التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
-هود

روح المعاني

{ يَوْمَ يَأْتِ } أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج، وقيل: الضمير للجزاء أيضاً، وقيل: لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة ـ وما يؤخره ـ بالياء، ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالإتيان يأبـى تعرف الإتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبـي نصاً على عدم جوازه كما لا تقول: جئتك يوم بشرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلاً، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زماناً فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال: يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذاً حسن مثل قوله:

فسقى الغضى والساكنيه وإن هم شبوه بين جوانحي وضلوعي

فهذا أحسن. وقرأ النحويان ونافع { يَأْتِيَ } بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً وهي ثابتة في مصحف أبـي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلاً ووقفاً، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلاً ووقفاً هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفاً التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري ((أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل)) ومن ذلك قوله:

كفاك ما تليق درهماً جوداً وأخرى تعط بالسف الدما

وقرأ الأعمش ـ يوم يأتون ـ بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف.

{ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق. وجوز أن يكون منصوباً بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولاً به ـ لا ذكر ـ محذوفاً، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتاً ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفاً وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالاضافة إليها كالإضافة إليها { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي إلا باذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [النبأ: 38] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35-36] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: { { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111] في آخر منها، وروي هذا عن الحسن.

وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار الباطلة، نعم قد يؤذن فيها / أيضاً لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة: { { وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 32] ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى. وفي «الدرر والغرر» للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله سبحانه: { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 35-36] وكذا قوله جل وعلا: { { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات: 27] اختلافاً بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى { هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقاً بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته وحضرنا فلاناً يناظر فلاناً فلم نره قال شيئاً وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفى عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر:

أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يوارى جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما سمعي وما بي غيره وقر

وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه: { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [المرسلات: 36] فقد قيل فيه: إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعبادة ملجأون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل { يُؤْذَنُ لَهُمْ } أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى.

وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضى لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفاً للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد مّا لا يخفى.

وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من (يوم يأتي) حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية: لا بد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى. والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلف نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل، وجوز أن يكون منقطعاً ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا باذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه. وقرىء كما في «المصاحف» لابن الأنباري ـ يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه ـ.

{ فَمِنْهُمْ } أي / أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أو الجميع الذي تضمنه { نَفْسٌ } إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: { { مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ } [هود: 103] ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيداً لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن { مِنْ } للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: { شَقِيٌّ } مبتدأ، وقوله تعالى: { وَسَعِيدٌ } بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه. والسعادة على ما قال الراغب: معاونه الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة. وفسر في «البحر» الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها. وفي «القاموس» ما يقرب من ذلك، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين. وتقديم الشقى على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير.