التفاسير

< >
عرض

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
-يوسف

روح المعاني

{ قَالَ } استئناف وجواب عما يقال: فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قال: { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءاً كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها. وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا - وفي هذا الضمير ونحو كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض «حواشيه» على قول ابن مالك في «ألفيته»:

فما الذي غيبة أو حضور

الخ لينظر إلى نحو { هِيَ رَاوَدَتْنِي } فإن { هِيَ } ضمير باتفاق، وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة، وكذا { { يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ } [القصص: 26] وهذا في المتصل وذاك في المنفصل، وقول من يخاطب شخصاً في شأن آخر حاضر معه قلت له: اتق الله تعالى وأمرته بفعل الخير، وقد يقال: إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول: ويحك يا فلان أتفعل كذا؟ تنزلاً له منزلة من بالحضرة، وحينذ يقال: الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير باعتبار وضعه اهـ.

وقال السراج البلقيني في رسالته المسماة «نشر العبير لطي الضمير» المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحضور مدلوله حساً أو علماً فالحس نحو قوله تعالى: { هِيَ رَاوَدَتْنِي } و { يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ } [القصص: 26] كما ذكره ابن مالك، وتعقبه شيخنا أبو حيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير { هِيَ رَاوَدَتْنِي } عائد على الأهل في قولها: { { مَا جَزَآء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } [يوسف: 25] ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بـي بدل { بِأَهْلِكَ } كنى هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال: { هِيَ رَاوَدَتْنِي } ولم يخاطبها بأنت راودتيني، ولا أشار إليها بهذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستيحاء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فأبرز الاسم في صورة ضمير الغائب تأدباً مع العزيز وحياءاً منه، وضمير { ٱسْتَـجِرْهُ } [القصص: 26] عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه، وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضراً عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغني عنه بحضور مدلوله حساً فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه.

وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح مما قاله الشيخ، وذلك أن الإثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم: لي على هذا كذا: فيقول المدعى عليه: هو يعلم أنه لا حق له علي، فالضمير في هو إنما / هو لحضور مدلوله حساً لقوله: لي كما هو المتبادر إلى الأفهام، وأيضاً يرد على ما ذكره في ضمير { { ٱسْتَئْجِرْهُ } [القصص: 26] أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام، وقد قالت: { { إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ } [القصص: 26] وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم، ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها أو من غيرهم: هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك، ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى، وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم.

{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها، وكان طفلاً في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون وشاهد يوسف عليه السلام وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليهما السلام" وتعقب ذلك الطيبـي بقوله: يرده دلالة الحصر في حديث «الصحيحين» عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصبـي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبـي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله" . اهـ، ورده الجلال السيوطي فقال: هذا منه على جاري عادته من عدم الإطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في «مسنده» وابن حبان في «صحيحه» والحاكم في «مستدركه» وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضاً من حديث أبـي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث «الصحيحين» المشار إليه آنفاً زيادة على الأربعة "الصبـي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب" الخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي «صحيح مسلم» تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت:

تكلم في المهد النبـي محمد ويحيـى وعيسى والخليل ومريم
ومبرى جريج ثم شاهد يوسف وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم

اهـ، وفيه أنه لم يرد الطيبـي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم، وإنما أراد أن بين الحديث الدال على الحصر وغيره تعارضاً يحتاج إلى التوفيق؛ وفي «الكشف» بعد ذكره حديث الأربعة، وما تعقب به مما تقدم عن الطيبـي أنه نقل الزمخشري في سورة البروج خامساً فإن ثبتت هذه أيضاً فالوجه أن يجعل في المهد قيداً وتأكيداً لكونه في مبادى الصبا، وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المبادي أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق، ولا يخفى أنه توفيق بعيد.

وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلاً ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة: إنه كان رجلاً حكيماً من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره، وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه الله تعالى ليوسف فقال الحق، وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص / المقدود وليس بشيء كما لا يخفى، وجعل الله تعالى الشاهد من أهلها قيل: ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، وخص هذا بما إذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء، وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبـي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم، وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقاً أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه، وسمي شاهداً لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها، وقيل: سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص، وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها.

{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } أي من قدام يوسف عليه السلام أو من قدام القميص؛ و { إِن } شرطية، و { كَانَ } فعل الشرط وقوله سبحانه: { فَصَدَقَتْ } جواب الشرط وهو بتقدير قد، وإلا فالفاء لا تدخل في مثله، وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدا، والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده، وفي «الكشاف» ((إن الشرطية هنا نظير قولك: إن أحسنت إليَّ فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتنّ عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن عليَّ أمتن عليك)) وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ونحوه وإلا فبين (إن) الذي للاستقبال و { كَانَ } تناف قيل: وهو مبني على ما ذهب إليه البعض من أن { كَانَ } قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلاً وإلا فكل ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلاً من غير حاجة إلى التأويل، وتعقب بأنه لا بد من التأويل هٰهنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال: إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق، ويقال نظيره في الشرطية الأخرى الآتية: وإن كانت { كَانَ } مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلاً كسائر الأفعال الماضية لأن المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر، وهل هذا التأويل من باب التقدير أو من غيره؟ فيه خلاف، والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة استقباله لما بينهما من التلازم كما قيل: أي شيء يخفى؟ فقيل: ما لا يكون فليفهم، ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد بها سوءاً وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد، وهما كما يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت في دعواها أن يوسف أراد بها سوءاً { وَهُوَ مِنَ الكَـٰذِبِينَ } في دعواه أنها راودته عن نفسه.