التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
-يوسف

روح المعاني

{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص { فَكَذَّبْتَ } في دعواها { وَهُوَ مِن الصَّـٰدِقِينَ } في دعواه، والشرطيتان محكيتان: إما بقول مضمر أي شهد قائلاً أو فقال إِن كان الخ كما هو مذهب البصريين، وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال فجاز أن تعمل في الجمل كما هو مذهب الكوفيين، والإظهار في موضع الإضمار في الشرطية الثانية ليدل على الاستقلال مع رعاية زيادة الإيضاح، وجملتا { وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } .[يوسف: 26] { وهو من الصادقين } مؤكدتان لأن من قوله: { فَصَدَقَتْ } [يوسف: 26] يعلم كذبه، ومن قوله: { فَكَذَّبْتَ } يعلم صدقه، ووجه دلالة قدّ القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته، وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع، وثانيهما: أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في «الكشاف». / وتعقب ابن المنير الوجه الأول ((بأن ما قرر في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقدّ القميص غالباً الجذب لا الدفع، والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقدّ قميصه في إسراعه للفرار)) اهـ.

وأجيب عما ذكره أولاً: بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه، وعلى تقدير اتباعها له تعين القدّ من دبر لأنه أهون الجذبين، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت، وعما ذكره ثانياً: بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثاً وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال.

وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال: إن الشاهد المذكور إن كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهاناً على صدقه عليه السلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهاناً على صدق مريم، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة في الدلائل نصبها لا مناسبتها، وإن كان قريباً لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا ـ والله تعالى أعلم ـ كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن قدّ قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعاً فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، وأخرجهما مخرجاً واحداً وبنى { قَدْ } لما لم يسم فاعله في الموضعين ستراً على من قدّه، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها.

والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخير فقط والمناسبة فيها محققه، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع إلى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قدّ القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقدّه من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات، فالأولى أن يقال: يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفاً على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا: إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقاً مأموناً من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهراً بين نفعها ونفعه، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعاً كما أشير إليه وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضاً بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال: إن قوله تعالى: { { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [يوسف: 26] الخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر / عند القائل تنيزلاً للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضاً محتمل، ومن غفل عن هذا قال: لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمن أن القائل يعلم يقيناً وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلاً لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيداً ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل، وإن كان محتملاً لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق أصلاً فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك: بلغت إلى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت: إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقاً لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقاً لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه. هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول: هو طلبني مقبلاً عليّ فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول: هي الطالبة ففرت منها وتبعتني واجتذبت ثوبـي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبراً عنها لا مقبلاً عليها وعكسه على عكسه، ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال غفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكرهرحمه الله تعالى مما لا شاهد لها، وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلاً أن تقول هو طلبني مقبلاً فخلصت نفسي منه فانقدّ قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين الخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون، وبالجملة قيل: إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة: منها ما علمت ومنها ما تعلمه بأدنى التفات، ومن هنا قالوا: إن ذلك من باب اعتبار الأمارة، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس: من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وغير ذلك. وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم.

وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية { مِن قَبْلُ } و{ وَمِن دُبُرٍ } بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز وأسد، وقرأ أبو يعمر وابن أبـي إسحاق والعطاردي وأبو الزناد وآخرون { من قبل } و { من دبر } بثلاث ضمات، وقرأ الأولان والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما كقبل وبعد بعد حذف المضاف إليه ونية معناه، وتعقب ذلك أو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين، وعن ابن إسحاق أنه قرأ (من قبل) و (من دبر) بالفتح قيل: كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الجهة.