان الإِيمان، والإِيمان لا يعتد به إلا اذا كان متكاملاً فإذا انهدّ بعضه انتقض كله وهم قد كفروا بالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام كما كفروا قبله بالمسيح عليه السلام وبغيره من النبيين الذين بعثوا مؤيدين لرسالة موسى عليه السلام ومؤكدين وجوب الحفاظ على التوراة والعمل بها وقد أفضت مكابرتهم لهم إلى قتلهم لبعضهم، وقد كفروا باليوم الآخر؛ إذ لم يؤمنوا به على حقيقته فكان تصديقهم بوجود الله سبحانه - مع ذلك - كعدمه.
و"قليلا" صفة لموصوف يقتضيه المقام؛ أي فإيمانا قليلا.
وقلة الإِيمان بقلة ما يتعلق به، ذلك لأنهم كفروا بأغلب ما يجب أن يؤمن به فكان جديراً إيمانهم بوصف القلة.
وذهب قتادة إلى أن القلة هنا وصف لمن آمن منهم فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: فلعمري لمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، وإنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير، وروى عنه أيضا أنه قال: لا يؤمن منهم إلا قليل.
وتعقبه ابن جرير بأن انتصاب "قليلا" قاضٍ بأنه صفة لمصدر يدل عليه فعلُه وهو: يؤمنون، قال: ومعناه بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلا ما يؤمنون فقد تبين إذن بما بينا فساد القول الذي رُوي عن قتادة في ذلك؛ لأن معنى ذلك لو كان على ما رُوي من أنَّه يَعْني به فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعاً لا منصوباً، لأنه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذ مرافعا "ما"، وإن نصب القليل، "وما" في معنى "من" أو "الذي" بقيت ما لا مرافع لها وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب.
وحاصل كلامه أنه يلزمه على مذهب قتادة أن تكون "ما" بمعنى من الموصولة، و"يؤمنون" صلتها، وهي مبتدأ خبره "قليل" مقدم عليه فيتعين رفعه، وحكى المهدوي اعتراض ابن جرير على قتادة عن النحويين؛ نقل ذلك عنه أبو حيان، وتعقبه بقوله: "قول قتادة صحيح, ولا يلزم ما ذكره النحويون لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه، ولم يرد شرح الإِعراب فيلزمه ذلك، وإنما انتصاب (قليلا) عنده على الحال من الضمير في (يؤمنون)، والمعنى عنده فيؤمنون قوما قليلا، أي في حالة قلة".
ويفهم من كلام العلامة السيد محمد رشيد رضا أنه يجنح إلى هذا القول فإنه بعد ذكره لقول الإِمام محمد عبده المتفق مع قول الجمهور أورد هذا الرأي وأتبعه بقوله: "والاستدراك على هذا الوجه أظهر، فإنه لما بين أن كفرهم المستمر، وعصيانهم المستمر كانا سببا في لعنهم وإبعادهم، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سُجل عليهم الشقاء، وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم، فجاء قوله تعالى: { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا وإنما غمر الأكثرين، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل وكذلك كان".
وأتبع هذا قوله: "وفيه من دقة القرآن في الصدق، وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس".
و"ما" الداخلة على "قليلا" فائدتها تأكيد عموم القلة، فهي كأختها في قوله تعالى: { مَثَلاً مَّا } وقد سبق بيانها، وهذا كما تأتي لتفخيم الشيء في نحو قوله تعالى:
{ { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران: 159]، أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم، وقد بيّن تعالى هذه الرحمة بقوله في وصفه صلى الله عليه وسلم: { { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]، وقوله: { { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107].
وتجرأ جماعة من أهل العربية والمفسرين فسموها زائدة في الموضعين، وهو لا يليق بجلاله القرآن، كما أوضحه الإِمام محمد عبده، ونقل ابن جرير إنكار زيادتها عن جماعة، واستصوب هذا الإِنكار لذات السبب الذي ذكرته، وقد تكرر بيان مثل هذا في هذا التفسير.
وجوز جماعة منهم الزمخشري وابن عاشور أن تكون القلة هنا مستعملة في معنى العدم على حد قول أبي كبير الهذلي:

قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك

وكما قال بعضهم في أرض نصيبين "كثيرة العقارب قليلة الأقارب" وأراد عديمة الأقارب، ويقال فلان قليل الحياء وقليل الأدب مرادا به عدمهما، وهو إما أن يكون من باب المجاز للشبه بين القلة والعدم، أو من باب الكناية لصيرورة ما يقل إلى الاضمحلال، وهو من باب إطلاق اسم الملزوم وإرادة لازمه؛ هكذا حرر المسألة الإِمام ابن عاشور في تحريره وتنويره.
ويتجه لي وجه ثالث وهو أنه مجاز مرسل علاقته السببية فإن القلة سبب للإِنعدام.
ولم ير أبو حيان جواز حمل القلة على العدم في مثل هذا التركيب لإِنتصاب قليلا بفعل مثبت وهو "يؤمنون" مع أن مثله لا يكون إلا في مقام النفي، وقد أتى عقب كلامه ما ينقضه حيث قال: "وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم أقل رجل يقول ذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك".
فإن هذه الأمثلة كلها مسوق مساق الإِثبات مع قصد النفي كما في الآية.
وربط الإِمام محمد عبده بين قوله تعالى: { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ... } وقوله بعده: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ... } الخ، وذلك أن جعل الواو في الثاني للحال، ومعنى ذلك أن إيمانهم كان قليلا حال كونهم كانوا ينتظرون نبيا وكتابا مصدقا لما معهم، وكانوا يستفتحون به على المشركين، فكيف لا يكون قليلا أو أقل بعد ما جاء ما كانوا ينتظرون، وعرفوا أنه الحق ثم كفروا.
وذهب الإِمام ابن عاشور، إلى أن الواو عاطفة، والمعطوف عليه "قلوبنا غلف" لقصد الزيادة في الإِنحاء عليهم بالتوبيخ، فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا من الأدلة لكان في اعراضهم معذرة ما، ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم، والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين" وهو أبين.
سلوك يهود المدينة ومشركي العرب
ولا خلاف أن هذه الآية نزلت في بيان ما كانت عليه يهود المدينة أيام الجاهلية مع جيرانهم العرب المشركين، وذلك أن اليهود بما كان عندهم من علم النبوات كانت عندهم بشارة جلية مما يتلونه في الكتاب بمبعث خاتم النبيين، وكانوا على علم بأن هجرته ستكون إلى أرض المدينة - يثرب قديما - فآثرت طائفة منهم الهجرة إليها فرارا من اضطهاد دولة الروم التي كانت تسيطر على بلاد الشام المقدسة لما كانوا يطمعون فيه من وجدانهم الملجأ الرحب في أكنافه ووصولهم الى مراقي العز والشرف والسؤدد بالتفافهم حوله، ونصرتهم إياه، وكانت هذه الأخبار تتسلسل في أجيالهم المتوالدة، وكانوا لا يكتمونها عن العرب الأميين، وخصوصا عندما يمنون بالهزائم في حروبهم معهم، فكانوا ينذرونهم بإظلال زمن نبي يقتلونهم معه قتل إرم وعاد، وقد فات هؤلاء اليهود أن النبي لن يكون من ولد إسرائيل كما كانوا يطمعون بسبب كون ولد إسرائيل عنصر النبوة منذ وجدوا، وعندما ظهر من ذرية إسماعيل حنقوا واستبد بهم الحسد فكفروا به مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بأنه النبي المنتظر الذي كانوا يستفتحون به على أعدائهم من العرب، وقد اقتضت مشيئة الله أن يسوق هذا الخير، ويخص بهذه المرحمة أولئك العرب الذين كانوا من قبل على جاهلية جهلاء، لا يعرفون مبدأ ولا معادا، ولس لديهم ما يستبصرون به من كتاب أو علم.
وهو معنى ما رواه ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي في دلائلهما من طريق عاصم بن عمر وبن قتادة الأنصاري عن أشياخ من الأنصار قالوا فينا والله وفيهم - يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم - نزلت هذه القصة، كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون إن نبيا الآن مبعثه قد أظل زمانه يقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث الله تعالى ذكره رسوله من قريش واتبعناه كفروا به.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء بن معروف أخو بني سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه الآية، وروى ذلك عن ابن عباس بأسانيد متعددة، وألفاظ مختلفة، وروى البيهقي في الدلائل عنه وعن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب فلما جاءهم محمد كفروا به حينما لم يكن من بني إسرائيل.
والقول بذلك مستفيض عن أئمة التفسير من التابعين فمن بعدهم.
والكتاب هو القرآن، وتصديقه لما معهم تقريره لما أنزل الله تعالى على أنبيائهم من التوراة والإِنجيل، وما اشتملا عليه من توحيد الله عز وجل، ووجوب إخلاص العبادة له وتنزيهه عما لا يليق به من صفات خلقه، أو أن تصديقه لهما تحقق ما فيهما من البشارة بالنبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام لإِنزاله عليه كتابا ساطعا برهانه، شاملا بيانه، دامغة حجته، واضحة معجزته، وفي هذا الوصف مالا يخفى من تقريعهم، والتسجيل عليهم بالعناد والمكابرة.
والاستفتاح طلب الفتح كالاستنصار والاستنجاد، وفسروه بما سبق ذكره من تطلعهم إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لتظلهم رايته وتكون نصرتهم على يديه، وقيل: هو فتحهم على الذين كفروا معرفة هذا النبي بما كانوا يتحدثون به من وصفه عندما يلقون منهم من الأذى فكان من مشيئة الله أن سبقوهم إليه وآمنوا به دونهم؛ وعليه فالإِستفتاح هنا بمعنى الفتح، وصيغة الاستفعال للمبالغة.
وتكرر "لما" لطول الفاصل بينها وبين جوابها كما تكررت أن مع اسمها في قوله تعالى:
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [المؤمنون: 35]، وكما تكرر "لا تحسبن"، في قوله تعالى: { { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ } [آل عمران: 188] لذات السبب نفسه.
وهذا أولى من القول بأن جواب الأولى محذوف تقديره كذبوا به مثلا، كما ذهب إليه الزمخشري، واختاره من قبله الزجاج والأخفش، والقول بأن الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى:
{ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة: 38] كما قاله الفراء لاختلاف هذا عن ذلك فإن "لما" أعيدت هنا نفسها بخلاف أداتي الشرط في الآية المستشهد بها فإنهما مختلفتان، وقول غيرهم بتنازع "لما" الأولى والثانية للجواب.
وجملة { كَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ } حالية على الصحيح لأن الكتاب جاءهم، والاستئناس بإظلال زمن النبي المنتظر قد استولى على أفكارهم رجاء إخراجه إياهم من المأزق الذي هم فيه، وجوز أبو حيان أن تكون معطفة على (جاءهم) فيكون جواب (لما) مرتبا على المجيء والكون، وعلى الأول فترتبه على المجىء مع القيدية التي تفيدها الحال.
وفي قوله تعالى: { فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } بعد جواب الشرط بـ (كفروا) مع الربط بينها بفاء السببية تنصيص على استحقاقهم اللعن بسبب كفرهم وتعميم لهذا الحكم على جميع الكافرين، وإنما دخول المعنيين فيه دخول أولى لأنه من المعلوم أن الحكم الوارد بسبب خاص - وهو عام لفظا يشمل ما دل عليه السبب نصا وغيره ظاهرا، ولأجل ما تقدم جاءت هذه العبارة بدلا من: فلعنة الله عليهم.
وشمول (الكافرين) لغيرهم مبني على أن التعريف للإِستغراق، وهو أولى من جعله للعهد، والمعهود هم الذين كفروا بخاتم النبيين بعد استفتاحهم به.