التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
٤١
-يونس

روح المعاني

{ وَإِن كَذَّبُوكَ } أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصلاً فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط، وأيضاً جوابه وهو قوله سبحانه: { فَقُل لّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل، وقوله سبحانه: { أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أن لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك، وعن مقاتل والكلبـي وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الإعراض وترك التعرض بشيء، ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولاً وتأخيره ثانياً والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم.

هذا ومن باب الإشارة في الآيات: { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّآء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي ءايَـٰتِنَا } وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك { قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري { { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [يونس: 21] في ألواح الملكوت { هُوَ ٱلَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِي ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ } أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات، وقيل: يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات / { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ } أي فلك العناية الإزلية { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } وهي ريح صبا وصاله سبحانه { وَفَرِحُواْ بِهَا } لإيذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الأنس ومرابع القدس:

ألا يا نسيم الريح مالك كلما تقربت منا زاد نشرك طيبا
أظن سليمى خبرت بسقامنا فأعطتك رياها فجئت طبيباً

{ جَآءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ } وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدوم لهم وصال، ولله در من قال:

فبتنا على رغم الحسود وبيننا شراب كريح المسك شيب به الخمر
فوسدتها كفي وبت ضجيعها وقلت لليلي طل فقد رقد البدر
فلما أضاء الصبح فرق بيننا وأي نعيم لا يكدره الدهر

{ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي أنهم من الهالكين في تلك الأمواج{ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } بالتبري من غير الله تعالى قائلين { { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } [يونس: 22] لك بك { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم إنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [يونس: 23] أي أنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا. وقال ابن عطاء في الآية: حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم { جَآءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم { وَجَآءهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم { { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [يونس: 22] حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ } أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم ورجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى. وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم، ويشكل أمر الوعيد المنبىء به { فَنُنَبّئُكُمْ } [يونس: 23] الخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش، وانظر هل يصح أن يقال: إن الأمر من باب حسنات الأبرار سيآت المقربين؟ ثم أنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب اقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا: { { كَمَآ أَنزَلْنَـٰهُ } [يونس: 24] الخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والأنس وجعل حصيداً كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله:

قف بالديار فهذه آثارهم نبكي الأحبة حسرة وتشوقاً
كم قد وقفت بها أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقاً أو مشفقاً
فأجابني داعي الهوى في رسمها فارقت من تهوى فعز الملتقى

{ وَٱللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } وهو العالم الروحاني السليم من الآفات { { وَيَهْدِي مَن يَشَآء إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [يونس: 25] لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة. وقد يقال: يدعو الجميع إلى داره ويهدي خواص العارفين إلى وصاله أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } وهم خواص الخواص { ٱلْحُسْنَىٰ } وهي رؤية الله تعالى { وَزِيَادَةٌ } وهي دوام الرؤية، أو للذين جاؤا بما يحسن به حالهم من خير قلبـي أو قالبـي، المثوبة الحسنة من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد يقال: الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة { أُوْلَٰـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ } التي تقتضيها أفعالهم { { هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ } [يونس: 26] ثم ذكر سبحانه حال الذين أساءوا بقوله جل شأنه: { { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } [يونس: 27] الخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام { ٱلظَّـٰلِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } في المجمع الأكبر { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } قفوا جميعاً وانتظروا الحكم { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس: 28] بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة { فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَـٰفِلِينَ } [يونس: 29] لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال { هُنَالِكَ } أي في ذلك الموقف { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } أي تذوق وتختبر { مَّا أَسْلَفَتْ } في الدنيا { وَرُدُّواْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلَـٰهُمُ ٱلْحَقّ } المتولي لجزائهم بالعدل والقسط { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [يونس: 30] من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة. ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح، والحي عندهم العارف والميت الجاهل { { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } [يونس: 36] ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها وسرحت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم

فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولاً فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا { مَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } من اللوح المحفوظ { وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ } [يونس: 37] الذي هو الأم، أي كيف يكون مختلقاً وقد أثبت قبله في كتابين مفصلاً ومجملاً { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39] ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث أنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي بنيت عليها وكان الحري بهم التثبت والتدبر والله تعالى ولي التوفيق.