التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
-البقرة

روح المعاني

{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ } ظرف لنبذ والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والتنكير للتفخيم، وقيل: عيسى عليه السلام، وجعله مصدراً بمعنى الرسالة كما في قوله:

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى ولا أرسلتهم برسول

خلاف الظاهر { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } متعلق بـ (جاء) أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل { مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } أي من التوراة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وإخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم (ما) على العموم لتشمل جميع الكتب الإلۤهية التي نزلت قبل، وقرأ ابن أبـي عبلة: { مُصَدّقاً } بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة.

{ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام ـ كما توهمه بعضهم من اللحاق ـ لأن ـ النبذ ـ عند مجىء النبـي صلى الله عليه وسلم لا يتصور منهم، وإفراد هذا ـ النبذ ـ بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى: { { أَوْ كُلَّمَا عَـٰهَدُواْ } [البقرة: 100] الخ، لأنه معظم جناياتهم، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد ـ بالإيتاء ـ إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل، ولم يقل: فريق منهم إيذاناً بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ.

{ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } مفعول { نَبَذَ } والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن، فهذا قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ } الخ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة ـ وهو متحقق بالنسبة إليها ـ وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها، أو ما فيها من صفة النبـي صلى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة، وهم بالعكس/ يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل ـ وليس بشيء ـ وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيماً له وتهويلاً لما اجترءوا عليه من الكفر به.

{ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } جمع ـ ظهر ـ وهو معروف، ويجمع أيضاً على ـ ظهران ـ وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هٰهنا ما كان مستعملاً هناك ـ وهو النبذ وراء الظهر ـ والعرب كثيراً ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله:

تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر ـ ولا يعيى عليك جوابها

ويقولون أيضاً: جعل هذا الأمر دُبُرَ أذنه ويريدون ما تقدم.

{ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أو لا يعلمه أصلاً أو لا يعلمونه على وجه الإيقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون؛ وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغياً وحسداً، وجعل المتعلق ـ أنه نبـي صادق ـ بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: { { أَوْ كُلَّمَا عَـٰهَدُواْ } [البقرة: 100] الخ، وقوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءهُمُ } الخ بناءً على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جُلّ اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم بـ { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 100] وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: { نَبَذَ فَرِيقٌ } وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم ـ وهم الأكثرون ـ وفرقة تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها سراً؛ وهم المتجاهلون.