التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
٧١
-يونس

روح المعاني

{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ } أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد { نَبَأَ نُوحٍ } أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد / ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من غير مخالفة له أصلاً فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة. وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبـي صلى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى، والاقتصار على بعض ذلك قصور؛ وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } اللام للتبليغ أو التعليل و { إِذْ } بدل من { نَبَأَ } بدل اشتمال أو معمولة له لا ـ لأتل ـ لفساد المعنى، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالاً من { نَبَأَ } وأياً ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل { يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ } أي عظم وشق { عَلَيْكُمْ مَّقَامِي } أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً بمعنى الإقامة يقال: قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة، وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود، وكثيراً ما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازاً عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره { وَتَذْكِيرِي } إياكم { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } لا على غيره، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم، ويجوز أن تكون قائمة مقامه، وقيل: الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم، وقيل: المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائماً.

وقوله سبحانه: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ } عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه، وقيل: إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء.

فاعلم فعلم المرء ينفعه

ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و { أَجْمِعُوۤاْ } بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل: إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحرث بن حلزة:

أجمعوا أمرهم بليل فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم: معنى أجمع أمره جعله مجموعاً بعد ما كان متفرقاً وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل / كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد.

{ وَشُرَكَآءَكُمْ } أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وابن أبـي إسحاق وأبـي عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذٍ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل. وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه. وقيل: إن النصب بالعطف على { أَمَرَكُمُ } بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناءً على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناءً على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل: إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم. وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في { { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82]، وقيل: إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله:

علفتها تبناً وماءً بارداً

أي (وادعوا شركاءكم) كما قرأ به أبـي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع { فَأَجْمَعُواْ } بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناءً على أنه يقال: جمعت شركائي كما يقال: جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر.

{ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ } ذلك { عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي مستوراً من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل ابن حجر «لا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولا تخفى وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق ـ بغمة ـ والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة { ثُمَّ } للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل: أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالاً منها، و{ ثُمَّ } للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غماً كائناً عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى.

واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه: { ثُمَّ ٱقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي أدوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعارة مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إليَّ ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضاً لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقيل: المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي أجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما (ثم) سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في { أَجْمِعُواْ } وقرىء { أفضوا إليَّ } بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلي من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع.