التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
-يوسف

روح المعاني

{ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ } أي يئسوا من يوسف عليه السلام وإجابته لهم إلى مرادهم، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في «البحر»، وقال غير واحد: إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأساً كاملاً لأن المطلوب المرغوب مبالغ في تحصيله، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه، ومن تسميته ذلك ظلماً بقوله: { { إِنَّـا إِذًا لَّظَـٰلِمُونَ } [يوسف:79]. وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل غضباً وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال: أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير: قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده، وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ فقالوا: ما مسك أحد منا فقال: لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة قال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا: { { يا أيها ٱلْعَزِيزُ } [يوسف: 78] الخ، ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين. وجوز بعضهم كون ضمير { مِنْهُ } لبنيامين، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ { استأيسوا } من أيس مقلوب يئس، ودليل القلب على ما في «البحر» عدم انقلاب ياء أيس ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحاصل المعنى لما انقطع طمعهم بالكلية.

{ خَلَصُواْ } انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس. وقول الزجاج: انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر { نَجِيّاً } أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلاً من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير بمعنى معاشر، أي مناج بعضهم بعضاً فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد:

وشهدت أنجية الخلافة عاليا كعبـي وارادف الملوك شهود

وأنشد الجوهري:

إني إذاً ما القول كانوا أنجيه واضطربوا مثل اضطراب الأرشيه
هنـاك أوصينـي ولا توصـي بيـه

وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كغني وأغنياء.

{ قَالَ كَبِيرُهُمْ } أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة، أو كبيرهم في العقل وهو يهوذا قاله وهب والكلبـي، وعن محمد بن إسحق أنه لاوى { أَلَمْ تَعْلَمُواْ } كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكراً عليهم: { أَلَمْ تَعْلَمُواْ }. { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ ٱللَّهِ } عهداً يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه ـ فمن ـ ابتدائية { وَمِن قَبْلُ } أي من قبل هذا، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: { مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم. و { مَا } مزيدة والجملة حالية، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها، وجوز أن تكون { مَا } مصدرية ومحل المصدر النصب عطفاً على مفعول { تَعْلَمُواْ } أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقاً عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام، وأورد عليه أمران: الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصاً بالظرف المتوسع فيه، وقيل:/ بجواز العطف على اسم { أن } ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبراً له فهو { فِى يُوسُفَ } أو { مِن قَبْلُ } على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل.

واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعاً في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفاد الثاني. وفيه أيضاً ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبراً ولا صلة ولا صفة ولا حالاً وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول: يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد، وأجاب عند في «الدر المصون» بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه كما في الآية الكريمة، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضيّ فدل على أن الامتناع ليس معللاً بما ذكر.

وقال الشهاب: أن ما ذكروه ليس متفقاً عليه فقد قال الإمام المرزوقي في "شرح الحماسة": إنها تقع صفات وأخباراً وصلات وأحوالاً ونقل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافاً والمشهور أنها معارف، وقال بعضهم: نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في «شرح التسهيل». والفاضل صاحب "الدر" سلك مسلكاً حسناً وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوماً مدلولاً عليه بأن يكون مخصوصاً معيناً صح الإخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الإخبار ونحوه إذ ما شيء إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الإخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة، ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضيّ مع أن كلام الرضيّ غير متفق عليه انتهى، وهو كما قال تحقيق نفيس، وقيل: محل المصدر الرفع على الإبتداء والخبر { مِن قَبْلُ } وفيه البحث السابق، وقيل: { مَا } موصولة ومحلها من الإعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة { فَرَّطتُمْ } صلتها والعائد محذوف، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية. وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى: { مِن قَبْلُ } تكراراً فإن جعل خبراً يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقاً بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز، وقيل: { مَا } نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه.

{ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } مفرع على ما ذكره وذكر به، و برح تامة وتستعمل إذا كان كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم: برح الخفاء، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت { ٱلأَرْضِ } على المفعولية ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبراً عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض؛ وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جرياً على قضية الميثاق { حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِى أَبَي } / في البراح بالانصراف إليه { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِى } بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب، قال في «البحر» إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذراً له ولو الموت، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم { لِى } فيها وأخره في الثانية فليفهم { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ } إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل.