التفاسير

< >
عرض

وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
٣
-هود

روح المعاني

{ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } عطف على { { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ } [هود: 2] سواء كان نهياً أو نفياً وفي { أن } الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أن المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة { إِنِّي لَكُمْ } [هود: 2] الخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعة قدر النبـي صلى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الانذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية لتتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل.

وقوله سبحانه: { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } عطف على { ٱسْتَغْفِرُواْ } واختلف في توجيه توسيط { ثُمَّ } بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة { ثُمَّ } على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن { ثُمَّ } بمعنى الواو كما في قوله:

بهز كهز الرديني جرى في الأنابيب ثم اضطرب

والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى ـ فثم ـ للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب «صاحب الفرائد». وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازاً من إطلاق السبب على المسبب، و { ثُمَّ } على ظاهرها وهي قرينة على ذلك. وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلاً، لكن اشترط شرعاً لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضاً استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتبياً وأن يكون زمانياً كما لا يخفى.

{ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } مجزوم بالطلب، ونصب { مَّتَـٰعًا } على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: { { أَنبَتَكُمْ مّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [نوح: 17] ويجوز أن يكون مفعولاً به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» ولا كون «أشد الناس بلاء الامثل فالأمثل» لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقريب إليه حتى يعد المحنة منحة:

/ وتعذيبكم عذب لدي وجوركم علي بما يقضي الهوى لكم عدل

وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد.

{ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة { وَيُؤْتِ } أي يعط { كُلَّ ذِي فَضْلٍ } أي زيادة في العمل الصالح { فَضْلَهُ } أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطى، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [الأنعام: 139] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغنى عن التأويل.

واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعاً فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله أما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مراد له انتهى.

ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.

واياً مّا كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتبوة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن { تَوَلَّوْاْ } ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهو خلاف الظاهر، وأخر الإنذار عن البشارة جرياً على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره. وقرأ عيسى بن عمر واليماني { تولوا } بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع ـ ولى ـ من قولهم: ولى هارباً أي أدبر.

{ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ } بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضاً، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأياً مّا كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له.