التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
-هود

روح المعاني

{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } استثناء من { ٱلإِنْسَانَ } [هود: 9] وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفاً لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقاً، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش وأيًا مّا كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقاً أو لاحقاً إيماناً بالله تعالى واستسلاماً لقضائه تعالى:

{ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ } شكراً على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في «الكشف»: لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستنثى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ } الخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكني بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض بشيخه الطيبـي بقوله: وأما دلالة { صَبَرُواْ } على أن العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر، ودلالة { عَمِلُواْ } على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه لكن القول ما قالت حذام لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة.

{ أُوْلَـٰئِكَ } إشارة إلى الموصول باعتبا اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمة لذنوبهم ما كانت { وَأَجْرٌ } ثواب لأعمالهم الحسنة { كَبِيرٌ } وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في «البحر» أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل: وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر.

وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث أن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: { { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] والمعنى أن كلاً من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال / فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث أن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد والثاني أقرب، والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات: { الۤر } إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير { ثُمَّ فُصّلَتْ } في العالم الجزئي وجعلت مبنية معينة بقدر معلوم { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ } فلذا أحكمت { { خَبِيرٌ } [هود: 1] فلذا فصلت، وقد يقال: الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ثم فصلت أحكامها على أبدان العاملين، وقيل: أحكمت بالكرامات ثم فصلت بالبينات { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ } عقاب الشرك وتبعته { { وَبَشِيرٌ } [هود: 2] بثواب التوحيد وفائدته، وقيل: { نَّذِيرٌ } بعظائم قهره { وَبَشِيرٌ } بلطائف وصله { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ارجعوا بالفناء ذاتاً، وقيل: { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } من الدعاوي { وَتُوبُواْ إِلَيْهِ } من الخطرات المذمومة { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال: المتاع الحسن صفاء الأحوال وسناء الأذكار وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق وظهور اللطائف والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال:

مناي من الدنيا لقاؤك مرة فإن نلتها استوفيت كل منائيا

{ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو وقت وفاتكم { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ } بالسعي والاجتهاد وبذل النفس { فَضْلِهِ } في الدرجات والقرب إليه سبحانه؛ ويقال: { يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ } في الاستعداد { فَضْلِهِ } في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي { { فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود: 3] وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه { أَلآ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ } يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز { { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [هود: 5] من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال، وقيل: { مَا يُسِرُّونَ } من الخطرات { وَمَا يُعْلِنُونَ } من النظرات، وقيل: { مَا يُسِرُّونَ } بقلوبهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } بأفواههم، وقيل: مَا يُسِرُّونَ بالليل وَمَا يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير { يَعْلَمْ } له تعالى لكن ذكر في «أسرار القرآن» أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير { يَعْلَمْ } للرسول عليه الصلاة والسلام، وأياً مّا كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل. وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضاً فتفطن { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } أي ما تتغذى به / شبحاً وروحاً، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار؛ ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضاً رزق محسوس ورزق معقول يعلمه الله تعالى: { { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } [هود: 6] فمستقر الجميع أصلاب العدم ومستودعها أرحام الحدوث { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وما في كل { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء } أي كان حياً قيوماً ـ كما قال ابن الكمال ـ. وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى { وَكَانَ عَرْشُهُ } قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان مستعلياً على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سماوات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستولياً عليه متعلقاً به تعلق التصوير والتدبير { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود: 7] قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أيكم أحسن عملاً { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِنَّا رَحْمَةً } [هود: 9] الخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقاً بربه تعالى متوكلاً عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجوداً وعدماً، فإن آتاه رحمة شكره أولاً: برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه. وثانياً: باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثاً: بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13] وإلى ذلك أشار من قال:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: { { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلاً عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم { أُوْلَٰـئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر { { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [هود: 11] من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق.