التفاسير

< >
عرض

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىۤ أَجَلٍ مُّسَـمًّـى قَالُوۤاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
١٠
-إبراهيم

روح المعاني

{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ } استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقام كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم/ ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء: { أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ } بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلاً، ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ، والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لا شك فيه، وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلاً بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والكلام على تقدير مضاف على ما قيل أي أفي وحدانية الله تعالى شك، بناء على أن المرسل إليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام، وقيل: يقدر في شأن الله ليعم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين. وقيل: يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقاً ذو شأن، وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا: أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب، وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم: { { إِنَّا كَفَرْنَا } [إبراهيم: 9] إلى آخره واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى، وقد يقال: إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على إنكار ما ذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى.

{ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم في شك منه. وفي الآية ـ كما قيل ـ إشارة إلى دليل التمانع. وجر { فَاطِرَ } على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له. وحيث كان { شَكٌّ } فاعلاً بالظرف وهو كالجزء من عامله لا يعد أجنبياً فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبـي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك. نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال: إنه لا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما { فَاطِرَ } نصباً على المدح.

ثم إنه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ما هم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل: { يَدْعُوكُمْ } أي إلى الإيمان بإرساله ايانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم { { مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } [إبراهيم: 9] { لِيَغْفِرَ لَكُمْ } بسببه، فالمدعو إليه غير المغفرة. وتقدير الإيمان لقرينة ما سبق. ويحتمل أن يكون المدعو إليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فإنه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل: يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر. وحقيقته أن الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله في "الكشف"، وهذا نظير قوله:

دعوت لما نابنـي مسوراً فلبـى فلبـي يدي مسور

/ { مّن ذُنُوبِكُمْ } أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يهدم ما قبله" أنه يرفع ما قبله مطلقاً حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى: { { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [الأحزاب: 71] بدون من، و من هنا ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة { مِنْ } فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل: هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي.

وجوز أيضاً أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعاً. ورد الإمام الأول بأن { مِنْ } لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبـي عبيدة والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال: إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي "البحر" يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعداً بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتاً عنه باقياً تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضاً على معنى أنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر واما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبـي قال: والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد { { إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38] و { مَا } للعموم سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر، ويؤيده ما روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت { { قُلْ يا عِبَادِى ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53] الآية، وقصة وحشي مشهورة، وجرح ذلك القاضي فقال: إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء منها مغفوراً، ثم قال: وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسي بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اهـ. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأخذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه؛ ولو أن أحداً سخم وجه القاضي لسخمت وجهه، وقال الزمخشري: إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي { مّن ذُنُوبِكُمْ } وفي المؤمنين { ذُنُوبَكُمْ } وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى في الميعاد بين الفريقين.

وحاصلة على ما في "الكشف" أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضاً آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضاً أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه. واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجيء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال [38] / في قوله سبحانه: { { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزمَ فيه { مِنْ } التبعيضية لإخراج المظالم لأنها غير مغفورة، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتبت على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى { مِنْ } لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون، وينافيه ما ذكره في تفسير { مّن ذُنُوبِكُمْ } في سورة نوح عليه السلام [4]؛ ومع ذا أورد عليه قوله تعالى: { { يٰقَوْمِ إِنّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [نوح: 2-4] حيث ذكرت { مِنْ } مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده { ٱتَّقَوْاْ } وقوله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ } [الصف: 10] الآية لعدم ذكر { مِنْ } مع ترتبها على الإيمان، والجواب بأنه لا ضير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر.

{ وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة، وقد مر تحقيق ذلك { قَالُواْ } استئناف كما سبق آنفاً { إِنْ أَنتُمْ } ما أنتم { إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة. والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك { تُرِيدُونَ } صفة ثانية ـ لبشر ـ حملاً على المعنى كقوله تعالى: { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [التغابن: 6] أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد { أَن تَصُدُّونَا } بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى { عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه. وقرأ طلحة { أن تصدونا } بتشديد النون، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبين الفعل أي أنه قد تصدونا، وقد جاء مثل ذلك في قوله:

علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل

والأولى أن يخرج على أن { أن } هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل: في قوله تعالى: { { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233] في قراءة الرفع حملا لها على أختها { مَا } المصدرية كما عملت { مَا } حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قوله:

أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وأن لا تشعرا أحداً

{ فَأْتُونَا بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍ } أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلاً من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أباً عن جد، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة. قال ابن عطية: إنهم استبعدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه، وقيل: بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا/ مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً. وهو خلاف الظاهر، وهذا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ما تخر له الجبال الصم أقدمهم عليه العناد والمكابرة.