التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٧٢
-يونس

روح المعاني

{ وَٱحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضاً / مخصوصاً عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } بمقابلة تذكيري ووعظي { مِنْ أَجْرٍ } تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسؤول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أو لا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى: { { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدُيرٌ } [الأنعام: 17]. وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير علي بذلك، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجىء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و { مِنْ } زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجراً.

وقوله تعالى: { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابـي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثبني بذلك آمنتم أو توليتم، وقوله سبحانه: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظماً في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا، وفيه حمل الإسلام على ما يسارق الإيمان واعتبار التقييد، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره، وفيه على هذا المعنى أيضاً من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين، وبالجملة أنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه.

وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر: { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } [يونس: 71] فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بـي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } [يونس: 71] كأنه يقول: أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثاً وهو قوله: { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } [يونس: 71] فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعاً فقال: { { ثُمَّ ٱقْضُواْ إِلَيَّ } [يونس: 71] آمراً لهم بأداء ذلك كله إليه، ثم ضم إلى ذلك خامساً { وَلاَ تُنظِرُونَ } [يونس: 71] فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعاً بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفى سؤاله إياهم شيئاً من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيره مشيراً إلى مزيد / كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن { مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أبلغ من مسلماً كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد.