التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
-يونس

روح المعاني

{ وَلَوْ يُعَجّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ } هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه: { { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } [يونس: 7] الخ، والآية متصلة بذلك دالة على استحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم استدراجاً وذكر المؤمنين وقع في البين تتميماً ومقابلة، وجىء بالناس بدل ضميرهم تفظيعاً للأمر.

وفي «إرشاد العقل السليم» إنما أوردوا باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائراً على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج، والمراد لو يعجل الله تعالى لهم { ٱلشَّرَّ } الذي كانوا يستعجلون به تكذيباً واستهزاءاً فإنهم كانوا يقولون: { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً / مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، [الأنفال: 32] { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 48] ونحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن قتادة أنه قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وأخرجا عن مجاهد أنه قال: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه، وفيه حمل ـ الناس ـ على العموم والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحرث حين قال: { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ } [الأنفال: 32] الخ.

وقوله سبحانه: { ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ } نصب على المصدرية، والأصل - على ما قال أبو البقاء ـ تعجيلاً مثل استعجالهم فحذف تعجيلاً وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها. وفي «الكشاف» ((وضع { ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ } موضع تعجيله لهم [الخير] إشعاراً بسرعة إجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم)) ((وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير، إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارناً لغير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة، والنحاة يقولون في ذلك: أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتماً حتى كأن أحدهما عين الآخر فقرن به)).

وقال الطيبـي: كان أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الاستعجال ثم نسب إليهم فقيل (استعجالهم بالخير) لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولاً والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم. وأوجب أبو حيان ((كون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم أو أن ثَمَّ محذوفاً يدل علييه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه استعجالهم بالخير قال: لأن مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه)) وأجاب السفاقسي بأن استفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لا على طلبه كاستقر بمعنى أقر، وقوله: وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافاً للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناشئ من قلة التدبر.

ومعنى قوله سبحانه: { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال: قضى إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك. وفي إيثار صيغة المبني للمفعول جري على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل. وقرأ ابن عامر ويعقوب { لقضى } على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله { لقضينا } وفيه التفات، واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لي بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضاً بحسب المقام كما حقق في موضعه.

وذكر بعض المحققين أن المقدم هٰهنا ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجوداً وعدماً لأن القضاء ليس أمراً مغايراً لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه / كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجوداً أو عدماً مزيد فائدة مصححة لجعله تالياً له فليس كقوله تعالى: { { ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [الحجرات: 7] ولا كقوله سبحانه: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } [الأنعام: 30] وقوله تعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45] إذا فسر الجواب بالاستئصال، وأيضاً في ترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة.

وقوله سبحانه: { فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } أي نتركهم إمهالاً واستدراجاً { فِي طُغْيَـٰنِهِمْ } الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة { يَعْمَهُونَ } أي يترددون ويتحيرون، لا يصح عطفه على شرط { لَوْ } ولا على جوابها لانتفائه وهو مقصود إثباته وليست { لَوْ } بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل: لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض، وقيل: الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم، وقيل: إن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما استعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم. وصاحب «الكشف» بعد ما قرر أن اتصال { وَلَوْ يُعَجّلُ } الخ بقوله تعالى: { { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا } [يونس: 7] الخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميماً ومقابلة وليس بأجنبـي قال: إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر. وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج.