التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ
٤
-يوسف

روح المعاني

{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ } نصب بإضمار ـ اذكر ـ بناءً على تصرفها، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه، وحكى مكي أن العامل في { إِذْ } { ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3]. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون العامل فيها { نَقُصُّ } [يوسف: 3]، وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال إِذْ الخ وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي، وفي كلا الوجهين ما فيه. واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها { قَالَ يٰبُنَيَّ } [يوسف: 5] كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، ولا يخلو عن بعد، وجوز الزمخشري كونها بدلاً من { أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] على تقدير جعله مفعولاً به وهو بدل اشتمال، وأورد أنه إذا كان بدلاً من المفعول يكون الوقت مقصوصاً ولا معنى له، وأجيب بأن المراد لازمه وهو اقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول. واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصاً باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض.

هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب { { أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3] على المصدرية، وعلل ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص، وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلاً وهو المقصود بالنسبة لكان مصدراً أيضاً وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفاً نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضاً مصدراً ومفعولاً مطلقاً لسدّه مسدّ المصدر كما في قوله:

لم تغتمض عيناك ليلة أرمد

فإنهم صرحوا ـ كما في «التسهيل» و«شروحه» ـ أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية، ونقل عن الرضي أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالاً عليه إجمالاً ومتقاضياً له بوجه مّا بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبيناً لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية: إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتاً للاقتصاص.

ويوسف علم أعجمي لا عربـي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه، أو أسفه على أبيه. أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل، وإلا لانصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضاً إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول والثالث، وكذا يقال في يونس، وقرىء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجمياً وغير أعجمي قاله غير واحد لكن / في «الصحاح» أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل. وقال يونس: سمعت رؤبة يقول: أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل ا هـ. وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه، وأن الأحفش خالفه فمنه صرفه لعروض الضم للاتباع، وعلى هذا يحتمل أن يقال: إنه عربـي ومنع من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل، وكذا على قراءة الضم بناءاً على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعاً لضم أوله، وأجيب بأنه لو كان عربياً لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا التفات لذلك الاحتمال. وقرأ طلحة بن مصرف ـ يؤسف ـ بالهمز وفتح السين، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضاً فيكون فيه ست لغات.

{ لأَِبِيهِ } يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وفي «الصحيح» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" .

نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن ضوء الصباح عموداً

{ يٰأَبَتِ } أصلح يا أبـي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم إلى الإسم في آخره ولهذا قلبها هاءاً في الوقف ابن كثير وابن عامر، وخالف الباقون فأبقوها تاءاً في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت إلى التاء لما فتح ما قبلها للروم فتح ما قبل تاء التأنيث، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح، وقيل: لأن أصل { يٰأَبَتِ } يا أبتا بأن قلبت الياء ألفاً ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلاً عليها، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف كيا أبتي حتى قيل: إنه يختص بالضرورة كقوله:

يا أبتا علك أو عساكا

وقال الفراء وأبو عبيدة: وأبو حاتم: إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة، ورد بأن الموضع ليس موض ندبة، وعن قطرب أن الأصل ـ يا أبة ـ بالتنوين فحذف والنداء باب حذف، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو يا ضارباً رجلاً، وقرىء بضم التاء إجراءاً لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وأنت تعلم أن ضم المنادي المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع أن الباء التي وقعت هي عوضاً عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب. وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاءاً لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة ونسابة والأب والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض، والتاء حينئد اسم، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا يخرج عن الاسمية، وقال الكوفيون: إن التاء لمجرد التأنيث وياء الإضافة مقدرة، ويأباه عدم سماع يا أبتي في السعة، وكذا سماع فتحها على ما قيل، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت وثمت / وهي مفتوحة { إِنّى رَأَيْتُ } أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس وغيره، وكذا قوله سبحانه: { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ } [يوسف: 5] و { هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ } [يوسف: 100]، فإن مصدر رأى الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور، ولذا خطىء المتنبـي في قوله:

ورؤياك أحلى في العيون من الغمض

وذهب السهيلي وبعض اللغويين إلى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤيا ليلاً ومطلقاً، واستدل بعضهم لكون رأى حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصاً ليوسف عليه السلام، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون، والحق أنها حلمية، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه. وقرأ أبو جعفر { إني } بفتح الياء { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } وهي جريان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والفرغ ووثاب وذو الكتفين والضروح، فقد روي عن جابر أن سناناً اليهودي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال: نعم فعد صلى الله عليه وسلم ما ذكر فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وأخرج السهيلي عن الحرث بن أبـي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين وأهل الأخبار وصححه الحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال أبو زرعة وابن الجوزي: إنه منكر موضوع. وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان وغيرهما { أحد عشر } بسكون العين لتاولي الحركات وليظهر جعل الاسمين إسماً واحداً.

{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } عطف على ما قبل. وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعباً فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرماً وأسطع نوراً وأكثر نفعاً من القمر وإما لكونها أعلى مكاناً منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثير من غيرهم، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد، واستأنس له بقوله سبحانه: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآء وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس: 5] وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك.

{ رَأَيْتُهُمْ لِي سَـٰجِدِينَ } استظهر في «البحر» أن { رَأَيْتَهُمْ } تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى: { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظـٰماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [المؤمنون: 35] واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها فقال: { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } وكأنه لا يرى أن رأي الحلمية مما تتعدى إلى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفاً، ويرى أنه تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف، و { سَـٰجِدِينَ } حال عنده كما يشير إليه كلامه، والمشهور عند الجمهور أنه تتعدى إلى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصاراً. وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي إلى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف، وأنت تعلم / أن استظهره في «البحر» سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بصفة العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وءعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث. وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح.

وذهب جماعة من الفلاسفة إلى أن الكواكب أحياء ناطقة، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه على ما قيل: من رعاية الفواصل، وكانت هذه الرؤية فيما قيل: ليلة الجمعة، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها إلى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب. وقيل: سبع عشرة سنة، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، وتعبير هذه العصي لإحدى عشرة هو بعينه تعبيراً لأحد عشر كوكباً فإن كلا منهما إشارة إلى إخوته، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير إلى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية، ولا ضرورة إلى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال: إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر شيثاً إلا أن ذلك في الأول عصي وفي الثاني كواكب، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم، وعبرت الشمس بأبيه والقمر بأمه اعتباراً للمكان والمكانة. وروي ذلك عن قتادة وعن السدي أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت، والقول: بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله، وعن ابن جريج أن الشمس أمّه والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير، وقد تعبر الشمس بالملك وبالذهب وبالزوجة الجميلة، والقمر بالأمير، والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضاً.

وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤوّل على أحد سبعة عشر وجهاً، ملك أو وزير أو نديم الملك أو رئيس أو شريف أو جارية أو غلام أو أمر باطل أو وال أو عالم مفسد أو رجل معظم أو والد أو والدة أو زوجة أو بعل لها أو ولد أو عظمة، ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية، وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأى الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو خلاف الظاهر جداً ويكاد يعدّ من كلام النائم، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه.