التفاسير

< >
عرض

فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
-مريم

روح المعاني

{ فَكُلِي } من ذلك الرطب { وَٱشْرَبِى } من ذلك السري. وقيل: من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السري بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولاً والطعام ثانياً ثم الأكل ثالثاً والشرب رابعاً فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم / الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جارياً وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب.

والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة.

{ وَقَرّى عَيْناً } وطيبـي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك. وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجد وهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: { تَدورُ أَعْيُنُهُمْ } [الأحزاب: 19] من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قولهم قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث إنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السري برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسري من حيث إن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالاً وحالاً. وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السلام: أنا أكفيك الكلام.

{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } أي آدمياً كائناً من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روى عنه ابن الرومي. { ترئن } بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين. وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة { تريِن } بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي:

إما تَرَيْ رأسي أزرى به مأس زمان ذي انتكاس مؤوس

{ فَقُولِى } له إن استنطقك { إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه { صياماً } والمعنى واحد أي صمتاً كما في مصحف عبد الله. وقرأ به أنس بن مالك. فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة. وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبـي صلى الله عليه وسلم عنه فهو منسوخ في شرعنا كما ذكره الجصاص في كتاب «الأحكام». وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي «شرح البخاري» لابن حجر ((عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام، وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية)) لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان / قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الاطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السلام خاصة. فقد أخرج ابن أبـي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوماً لا يكلم اليوم إنسياً فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذراً لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر فإنه خير لك.

والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: { فَلَنْ أُكَلّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت أن لا تكلم إنسياً بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلاً له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة: أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: { إِنسِيّاً } دون أحداً أن المراد فلن أكلم اليوم إنسياً وإنما أكلم الملك وأناجي ربـي. وإنما أمرت عليها السلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن.