التفاسير

< >
عرض

وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ
٧٨
-هود

روح المعاني

{ وَجَآءَهُ } أي لوطاً وهو في بيته مع أضيافه { قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } قال أبو عبيدة: أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضاً، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة { يهرعون } بفتح الياء مبنياً للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضاً، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإهراع بالمشي بين الهرولة والجمز، وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال: المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل:

فجاءوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف

وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القرائتين، وجملة { يُهْرَعُونَ } في موضع الحال من (قومه) أي جاؤوا مهرعين إليه. روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطاً قد أضاف الليلة فئة ما رؤي مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاؤوا يهرعون إليه { وَمِن قَبْلُ } أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل: من قبل بعث لوط رسولاً إليهم { كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ } قيل: المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها. وقيل: المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء / بالناس وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.

{ قَالَ يَٰقَوْمِ هَٰـؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزاً، وقد زوج النبـي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب لأبـي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبـي لهب قبل الوحي وكانا كافرين إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت { { تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ } [المسد: 1] فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبـي صلى الله عليه وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم أنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.

وقال الحسن بن الفضل: إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزاً إذ ذاك، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما ـ على ما في بعض الآثار ـ زعوراء والأخرى زيتاء، وقيل: كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأياً ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال: كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته ـ بناءاً على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل ـ على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين: إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجرياً على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبـي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبـي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبـي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (النبـي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) وقرأ أبـي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم { وَأَزْوٰجُهُ أُمَّهَـٰتُهُمْ } [الأحزاب: 6] على ـ وهو أب لهم ـ وأراد عليه السلام بقوله: { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أنظف فعلاً، أو أقل فحشاً كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر أن { هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي } مبتدأ وخبر، وكذلك { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } وجوز أبو البقاء كون { بَنَاتِي } بدلاً أو عطف بيان { وَهَنَّ } ضمير فصل، و { أَطْهَرُ } هو الخبر، وكون { هُنَّ } مبتدأ ثانياً، و { أَطْهَرُ } خبره، والجملة خبر { هَـٰؤُلاۤءِ }.

/ وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي { أطهر } بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء: إن من قرأ { أطهر } بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالاً عمل فيها ما في { هَـٰؤُلاۤءِ } من الإشارة أو التنبيه أو ينصب { هؤلاء } بفعل مضمر كأنه قيل: خذوا هؤلاء و { بَنَاتِي } بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال و { هُنَّ } في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول: جاء زيد هو ضاحكاً، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل بوقوعه شذوذاً كما في قولهم: أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن { هُنَّ } مبتدأ و { لَكُمْ } الخبر، و { أَطْهَرُ } حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون { هَـٰؤُلاۤءِ } مبتدأ و { بَنَاتِي هُنَّ } جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك: هذا أخي هو، ويكون { أَطْهَرُ } حالاً وروي هذا عن المبرد وابن جني، أو على أن يكون { هَـٰؤُلاۤءِ } مبتدأ و { بَنَاتِي } بدلاً منه أو عطف بيان و { هُنَّ } خبر و { أَطْهَرُ } على حاله. وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك: هذا أبوك عطوفاً، وادعى في «الكشف» أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم، وقوله: { بَنَاتِي هُنَّ } جملة معترضة تعليلاً للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي؛ ويجوز أن يقال { هُنَّ } تأكيد للمستكن في { بَنَاتِي } لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل.

{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر، ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، { وَلاَ } ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاءاً بالكسرة، وقرىء بإثباتها على الأصل.

{ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم. والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.