التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
-إبراهيم

روح المعاني

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو { { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ } [الدخان: 10] إلى آخره، وجعله بعض الفضلاء معمولاً لأذكر محذوفاً كما قيل في شأن نظائره، وقيل: ظرف للانتقام وهو { { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } [إبراهيم: 44] بعينه ولكن له أحوال جمة يذكر/ كل مرة بعنوان مخصوص، والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له. وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدراً بقرينة السابق، وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار.

وقال الحوفي: هو متعلق ـ بمخلف ـ و { { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ } [إبراهيم: 47] جملة اعتراضية، وفيه رد لما قيل: لا يجوز تعلقه بذلك لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة، ووجهه أنها لكونها وما بعدها اعتراضاً لا يبالي بها فاصلاً. وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من { { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } [إبراهيم: 44] وهو بدل كل من كل، وتبعه بعض من منع تعلقه ـ بمخلف ـ لمكان ماله الصدر. والعجب أن العامل فيه حينئذ ـ أنذر ـ فيلزم عليه ما لزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى البدل له عامل مقدر وهو ضعيف.

وقوله تعالى: { وَالسَّمَٰوَاتُ } عطف على المرفوع أي وتبدل السمٰوات غير السمٰوات، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى: { { بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [النساء: 56] وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلت الحلقة خاتماً إذا غيرت شكلها، ومنه قوله سبحانه: { { يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ } [الفرقان: 70] والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظي وتصير مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. وتبدل السمٰوات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما هو عليه في الدنيا. وأنشد:

وما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعلم

وقال ابن الأنباري: تبدل السمٰوات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان. وأخرج ابن أبـي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسمٰوات كذلك. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: تبدل الأرض أرضاً بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة، وروي ذلك مرفوعاً أيضاً، والموقوف ـ على ما قال البيهقي ـ أصح. وقد يحمل قول الإمام كرم الله تعالى وجهه على التشبيه.

وقال الإمام: لا يبعد أن يقال المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السمٰوات جعلها الجنة، وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه، وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقاً لا خلق كلهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السمٰوات والأرض بعضاً منهما، وفيه أن هذا وإن صححه لا يقر به، والاستدلال على ذلك بقوله تعالى: { { كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلأَبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ } [المطففين: 18] وقوله سبحانه: { { كَلاَّ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ } [المطففين: 7] في غاية الغرابة من الإمام فإن في إشعار ذلك بالمقصود نظراً فضلاً عن كونه دالاً عليه. نعم جاء في بعض الآثار ما يؤيد ما قاله، فقد أخرج ابن جرير وابن أبـي حاتم عن أبـي بن كعب أنه قال في الآية: تصير السمٰوات جناناً ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الأرض كلها نار يوم القيامة؛ وجاء في تبديل الأرض/ روايات آخر. فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه. وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله. وأخرج البيهقي في "البعث" عن عكرمة كذلك. وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبـي أيوب "أن رجلاً من يهود سأل النبـي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تبدل به الأرض؟ فقال: خبزة فقال اليهودي: درمكة بأبـي أنت فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: قاتل الله تعالى يهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز" . وقد تقدم خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة وهو في "الصحيحين" من رواية أبـي سعيد الخدري مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة؛ وفريق الكفرة يكونون على نار، وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد ان لم تكن. وذكر بعضهم أنها تبدل أولاً صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدث أخبارها، ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى. وفي «صحيح مسلم» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً أن الناس يوم تبدل على الصراط، وفيه من حديث ثوبان: "أن يهودياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هم في الظلمة دون الجسر" ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمراً بالنسبة إلينا.

{ وَبَرَزُواْ } أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل، والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض. وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سراً ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك، ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها. وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم، والعطف على { تُبَدَّلُ } والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالاً من { ٱلأَرْضِ } بتقدير قد والرابط الواو. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما { وبرزوا } بضم الباء وكسر الراء مشددة، جعله مبنياً للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين { لِلَّهِ } أي لحكمه سبحانه ومجازاته { ٱلْوَاحِدِ } الذي لا شريك له { ٱلْقَهَّارِ } الغالب على كل شيء، والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لا يشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضاً تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون { يَوْمَ تُبَدَّلُ } بدلاً من { { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } [إبراهيم: 44].