التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
٨
-هود

روح المعاني

{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ } أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه: { { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود: 3] وقيل: عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبـي حاتم عن قتادة قال: لما نزل { { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَـٰبُهُمْ } [الأنبياء: 1] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1] فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية.

{ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل. وقيل: المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن؛ ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية ـ وهم بيت الكذب ـ عن أبـي جعفر وأبـي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً كعدة أهل بدر { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن حابسه كما يرشد إليه ما بعد.

{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي { لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } أي أنه لا يرفعه رافع أبداً، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن { يَوْمَ } منصوب ـ بمصروفا ـ الواقع خبر { لَيْسَ }، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتدّ به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وإلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه: { { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [الضحى: 9] كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهباً مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقاً، وأيضاً المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل: إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقاً ـ بيخافون ـ محذوفاً أي ألا يخافون يوم الخ، وقيل: هو مبتدأ لا متعلق ـ بمصروفاً ـ ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه: { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ } [المائدة: 119] على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافاً بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه ـ بمصروفا ـ نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي «البحر» ((قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر:

فيأبـى فما يزداد إلى لجاجة وكنت أبياً في الخنى لست أقدم))

{ وَحَاقَ بِهِم } أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو ـ كزل وزال وذم وذام ـ والمراد يحيق بهم. { مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلاً لمكانه، وإشعاراً بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاءً.