التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ
٤٩
-هود

روح المعاني

{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها، وقيل: إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك؛ وهي في محل الرفع على الابتداء، وقوله سبحانه: { مِنْ أَنبَآءِ ٱلْغَيْبِ } أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى إن المجوس على ما قيل: ينكرونها رأساً، وقيل: إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب، وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان: ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلاً وهو الغيب المطلق، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى ذلك المخلوق، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب، وقوله سبحانه: { نُوحِيهَا } خبر ثان ـ لتلك ـ والضمير لها أي موحاة { إِلَيْكَ } أو هو الخبر، و { مِنْ أَنْبَآء } متعلق به، وفائدة تقديمه نفى أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو { مِنْ أَنْبَآء } هو الخبر، و{ هَـٰذَا } في موضع الحال من { أَنْبَآءِ } والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى الله عليه وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين.

وقوله تعالى: { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ } خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك { مّن قَبْلِ هَـٰذَا } أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر، وقيل: أي الوقت، وقيل: أي العلم المكتسب بالوحي. وفي مصحف ابن مسعود ـ من قبل هذا القرآن ـ ويحتمل أن يكون حالاً من الهاء في { نُوحِيهَا } أو الكاف من { إِلَيْكَ } أي غير عالم أنت ولا قومك بها، وذكر القوم معه صلى الله عليه وسلم من باب الترقي كما تقول: هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلده لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم.

{ فَٱصْبِرْ } متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم { مّن قَبْلِ هَـٰذَا } أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع / البلايا في هذه المدة المتطاولة، قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } [هود: 12] الخ { إِنَّ ٱلْعَـٰقِبَةَ } بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة { لّلْمُتَّقِينَ } كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلى الله عليه وسلم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلى الله عليه وسلم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.

ومن باب الإشارة في الآيات: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } الخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم نشاط المتكلم إذا لم يجد محلاً قابلاً لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَيْء وَكِيلٌ } [هود: 12] فكل الهداية إليه { مَن كَانَ يُرِيدُ } بعمله الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة { ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } كالجاه والمدح { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ } أي جزاءها { فِيْهَا } إن شئنا { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [هود: 15] أي لا ينقصون شيئاً منها { أُوْلَٰـئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } [هود: 16] من أعمال البر فلم ينتفعوا بها، وجاء "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى" الحديث { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية ويحكم بكون الكشف صحيحاً إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ } أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه { إِمَاماً } يؤتم به في تحقيق المطالب { { وَرَحْمَةً } [هود: 17] لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات؛ وقد ذكروا أن المراد بيان بعدما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه. وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبـي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفاً على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولاً بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منوراً بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالماً بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه { { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا } [هود: 18] الخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجوداً وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الإشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه دياراً. ومن الناس من عكس الأمر وجعلها رداً على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاشا أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من فرد وأجهل من حمار تومه { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلاْصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ } قيل: البصير من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته والسميع من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: البصير الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئاً ولا يتعجب / من شيء والسميع من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس، وقيل: البصير هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف والسميع من يسمع من دواعي العلم شرعاً، ثم من خواطر التعريف قدراً، ثم يكاشف بخطاب من الحق سراً، وقيل السميع من لا يسمع إلا كلام حبيبه، والبصير من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلاً ونهاراً، وإلى هذا يشير قول قائلهم:

ليلي من وجهك شمس الضحى وإنما السدفة في الجو
الناس في الظلمة من ليلهم ونحن من وجهك في الضو

وفسر كل من ـ الأعمى والأصم ـ بضد ما فسر به البصير والسميع والمراد من قوله سبحانه: { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } [هود: 24] أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى ناراهما، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد { فَقَالَ ٱلْمَلأ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي الأشراف المليؤون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْي } وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال. { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } وتقدم يؤهلكم لما تدعونه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـٰذِبِينَ } [هود: 27] فلا نبوة لك ولا علم لهم { قَالَ يَـاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّي } يجب عليكم الإذعان بها { وَآتَانِي رَحْمَةً } هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان { مّنْ عِندِهِ } فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة { فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ } لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } ونجبركم عليها { { وَأَنتُمْ لَهَا كَـٰرِهُونَ } [هود: 28] لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكراً ومن لم يعتقد لم ينتفع { وَيٰقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } فهو يثيبني بما هو خير وأبقى { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ } أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت { وَلَـٰكِنّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } [هود: 29] تسفهون عليهم وتؤذونهم { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } كما تريدون وهم بتلك المثابة { { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [هود: 30] لتعرفوا التماس طردهم ضلال، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين. قال أبو عثمان في الآية: ما أنا بمعرض عمن أقبل على الله تعالى، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه { وَلآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ } الخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه { وَلآ أَقُولُ لِلَّذِينَ } تنظرون إليهم بعين الحقارة { لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْرًا } كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال { ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنفُسِهِمْ } من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم / وخطرهم { إِنّيۤ إِذاً } أي إذ نفيت { { لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [هود: 31] مثلكم { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } قيل: فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه بخبر "لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل" الحديث. وقيل: أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني، وقال بعضهم: أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي، وقيل: أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا { { وَلاَ تُخَـٰطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37] فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم، وهكذا شأن الصديقين، والكلام في باقي الآية ظاهر، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبـي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه إن هذه الدنيا بحر مملوء ماءاً فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، وعلى هذا يقال: معنى { يَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ } يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } بجهلكم { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } عند ظهور وخامة عاقبتكم { { كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38] { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عند ذلك { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته { { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [هود: 39] في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة { حَتَّىٰ إِذَا جَآء أَمْرُنَا } بإهلاك أمته { وَفَارَ ٱلنُّورُ } باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية، أو { أَمْرُنَا } بإهلاكهم المعنوي { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني { قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ } أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص. ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها { وَأَهْلَكَ } ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره { وَمَنْ آمَنَ } [هود: 40] من أمتك { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها { إِنَّ رَبّي لَغَفُورٌ } لهيآت نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة { رَّحِيمٌ } [هود: 41] بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيآت النورانية التي ينجيكم بها { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ } من بحر الطبيعة الجسمانية { كَٱلْجِبَالِ } الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك. / ولعل في الآية على هذا تغليباً { وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ } المحجوب بالعقل المشوب بالوهم { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } لذلك الحجاب عن الدين والشريعة { يٰبُنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } أي ادخل في ديننا { وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } [هود: 42] المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع { قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآء } أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق { { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } [هود: 43] في بحر الهيولى الجسمانية، وقيل: من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة { يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءكِ } وقفي على حد الاعتدال، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى { وَيٰسَمَآء أَقْلِعِي } عن إمداد الأرض { وَغِيضَ ٱلْمَآء } أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق المانعة للحياة الحقيقية { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك { وَٱسْتَوَتْ } أي سفينة شريعته { عَلَىٰ } وهو جبل وجود نوح { { ٱلْجُودِيّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ } [هود: 44] الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة { { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } [هود: 45] الخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ } من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب { بِسَلَـٰمٍ مّنَّا } أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة { وَبَركَـٰتٍ } من تقنين قوانين الشرع { عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ } ناشئة { مّمَّن مَّعَكَ } على دينك إلى آخر الزمان { وَأُمَمٌ } أي وينشأ ممن معك أمم { سَنُمَتّعُهُمْ } في الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا } في العقبـى { { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود: 48] بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيآت المظلمة. هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحاً بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى والتنور بتنور البدن وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة، وما أشار إليه { { مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [هود: 40] بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والابن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم والجبل بالدماغ واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان انتهى، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقاً في بحر العدم.

فما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من بأهله

ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر، والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم الله تعالى، وفي «فصوص الحكم» للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة وفوق كل ذي علم عليم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.