التفاسير

< >
عرض

قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٩٢
-هود

روح المعاني

{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ ٱللَّهِ } أي من نبـي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقاً لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة. واعترض صاحب «الإيضاح» بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقاً وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوي لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جواباً لقولهم: { { لَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ } [هود: 91] فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب «الكشاف صرح» بالتخصيص في قوله تعالى: { { كَلآ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قآئِلُهَا } [المؤمنون: 100] فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقاً وإن جعله جواباً لما أنت عليهم بعزيز هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ } [هود: 91] على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطى أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم / بحيث إذا أخر كان فاعلاً معنوياً ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاماً فجاز أن يقال: ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيداً للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على { عَزِيزٌ } بعد تقديم { أَنتَ } وجعله مبتدأ وكذلك قوله سبحانه: { { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [هود: 29] { { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام: 107] مما لي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب «الكشاف» وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصاً، وإن كان مفيداً إياه عند من لا يشترط ذلك.

وأجاب صاحب «الكشف» عما قاله صاحب «الإيضاح» بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفاً كما يقارب ما فيه الخبر فعلاً في إفادة التقوي على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ } [هود: 91] كفى به دليلاً أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جواباً لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها. وقال العلامة الطيبـي: إن قوله تعالى: { { لَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـٰكَ } [هود: 91] وقوله سبحانه: { { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود: 91] من باب الطرد والعكس عناداً منهم فلا بد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى.

ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب «الإيضاح» والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي؛ وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى. وأجيب أيضاً بأن تهاونهم بنبـي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطى أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابـي إليهم وأنهم رهطى لا بسبب انتسابـي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في ـ عزيز ـ للتعظيم وحينئذٍ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطي أعز؟ الخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جداً من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقاً وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى وثانياً نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظاً من العزة أصلاً { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ } بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره { وَرَآءكُمْ ظِهْرِيّاً } شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً انتهى.

وأنا أقول: قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقاً كما في زيد أحسن من عمرو أو تقديراً كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوباً إلى نفسه أيضاً، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضاً أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى. وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزاً عندهم أيضاً، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبـى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور ـ بمن ـ من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناءً على مجىء ذلك بقلة ـ كما قال الجلال السيوطي في «همع الهوامع» ـ نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ } الخ اعتراضاً وفائدته تأكيد تهاونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبأوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفاً على ما قبله على معنى أفضلتم رهطى على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد: إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام { أَرَهْطِي } الخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة، وأياً مّا كان فضمير { ٱتَّخَذْتُمُوهُ } عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما. و ـ الظهري ـ منسوب إلى الظهر، وأصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعملوه للمنسي المتروك، وذكروا أنه حتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحة وأن يكون استعارة تمثيلية.

وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، و ـ الظهري ـ العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم. ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحاً، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري بمعنى المعين، والضمير لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عوناً وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعماً أنهم كانوا يسمعون الملك عزيزاً على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن. ونصب { ظهرياً } على أنه مفعول ثان ـ لاتخذتموه ـ والهاء مفعوله الأول، و { وَرَآئِكُمْ } ظرف له أو حال من { ظِهْرِيّاً }.

{ إِنَّ رَبّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك وكذا قوله: { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ }.