التفاسير

< >
عرض

قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٩٢
-يوسف

روح المعاني

{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ } أي لا تأنيب ولا لوم { عَلَيْكُمُ } وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للوم الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم { لا } و { عَلَيْكُمُ } متعلق بمقدر وقع خبراً، وقوله تعالى: { ٱلْيَوْمَ } متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى. وقال المرتضى: إن { ٱلْيَوْمَ } موضوع موضع الزمان كله كقوله:

اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعاً

كأنه أريد بعد اليوم، وجوز الزمخشري تعلقه ـ بتثريب ـ وتعقبه أبو حيان قائلاً: لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله ـ بعليكم ـ وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن/ معمول المصدر من تمامه، وأيضاً لو كان متعلقاً به لم يجز بناؤه لأنه حينئذٍ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معرباً منوناً، ولو قيل: الخبر محذوف و { عَلَيْكُمُ } متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في { ٱلْيَوْمَ } والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في { { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [هود: 43] أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجهاً قوياً لأن خبر { لا } إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضاً، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلاً ووقع في الحديث "لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت" باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه، وفي "التصريح" نقلاً عن "المغني" أن نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين، وأجاز البغداديون لا طالع جبلاً بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج الحديث «لا مانع» الخ. فيمكن أن يكون مبني ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين، والحديث المذكور لا يتعين ـ كما قال الدنوشري أخذاً من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس ـ حمله على ما ذكر لجواز كون اسم { لا } فيه مفرداً واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده. وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن { ٱلْيَوْمَ } في الآية معمول { عَلَيْكُمُ } ويجوز العكس، واعترض أيضاً حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه، وقيل: { عَلَيْكُمُ } بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف و { ٱلْيَوْمَ } خبر.

وجوز أيضاً كون الخبر ذاك و { ٱلْيَوْمَ } متعلقاً بقوله: { يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ } ونقل عن المرتضى أنه قال في «الدرر»: قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك، وقال ابن المنير: لو كان متعلقاً به لقطعوا بالمغفرة بإخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم: { { يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ } [يوسف: 97] وتعقب بأنه لا طائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله، على أنه يجوز أن يكون هضماً للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا فرق بين الدعاء والإخبار هنا انتهى. وقد يقال أيضاً: إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك، على أنه يجوز أن يقال: إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبـي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبـي أيضاً وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضاً إلى كونه خبراً والحكم بذلك مع أنه غيب قيل: لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذٍ وهم قد اعترفوا بها أيضاً فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد، وقيل: لأنه عليه السلام قد أوحى إليه بذلك، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على { ٱلْيَوْمَ } وهو ظاهر في عدم تعلقه ـ بيغفر ـ وهو اختيار الطبري وابن إسحاق وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم.

{ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرحِمِينَ } فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنياً على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم، وقيل: لأنه تعالى يغفر الصغائر/ والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا. ومن كرم يوسف عليه السلام ما روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام، والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والأخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن. وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبـي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك يوماً ليوسف عليه السلام إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام، فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبـي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علماً. وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال: لا يشق عليكم أن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بـي ما ينزل بكم ويكون ذلك سبباً لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعاً لفرعون وسيداً لأهله وسلطاناً على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم.