التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
٧٢
-يوسف

روح المعاني

{ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ } ولم يقولوا سرقتموه أو سرق، وقيل: كان الظاهر أن يبادروا بالإنكار ونفي أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلباً لإكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام، وعدلوا عن ماذا سرق منكم؟ إلى ما في النظم الجليل لما ذكر آنفاً، والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الإفهام والإفصاح؛ ولذا أعاد الفعل، وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد، وقرأ أبو هريرة ومجاهد { صاع } بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء { صوع } بوزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبـي أرطبان { صوع } بضم الصاد وكلها لغات في الصاع، وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث، وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب "اللوامح"، { صواغ } بالغين المعجمة على وزن غراب أيضاً، وقرأ يحيـى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو، وقرأ زيد بن علي { صوغ } على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول، وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك.

{ وَلِمَن جَاء بِهِ } أي أتى به مطلقاً ولو من عند نفسه، وقيل: من دل على سارقه وفضحه { حِمْلُ بَعِيرٍ } أي من الطعام جُعلاً له، والحمل على ما في «مجمع البيان» بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل، وكأنه أشار إلى ما ذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن.

واستدل بذلك كما في "الهداية وشروحها" على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأنه مناديه علق الالتزام/ بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجىء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه السلام، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار، وأورد عليه أمران الأول: ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه. الثاني: أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة. وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير: إن الملك قال: لمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم فيكون ضامناً عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة. وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له، وإضافتها إلى سبب الوجوب، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر.

وفي كتاب "الأحكام" [للجصاص] أنه روي عن عطاء الخراساني { زَعِيمٌ } بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله: { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع، وهذا أصل في جواز قول القائل: من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة وإن لم يشارط رجلاً بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في "السير الكبير"، ولعل حمل البعير كان قدراً معلوماً، فلا يقال: إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين.

وقال الإمام: ((إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "الزعيم غارم" وليست كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة. ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم))، وتعقب بأنه لا دليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله.